في اللحظة التي تلت اندلاع انفجار مرفأ بيروت، رحنا نشاهد في الصُّور أناساً يركضون مذعورين كمن في يوم الحشر، وعلى وجوههم المذعورة كمّامات.
ربّما أدرك الراكضون في الصور بعد لحظاتٍ، مثلنا نحن الذين نشاهد الأشياء من خارج المشهد، أنّ ارتداء الكمامات في مدينة تحتضر أمر عبثي.
ربّما ليس الأمر كذلك، فمن نجا من انفجار لم تمض عليه غير دقائق يحتاج، لأجل النجاة أيضاً، إلى قناعه الطبيّ المليء بالغبار، كما البشر والأشياء والمدينة، من أجل الصمود في وجه موتٍ آخر، يعرفه أكثر من هذا الذي هبَّ من المجهول في فُجاءةٍ.
وربّما لا هذا ولا ذاك، فالراكضون في طرقات بيروت الجريحة لم يحسّوا بأنّ على وجوههم أقنعة أصلاً. شيء ما لا يزال بلا تعريف لكننا نُسمّيه الاعتياد هو من جعلهم يرتدونها ويركضون مثلما ينتعلون أحذيتهم دون تفكير عادةً.
أمّا مشهد بيروت مبعثرة الأشلاء فخلاصةٌ لكلّ ما نتصوّره عن الرعب. صحيح أنّها المدينة العربية الوحيدة التي لطالما أشعرتنا أنّها مدينة أيّ أحد وعاصمة كلّ أحد، لأنّ ما تصورناه دوماً عن الحريّة وُجد فيها وجوداً طبيعيّاً، ربما لأنّها هي نفسها دعتهُ إليها معطية إيّاه الفرصة التي لم يحصل عليها في مكانٍ آخر، ولهذا فالجميع في هذا الشرق يشعرون أنّ لهم حصّةً فيها، أو أنّ لديهم موعداً معها، فهي تقترب في المخيّلة الجماعيّة ممّا تعنيه المدينة والمدنيّة. هذه الأشياء كّلها، معاً وسويّاً، هي ما يدفعنا إلى القول يائسين مُستسلمين: انتهى كلُّ شيء.
يجسّد مشهد بيروت ما بعد الانفجار صورة النهاية. ليس نهاية أحلامنا عن الحرية والمدن والحياة، ولا نهاية المنطقة العربية التي لم تعدْ تَعِد أهلها بغير الكوارث والنكبات، بل نهاية العالم نفسه.
نعم، صورة بيروت في ذروة الجائحة والثورات المقموعة في سوريا والعراق، ولبنان أيضاً، وفي ذروة الانهيار الاقتصادي والمعيشي … هي صورة نهاية العالم. ولا أعتقد أنّ هناك بلاغةً تنافس تلك السّحابة القياميّة التي تُكثِّف الأهوال التي عرفناها في ثانية واحدةٍ، لتصنع منها أفظع أشكال النهايات التي يمكن للعقل تخيّلها، ليس من حيث الدّمار والقبح والقسوة وحسب، إنّما من فظاعة شعور الإنسان أنه مساهمٌ فيها، ذلك أنّ شعوره بالعجز والضعف والتهميش الذي حكم مسيرة حياته سيُحمّله حصّة كبيرة من الذنب، لأنّه صمت ونأى وانتظر، أو لأنّه حاول ألّا يصمت وألّا ينتظر وفشل على مرأى من نفسه والآخرين.
هي نهاية فظيعة، وما من أحدٍ يراها إلّا وسيعتبرها جريمته الشخصية.
على الرغم من أنّ جائحة فيروس كورونا انطلقت من الصين، وكانت لها صولات كبرى في إيطاليا والبرازيل وغيرهما، لكنّها في كلّ مراحلها لم تقرع ناقوس النهاية بهذه القسوة إلّا في بيروت.
منذ ظهور كوفيد-19 والحديث جارٍ ومنطلق عن بدء عصر الجوائح، وعن مجيء فيروسات أخرى سوف تختار مواعيدها وأماكن ظهورها، وهذا يعني أنّ الحديث بالمجمل حديث عن بداية النهاية، لا عن النهاية نفسها، لكن بيروت قالت كلاماً آخر، وفي الحقيقة يبدو كلاماً أخيراً، نستطيع نحن أبناء هذا الشرق الذي احترف التعامل مع المصائب أن نقرأه في السحابة القياميّة، وفي شظايا المنازل وقطع الزجاج المتناثرة، وفي الدخان والغبار، وفي الدماء والصراخ والعيون المذهولة ذهول من وجد نفسه في الجحيم فجأة. نستطيع أن نقرأ ونستوعب كلّ الدلالات في ذلك، فالخراب لا يقود إلى غير الخراب، والآلام لا تتراكم سوى لتنفجرَ انفجاراً عظيماً.
ما قالته بيروت: الاستبداد لعنة، الطائفية لعنة، الفساد لعنة.
ما قالته أيضاً: إمّا طرْدُ من يقومون بكلّ ذلك وإما الحريق.
لكنّها تعرف مثلنا أنّ ذلك ليس سهلاً على الإطلاق، فحين يستشعرون نيّة الطرد، أو يلمسون أولى بشائرها، سوف يُشعلون الحريق.
الحريق في النهاية. والحريق هو النهاية.
بقاؤهم حريق ورحيلهم حريق. هذا تماماً ما هو معلن في سوريا منذ 2011: «الأسد أو نحرق البلد»، وهو كذلك ما يحدث في العراق، وما يحدث للعراق، منذ موجات الاحتجاج العام 2015، التي وصلت إلى مستوى الثورة في أواخر 2019 قبل الإجهاز عليها.
إذاً هو الحريق، الحريق والنهاية ولا شيء آخر. هذا ما يقولونه على طول أرض هذا الشرق وعرضها، وهذا ما نسمعه ليل نهار ممّن يدّعون أنّهم مطفئو حرائق، مع أنّه ما من أحد لا يعرف أنّ شعلاتِ نارٍ جاهزة في جوارهم لإعلان ساعة الصفر.
هذا ما يجعلنا نوقن أنّنا إزاء سيناريو نهاية، إذ ما من حلّ إلّا بالخراب، وما من تطهير إلّا بالموت، كي نُفسح المجال لبداية ما، لأي نوع من البدايات، كي تأتي وتقترح علينا مساراً آخر.
إنها نهاية لا تشبه النهايات الدينية المفتوحة على بدايات جديدة، أو على خلاص أخير، لكنها نهاية تنطوي على خراب ودمار حاسمين.
على أية حال، هي نهاية تشبه مخاوفنا كلنا. تشبه مرويات المتدينين وهواجس العلمانيين. تتطابق مع نبوءات العلماء لما هو آتٍ، وتخرج من أعماق قلقهم مما لا يفهمونه. إنها النهاية التي توحّد كل هؤلاء الفرقاء الذين ظنّ كلٌّ منهم أن في حوزته سيناريو الحقيقة الكاملة.
مهما بدا سيناريو القيامة واضحاً بشدّة في الجزء الذي نعيش فيه من العالم، فذلك لأنّ الاستبداد وقح وقاحة السكارى، ولا يبالي في قول ما في باطن قلبه دون وجل، في حين أنّ الأمر ذاته موجود في الأجزاء التي يقال إنّها ديمقراطية من عالمنا التعيس، لكنّهم هناك يفعلون ما يفعله مستبدونا ولصوصهم وتجارهم وشيوخهم وأبواقهم من دون أن يقدّموا الخطاب الأحمق الخاصّ بنا، ولعلّ المثال الأسطع على استبداد هؤلاء هو تلك الصور النظيفة للكوكب التي راحت تنتشر خلال فترة الحجر، حيث ظهر أمامنا نقياً وصافياً مثل رئة شخص أقلع عن التدخين من سنوات، وظهر جميلاً بما يرغم كلّ واحد منّا على التنطع للدفاع عنه. ذلك الصفاء والجمال بسبب توقف المعامل، أي توقّف عمل مشعلي حرائق النهاية. لكنّ الأمر لم يطل، وسرعان ما انتصرَ هؤلاء مرّة أخرى، حيث وضعوا الدول الكبرى أمام خيارين: الحياة أو الاقتصاد.
الحياة أو الاقتصاد؟ لعلّها أسوأ مفاضلة عرفها تاريخ الحضارات. ولعلّ الأسوأ من طرْحِها هو الأخذ بالخيار الذي ينتصر لمصلحة فئة على حساب حقّ كوكب كامل بالحياة، وعلى حساب أناس يحقّ لهم وقاية أنفسهم من المرض حتّى تلاشيه.
