كثيراً ما سمعنا هذا الادعاء: كلما كان المرء أحمق كان أكثر سعادة، وكلما ازداد ذكاؤه أصبح أكثر حزناً وتشاؤماً.

نعرف أن هذه الأسطورة الرومانسية تهيمن منذ أعوام على فضاء المثقفين.

“صادق هدايت”، أيقونة المثقفين في إيران، أكثر من نثره القوي وروح العدمية والسخرية في نقد المجتمع، يعدُّ أكثر الأشخاص التابعين، دون إرادة منه، إلى ذلك الادعاء، حتى أصبح “الكاتب التعيس”، ولتخليد اسمه ربما يصل لانتحار تراجيدي!

علينا أن نبدأ بتفكيك المحتوى النفسي والظاهري لهذا الفضاء بجدية أكثر، إن الفضاء الفكري لمجتمعنا لا يزال أسيراً لروح “هدايت”، فنحن ما زلنا نمنح للحزن مقاماً ونعتبر الفرح خيانة!

عندما نشعر بالفرح غالباً ما يصاحبنا شعور بالذنب، وكأنما عندما تزداد درجة العلم ومقدار التحدي لدى المثقف فإن عليه حتماً أن يشعر بتأنيب الضمير، حتى أن الإفراط بالشعور بالفرح والسعادة في مجالس الاحتفالات نابع من تخلصنا من الشعور بالذنب أو التخوف من السعادة.

ومن الأسباب الأخرى التي تحفز في داخلنا الخوف من السعادة ومقاومتها قد يكون “انتحار” أحد الفنانين، سواء كان كاتباً أو شاعراً أو ممثلاً أو مترجماً، وفي اللحظة التي علينا أن نستنكر فيها هذا الفعل، نبدأ بتقديسه أو الاقتداء به!

ويصبح السؤال: لماذا يحصل المنتحر بعد موته على كل هذه الامتيازات؟

هناك إجابات كثيرة، منها جملة الأسباب السياسية أو الثقافية أو المذهبية، وهي كثيرة، وواحدة منها مرتبطة ببحثنا هذا، إنها الأسطورة التي تقدس المثقف المنتحر الذي يحمل شعار “الأكثر ذكاء أكثر حزنا”، والذي يتحول فجأة إلى أيقونة متداولة لدى الأغلبية، وبالأخص من تابع الحالة الثقافية مؤخراً، والتي تقول في خلاصتها إن فلاناً كان أكثر تعاسة وتشاؤماً منا جميعاً، ولفرط شعوره بالعدمية انتحر، وتفترض بالتالي أنه الأكثر ذكاء، ويتحول على إثرها الكاتب المبتدأ أو المترجم السيئ إلى بطل ورمز لدى الأجيال.

علينا أن نذكر أنه ليس هناك تناسق واضح ومستقيم بين الحزن والعقلانية، وحتى ولو كان هناك رابطٌ ما، فإنه سيؤدي إلى نتيجة عكسية، والشعور بالتعاسة المقلدة شيء رخيص يعكس انفعالاً منافياً للإبداع والذكاء والحكمة.

يشير الفيلسوف “باروخسبينوز” في كتابه “علم الأخلاق” بشكل مباشر إلى أن الحزن هو “شرّ” يولد تحت تأثير ذبذبات عاطفية شديدة، وهو منافٍ للعقل والمنطق.

وبتعبير آخر، يقول “هيغل”: “إن ادعاء التعاسة هو تمهيد الشخص بعدم قدرته على المواجهة، وهو هروب من الحقيقة، ووسيلة لإخفاء الضعف تجعله يلجأ إلى تفضيل “الذكي التعيس”، وفي رأيي، لو كان نيتشه حاضراً ربما كان سيقول إن التعاسة هي نموذج متأخر من “خلق العبيد””.

الكتابة عن هذا الموضوع ليست دفاعاً عن استجداء السعادة، إنما هي سعي لكسر نمطية التفكير بتفضيل التعاسة وإظهار العكس لعدم هدم الفكر العام في المجتمع.

هذا الادعاء هو خيانة مباشرة لـ “الأمل”، وتقول الأديان والمذاهب الأولى إن الفرح يعادل الخيانة، وفيه نسيان مأساة الفقراء والمساكين! المساكين ليسوا بحاجة لحزننا وبكائنا، إنهم بحاجة لذكائنا وإبداعنا وحراكنا لتغيير العالم، وليست هذه الكتابة أيضاً سخرية من حزن المكتئبين ومشكلاتهم النفسية ومعاناتهم، بل هي العكس تماماً، علماً أنني أشير إلى “كسبة التعاسة” والمرتزقة في كافة الأوساط، الذين يتباكون للحصول على غاياتهم.

في النهاية لا أستطيع أن أتناسى أن هناك نوعاً من عدم الرضا أو الحزن المرافق للبشر، لكن الفرد الطموح الحامل لمشعل الفكر المتنور عليه مواجهة التعاسة والسعي للتغيير، إذن، فإن هناك طريقان يمكن للمثقف أن يسلك إحداهما: إما الوقوف بين التعاسة والفرح، أو الغوص في عيش حياة فاعلة ونافعة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx