بدأ كل شيء عندما لم أعد قادرة على تمييز الوجوه، تمر بقربي دائرية أو طويلة بعض الشيء، تحتوي ملامح كثيرة لكنها لا تعني لي شيئاً، أصرخ بأصحابها أن يضعوا أقنعة، أو يستخدموا صوتهم أو أيديهم لكي أميزهم، أن يخترعوا إيماءة مختلفة، ضحكة برنين خاص، أو أن يكتبوا أسماءهم على ورقة صغيرة وهم يقتربون مني، ولكن أيّاً منهم لم يفهم معنى أن يصير بلا وجه بالنسبة لي، ولهذا، بتحفُّظ تدريجي، انفضوا من حولي. لا تكتمل الأفكار بمرور الزمن، بل تنقص وتُفقد تماماً، وأنا أيضاً فقدت تلك الأفكار الواقية، كالوجوه. يا إلهي كم تبدو الوجوه شيئاً آمناً مثل أشجار عملاقة بمئات الأعشاش! لكني خلعتها، وأوقدت النار في خشبها رغماً عني.
مع ذلك فكل شيء حولي يذكرني بتلك الأشكال التي أعجز عن فهمها، أجلس قرب ألبوم الصور ولا أميز أحداً، ثم أسمع تأوهات كثيرة داخلي فأُسكتُها على الفور، أغلق كل شيء وأصرخ مصابة بالهلع من العالم الذي صار بين ليلة وضحاها مسكوناً بخفافيش صغيرة، من تلك الأشجار التي سقطت أوراقها فوراً. يسمونها prospagnosia، حالة لن تتمكن معها من تمييز الوجوه!
خيوطٌ رفيعة من الماء تسقط فوق جلدي وتستقر أخيراً في راحة يدي على هيئة دائرية، تستفزني، لأنها تعيدني لوجه ما. أحياناً أتعثر برسومات أطفال المدرسة التي يلقونها بعد نهاية دوامهم، أنظر إلى تلك الدوائر والملامح الفوضوية، وأتمنى لو أظلّ أتذكرها أو أن أحتفظ بها لوقت قليل، أدعوها أسماء أليفة، ثم بمجرد أن أقلب الورقة وأمتحن نفسي بمعاودة ندائها، تتشابك الملامح مجدداً، ثم أنهض وأنا أقبض على جرحي بقوة، بينما تكون الريح قد اشتدّت وبدأت تعصف بي.
عندما أتت لزيارتي وقد عرّفتني باسمها، كنت كمن يرى وجهها للمرة الأولى، كانت قد جلبت معها بروازاً صغيراً كي أحتفظ بصورتها فلا أنساها، وكانت تبكي:
– ضعيه قرب سريرك، ربما تحدث معجزة!
شددت على يدها وأنا أعيده إليها:
– أمي، لا أستطيع! ذلك لن يجدي.
في الفيلم الذي شاهدته مؤخراً، رأيت الشخصيات كلها جميلة، وعجزت عن تمييز الوجه الشرير الذي رأيته في مشهد صامت. بعد ذلك، وعندما مات أحدهم، لم أستطع أن أحدد إن كان علي أن أحزن أم لا، كنت قد رأيته في الفيلم في مشهد سابق، ولكني لا أذكر كيف ولا في أي سياق، وكنت متأثرة جداً كم تبدو الوجوه جميلة عندما نراها كل مرة للمرة الأولى!
عندما خرجنا رأيت صورة الإعلان على باب السينما، حتى الأطفال كانوا يشيرون إلى صور الأبطال ويبتسمون لأنهم باتوا يعرفونهم. فجأة شدني أحدهم:
– سيدتي، هل تذكرين ماذا كان اسم البطل؟
كتمت حزني الذي تصاعد كحوت من قاع محيط مظلم، بينما ركضت مغادرة المكان سريعاً.
كنت، بطبيعة الحال، لا أميز وجهي، لهذا كنت أنظر في المرآة عندما أكون وحدي، وأتأكد أحياناً من صورتي عندما أطابقها فقط مع شكل ظلي على الأرض، وكان محزناً للغاية أن اضطررت إلى صنع طائرة ورقية من صوري، وتركتها تحلق وتتشابك فوق الأسلاك دون أن أطرد العصافير التي تنقرها بشكل يومي.
كانت الأمهات تحتضن صور أبنائهن، والفتيات يحدقن في صور من يحبون، كنت أرى شيئاً ما في عيونهم، شيئاً يشبه السلام الذي كان يترسب في قاع أكواب مشروباتنا الساخنة، ولا نتمكن أبداً من أن نطاله بعد أن نكون قد اجترعنا مذاقاً مبتذلاً وحسب.
بينما كان الناس يخافون من الوجوه التي لا يعرفونها، كنت أنا أخاف من تلك التي من المفترض أن أعرفها وهي تقترب مني وتبتسم، تحاول أن تسرق مني ألفة، تفاعلاً ما، ولكني كنت أبتعد، أبتعد لأن خلف كل شيء يقطن احتمال بالزيف، وأنا لا أمتلك ذاكرة مثلهم كي أخدع باطمئنان.
الذاكرة وهم، أما النسيان فهو يعيد للأشياء حقيقتها، ولنا قلقنا.
ليس هناك حدث مهم في كل تلك الحياة التي لا تشبه شيئاً يستحق التوثيق، لأن لا شيء سيصل إلى الآخرين مما أعيشه، حياة مبتذلة جداً مقارنة مع حياة الجميع حولي ممن يحلمون بوجوههم ويصورون أنفسهم باستمرار، ممن يحبون ويتذكرون ويقبلون الوجوه الآمنة قربهم، ممكن ينامون ويستيقظون بأمل لأن أرضاً مزروعة بالورود على هيئة وجه ترقد بجوارهم، فيغدو الصباح ممتلئاً وناعماً، أولئك يعرفون تحديداً لمن يلوحون بالأيدي المنبثقة من شبابيك العربات المتلاحقة، أولئك يحتضنون شيئاً حقيقياً واحداً في هذا الزيف المتواصل، الجميع، ما عداي.
– هناك ما هو أعمق، ألا ترين؟
أخبرني أحدهم وهو يحفر بأصابعه عميقاً في وجهه.
– توقف!
وكان ما حدث أن قررت الرحيل للأبد.
أثناء اجتيازي للطريق، تذكرت الطائرة الورقية، وبإحساس دفين حدقت فوقي إلى الأسلاك حيث كان عصفور يمر وهو يحمل ما تبقى من آخر صورة منقورة هناك بعيداً جداً، عندما سقطت من منقاره الصغير تناولتها، وكان شيئاً مثل الحلم، لأني، ورغم عدم تمييزي لنفسي، قد أحببت تلك المرأة العادية جداً، وكان ذلك كافياً لأحث الخطى مبتعدة بسرعةٍ أكبر.