هكذا انتهى الحجر، وعادت المعامل تبث سمومها، وعادت سياسات النيوليبرالية تواصل التهام خير العالم، وإفقار سكّانه، دون أن تنسى طبعاً أنّ هؤلاء ذاتهم تذرعوا ببلوغ الخسائر حدوداً قصوى، فطالبوا الدول بالتعويض لهم، ثمّ ألحّوا على العودة إلى صناعاتهم وسياساتهم التي قادت العالم ليكون مكاناً مثالياً لولادة الأوبئة، إلى جانب جعله مسرحاً للقهر واللاعدالة.
ندرك جيداً أنّ العالم يسير بثقة نحو النهاية. ربّما كان العالم منذ اليوم الأوّل للوعي البشريّ عالماً على حافّة النهاية، فالإنسان وجد نفسه في مواجهة فكرة النهاية التي رآها على شكل ليل حيناً، وعلى شكل شتاء حيناً آخر، وموت الخضرة والدّفء. وكما أنّ هناك نهاراً وراء كلّ ليل، وربيعاً وراء كلّ شتاء، فإنّ هناك حياةً خلف كلّ موت.
هذا هو السياق الذي وُلدت فيه أساطير البشر الأولى حول الحياة والموت، ومن ثمّ تطوّرت في أشواط كبيرة مع قصّة مقتل الإله وانبعاثه، التي تختصر في ثقافة الشرق تاريخ محاولات الإنسان حلّ أو فهم معضلة الفناء. لكن مع استمرار إلحاح سؤال المصير البشريّ العام توجبَ على الأديان أن تأتي وتُقدّم أوراق اعتمادها من خلال فكرة القيامة الخلاصية التي تعبر بنا إلى مكان آخر، منهية بذلك الخوف من الموت بوصفه نهاية محتّمة وجعله مجرّد رحلة.
العلم مشغول بالحديث عن النهاية أيضاً، وفي جعبته سيناريوهات مخيفة ترفض دول كبرى مواجهتها، أو أخذ المسؤولية الأخلاقية تجاهها. وبدخول العلم على الخطّ فهذا يعني أنّ الخيال الدينيّ عن نهاية العالم التي لم تتحقق يستطيع أن يعاود النشاط مع نهاية لها ملامح واضحة، قابلة للتحديد والتعيين، ويمكن فهمها بدقّة من خلال البيانات والأرقام.
يقول العلم إنّ الوقت المتبقي أمامنا لإنقاذ عالمنا هو 15 سنة فقط، إذا غيرّنا فيه أنماط سلوكنا وعيشنا يمكننا الاستدراك، وإلّا فإنّها الفرصة الأخيرة التي لا عودة للوراء بعدها، إذ سوف ترتفع حرارة الكوكب، وذلك يقود إلى ذوبان الجليد في القطبين، بالتالي سوف يرتفع ماء المحيطات بما يغرق جزراً ودولاً، وسوف يصبح العالم قسمين متناقضين كالليل والنهار، كالثلج والنار، صحراء حارّة وجافّة في جنوب الأرض، بمقابل أرض رطبة باردة في شمالها.
بين أيدينا الآن 15 سنة فقط، يمكن أن نستغلها في العمل على المدّ بعمر هذا الكوكب، ونُهدي فيها للأجيال من بعدنا مكاناً يستحقّ الحياة، أو نترك كلّ شيء على حاله وندقّ مسامير نعشه.
15 سنة تتطلّب منّا تغييراً كبيراً في صناعاتنا واقتصادنا، وكذلك في حياتنا اليوميّة بما فيها من أكل وشراب ومواصلات وعمل وسفر، فالتلوث الذي يسبّبه الغاز والنفط في مختلف استعمالاتهما، وبخاصة في المواصلات والصناعة، وقطع الغابات الممطرة لأجل تأمين مساحات لتربية حيوانات من أجل تجارة اللحوم، أو حرق الغابات قصداً لأجل الحصول على تلك المساحات بقوة الأمر الواقع، إضافة إلى الأسمدة الزراعية التي تُستعمل بإفراط في الأراضي من أجل تأمين طعام الحيوانات في تجارة اللحوم أيضاً، والانبعاثات التي تصدر عن مختلف الأجهزة المنزلية التي نستعملها، كل هذا يتضافر ويزيد من خطر الاحتباس الحراري.
هذا ما نراه واضحاً وصريحاً الآن، ففي حين أنّ النهايات الكبرى جاهزة أو تكاد، ولا تحتاج إلّا لبعض الوقت كي تلعب الدور المنوط بها، ثمّة نهايات صغيرة في المقابل، تحدث داخل حياتنا الشخصية بتأثير من أختها الكبرى، وأحياناً بدافع داخليّ لا علاقة له بالخارج، والفرق بينهما أنّ الكبرى تحدث مرّة واحدةً، بشكل تدميري قيامي كامل، بينما الصغرى تحدث مراراً وتكراراً، مُعيدة نفسها دون سأم أو كلل، مُتّخذةً أوجهاً تدميرية مرةً، وأشكالاً من اليأس والإحباط، أو الانفصال عن العالم في مرّات أخرى.
كشف الحجر المنزليّ أساس العطب في الذات الإنسانية المعاصرة، فحيث إنّ البيت هو الوجه المادّي للهويّة الفرديّة، وهو أيضاً الفضاء المعنوي الأوّل لها، فإنّ نبرة الرفض للحجر، أو التذمّر منه في أحيان أخرى، إنّما جاءت من إرغام الناس على الخلوّ إلى ذواتهم التي وجدوها ناقصة، وبهذا المعنى كان الرفض أو التذمّر من الحجر ليس سوى بحث عن مهرب من مواجهة الذوات لنقصانها.
بدت تلك أيضاً نهاية الوعود الحداثية بعالم مفهوم وأفراد قادرين يعيشون بأنفسهم ولأنفسهم. كأننا اكتشفنا فجأة أننا نعيش في كوكب واحد، كجماعات لا كأفراد، وأن حدثاً في أقصى الشرق سيحدّد مصير مئات ملايين الناس ممن ظنّوا أو اقتنعوا لوهلة أنهم بعيدون، أو كأننا اكتشفنا للتو أننا أقرب من أي وقت مضى لبعضنا، وأنّ مصائرنا لا يمكن أن تنفصل حتى تحت شعارات الفردانية الحالمة.
يمثّل البيت فضاء الهوية الذاتية، لأنّ الإنسان يصنع نفسه بشكل مستقل عن الآخرين في المراحل الحاسمة من حياته، تحت تأثيرات متنوّعة من آخرين طبعاً، ليذهب فيما بعد إلى المجتمع لكي يؤثّر ويتأثّر، يُثير ويُثار، لكنّه في حال ذهابه ناقصاً، أي قبل حسمه الكامل لما يحتاج حسماً من آراء ومواقف وهواجس، فإنّ العالم الخارجيّ سوف يعطيه أقنعة وحسب، أو سوف يساعده في عملية ترقيع ذلك الاهتراء من دون أن يُقدّم له الحلّ الناجع، وذلك لأنّ الداخل، النَّفَس والبيت بالدرجة نفسها، مسرح يجيب فيه المرء عن كلّ أسئلته، ويعيش فيه مواجهات حادّة مع هواجسه ومخاوفه ورغباته، ويفتح حواراً مع ذاته لا يسعى إلى اكتشافها، واكتشاف إمكانياتها ومعرفة ركائزها وحسب، وبالتالي فإنه يسعى فيه إلى إعادة خلق ذاته في صورة يعرف تمام المعرفة أنّها ما يريد أن يكون عليه.
بعد مشقّة المواجهة التي لا تكتفي بالمراحل المبكّرة وحسب، إنّما تواصل الظهور في فترات لاحقة وإن بشكل متقطع … وبعدها ستجد ملامحك الأولى الواضحة، سوف تجد وجهك النفسيّ والداخليّ، وكما تُعرف بوجهك الخارجيّ ستُحب أن تعرف وتُعرّف بوجهك الداخليّ، وسوف تتقدّم به نحو الآخر، ومن الطبيعيّ جداً هنا أن تتوقّع مجيء الآخر المشابه لك، لأنّ نوع المواجهة التي خِيْضَت على مدار سنوات التأسيس تجعلك تستشعر الذين يشبهونك، وسوف تجد نفسك داخل دوائر تعرف أنّها تناسبك، والأهم من ذلك أنّك تعرف لماذا.
سوف يكون التفاعل مع الآخر إيجابياً للغاية، سواء مضى بك إلى الحبّ والصداقة، أو أخذك إلى العداوة. لأنّ كلّاً من هذه المعاني يحتاج إلى ذات متماسكة، صلبة البنيان، لكنْ في زمن الاستهلاك أو الزيف والوهم، وزمن العلاقات الذاهبة بقوّة نحو التشبّه بالأشياء والآلات، سوف تؤجّل المواجهات الضرورية لصالح إمضاء الوقت في تصفّح برامج التسوق، أو الغرق في الألعاب الإلكترونية، وبناء عليه سيكون اللقاء مع الآخر هذا هو بالضبط ما يصنع النهاية الذاتية، ويجعل المرء يسقط في الفراغ، مرّةً تلو مرّة، دون أن تكون هناك نهاية، فما يحدث هنا هو أسوأ أنواع النهايات، لأنّها ببساطة لا تنتهي.
في الحجر صار الجميع يشعر بالحاجة إلى الجميع، لكن الحاجة هنا غريبة نوعاً ما، الجميع يحتاج الجميع ليُخفي ضياعه الخاص في احتشادهم. الحشد غطاء لتمزّقات الذات، وتأجيل نفعيّ لمواجهة قلق الوجود، بما يسمح للإنسان أن يعود إلى منزله لكي يلتقي بنفسه لقاء سريعاً، يخبرها فيه قناعته البسيطة والمريحة أنه ليس الوحيد على هذه الحال، وذلك يكفي ليكون جواباً عن كل الأسئلة الوجودية.
أن تكون وحدك في البيت مع هذا الوقت كله، ففي ذلك إجابات دقيقة، منك لك، عمن تكون، وما هي إمكانياتك، وما الركائز التي يقوم عليها كيانك. البيت والوحدة أول عتبات تشكيل الهوية. ليأتي بعدها الخروج إلى المجتمع ذاتاً كاملة، ذات ملامح واضحة، قابلة لتأخذ وتعطي.
وإذا قلنا قبل إنّ النقصان الذي يكشفه البيت لن يكون في مُكنة الخارج ترميمه، فيمكننا أن نقول إن تصدير البيوت لكل هذا النقصان يخلق مجتمعاً مختلاً مليئاً بالثقوب.
على هذا، لم يكن المجتمع الصغير الذي بناه كلٌّ منا مرآةً تعطينا تعريفاً لأنفسنا. صحيح أن هذا المجتمع هو الذي يمنح الواحد منا هوية، لكنها هوية مزيفة، لأنها تقوم على نظرة أحادية، فأنت سيد الرقص في السهرات كما يرونك، أو خفيف الدم الساخر، أو طيب القلب الذي لا تساعده ظروفه. لكن للكورونا والحجر المرافق له رأيّاً آخر يقول إن هذا لا يكفي، فلن يكون لك أن تكون أنت ما لم تبتكر هوية خاصة في مساحتك الجوانية، وهذه لا يمكن أن تحدث إلا في المراجعات التي تجريها مع نفسك وحيدَين. أما ما دمت تحتاج إلى الآخرين لكي يعطوك مرآةً تكون تمثيلاً لما تريده من هذا الوجود، وستأتي وتزيّف معنى تلك المرآة وتسميها تجاوزاً هويةً، فها أنت حين حُبست في البيت، من دون أولئك الآخرين، لا تجد من تكون، ولا تدري ما تريد.
هكذا مثّلَ الحجر نهاية الأشياء الصغيرة، أوّلاً حين كشف عن أزمة الهوية الفردية، وعدم رغبة البشر في اكتشاف أنفسهم، وثانياً في إقصاء الآخر بوصفه شريكاً من حياتنا، والاستعاضة عنه بتحويل دوره إلى مجرّد مرآة للمتع الاستهلاكية الزائفة التي غدت كلّ ما لدينا من أنشطة منذ أفهمتنا الشركات الكبرى أن منتجاتها هي الجزء المفقود من هوياتنا الشخصية، الأمر الذي جعلنا نبتعد عن أنّ الإنسان واحد، وبالتالي عُزلت التجارب البشرية وجرى تقسيم العالم بحدود من نوع آخر يصعُب اختراقها، وتلك هي الحدود التي صنعتها أوهامنا عن بعضنا البعض.
مثّل الحجر مسباراً لاكتشاف صلابة أو هشاشة العلاقات العاطفية، أو الزوجيّة، فمنذ غابت المتع الترفيهية مع إغلاق الخارج ارتفعت نسب العنف ضدّ النساء والأطفال، الأمر الذي يعني أنّ كثيراً من الرجال، بشكلٍ خاص لأنّهم ممارسو العنف هنا، يرون في الخارج مهرباً من ورطة الحياة المشتركة، وهذا يقول إنّ متعهم ليست سوى نوع من الهروب إلى الأمام، وحين اصطادهم فخّ الحجر انكشفوا فتصدّوا لكلّ خيارات حياتهم بالعنف.
أزمات مركبة: حَجرٌ لأناس لا يريدون بعضهم البعض، وحجرٌ بين أناس يريدون بعضهم البعض.
فتح المرض عيوننا على الآلام في كلّ مكان، فإلى جانب النساء والأطفال: هناك اللاجئون الذين يعيشون في أسوأ الظروف، ويتعرّضون لأشنع أنواع المعاملة. وهناك المشردون الذين يفترشون الطرقات ليعيشوا على الأعطيات الصغيرة. هناك العمّال الذين يخسرون شغلهم عند أوّل مطبّ يمرّ فيه العالم، ويُتركون دون ضمانات.
كبّر المرض المشكلات بحيث جعلها تبدو مرئية. ومع أن الموت لا يزال أفضل مقاييس جودة الحياة، سوى أن عيوننا فُتحت واسعةً على ألم غياب العدالة حتّى في الموت الذي طالما قيل عنه إنّه الأكثر عدلاً من حيث مساواته الجميع في قبوره. أخيراً وجدنا أنّه ليس كذلك، لا سيما حين يكون نشاطه أقلّ بين من يملكون المال لأنّهم يملكون فرص العناية وشراء الدواء، وأقلّ لدى الدول التي لديها مستشفيات مجهّزة وتأمين صحّي لكلّ مواطنيها من الدول التي فشلت حتّى في بناء مستشفى.
بكلمة كورونية واحدة: الأزمنة الحديثة جعلت الموت منافقاً ومنحازاً.
ساعدنا الإنترنت كثيراً في فترة الحجر، ولم يعد ثمّة مجال لننكر، رغم دوره الكبير في مساعدتنا على الكثير من الأشياء، أنّه ساهم في تقليل الآخرين في حياتنا التي باتت تمضي دون لقاء كثير من الناس.
السؤال الذي ألحّ علينا جمعياً: ما الذي سيحصل لو أنّ الجائحة جاءت قبل عشرين سنة مثلاً؟ هل ستكون نسبة التقيّد بالسلامة أكثر ما يجعل احتمال النجاة أعلى؟ هل ستستطيع الحياة الاستمرار مع توقّف الأعمال والمؤسسات؟ أليس الأونلاين نعمة تستحق الشكر والحمد؟ ثمّ كيف سنقضي هذا الوقت الطويل المملّ؟
لا شكّ أنّ طريقة حياتنا سهّلت التعامل مع المرض، بحكم قلّة التواصل الفيزيائي، لكن ربما ما كان هذا الفيروس ليأتي أصلاً لو أنّ حياتنا ليست على هذا الشكل!
سارت الأفكار هنا من الكبير إلى الصغير، ضمن فرضية النهاية أو القيامة، حيث نعيش لحظة يتطابق فيها منطق العلم مع الرؤى الدينية، إلى درجة أنّنا أحياناً ننسى الحدود بين الأشياء فنظنّ الكتب المقدّسة خرجت بالأساس من المختبرات، أو نخال العلماء كهنة في المعابد!
يجعل السير من الكبير إلى الصغير الرواية أكثر ارتباطاً، ففي المتن الديني الإسلامي، مثلاً، تحتاج قيامةُ الساعة إلى علامات صغرى تمهّد الطريق لقدوم العلامات الكبرى. هذا صحيح ومنطقي، لكن فرضيتي البسيطة أنّ النهاية الكبرى نهاية كاملة، نهايةٌ نهائية ما من عودة بعدها، بينما النهاية الصغرى متفجّرة انفجاراً تلو انفجار، لذا تنتهي ولا تنتهي، مثلها مثل الذات الإنسانية المطبوعة على طلب المزيد والسعي إلى الأفضل، فمنذ اللحظة الأولى لوجوده في هذا الكوكب أصابت الإنسان لعنة السعي نحو الكمال. صنعَ السلاح، ثمّ البيوت، ثمّ المدن، ثمّ الحضارة، ثمّ صنعَ موتَ كلّ شيء.
يدفع كلّ صنائعه شيء واحد هو الرغبة في الأفضل والأكمل، وهو يعرف في أعماق أعماقه أنّه محكوم بنسبيته، ويعرف أنّ تصوّره للكمال بسبب ذلك تصوّر نسبيّ، وسيظل تصوّراً نسبيّاً، ولكنّ الإنسان بدون هذه النزعة المدفوعة بفقر نسبيته ليس إنساناً. هذه هي مأساته الكبرى. إنّه صانع كلّ شيء، وهو مدمّر كلّ شيء، أو واضع فكرة فناء الأشياء في أساس بنيانها. فهل عليّ أن أقول إن النهاية الصغيرة بدأت من هناك؟ من البداية؟ لا أدري!