في كتابه «رسالة منطقية فلسفية»، يكتب الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتنغشتاين أن «حدود لغتي تعني حدود عالمي».(1) الفكرة المحورية في هذه المقولة هي أن المفاهيم والأفكار التي لا يمكن التعبير عنها لغوياً، تشكل حدود الفكر، وبالتالي حدود الآراء السائدة. تذكرتُ فيتنغشتاين أثناء ترحالي في أنحاء فلسطين بصحبة أصدقاء مكّنتني ترجمتهم السخية من اقتناص نظرة على عالم لم أفهمه بالكامل، لكنني شعرت نحوه بألفة ليس من السهل التعبير عنها بالكلمات. كانت هناك أشياء كثيرة مألوفة، وأهمها، أشكال المقاومة اليومية كالتلكؤ، والاختباء، والتظاهر بالطاعة، والصمود العنيد وغيرها، التي بدت جميعها مألوفة لدرجة مذهلة، أشبه بأسلحة من أجل الكفاح، تستخدمها مجموعات عزلاء إلى حد ما. والظروف التي تعرفت فيها على مثل أشكال المقاومة الدائمة هذه، تعود جذورها إلى الهند- مستعمرة سابقة ساهمت لغة المقاومة فيها في الماضي كما في الحاضر، في تشكيل المعايير التي سينطلق منها فكري وفهمي للعالم. ولكنني أدرك، أيضاً، أن فلسطين ليست الهند. فلكل بلد خصوصيته. وأشكال المقاومة التي يتم تصوّرها كممارسات على الأرض تتحدد وتتجسد بخصوصيات سياقات معاشة بعينها. في الواقع، بالكاد يمكننا تعميم ممارسات المقاومة اليومية على مختلف ظروف الهيمنة، لأن شكل الهيمنة يختلف من موقع اضطهاد إلى آخر. بالتالي، فإن تكتيكات المقاومة المتّبعة في الهند، أو في أي مكان آخر، ليس فقط قد لا تبدو غير ملائمة في فلسطين، وإنما استراتيجيات المقاومة التي تبدو للوهلة الأولى متشابهة قد يتضح أنها تختلف جوهرياً إذا ما تم التمحيص فيها. على الرغم من كل هذا، لم يمكنني استبعاد إحساس ما بالألفة. بأي لغة إذاً يتحدث غرباء حميميون، تساءلت.
بغض النظر عن الإحساس بالألفة، هناك أمر ينبغي قوله للتشديد على الخصوصية. نعرف جميعاً معنى أن يتم استخدامنا من أجل مكاسب الآخرين. لقد شهدنا كيف يفترس الاقتصاد النيوليبرالي المحرومين. قبالة هذه العالمية، هنالك نداءات محلية لتعريف الخصوصي ولتسميته، ولاستعادة المكان الذي نتحدث فيه بلغات مختلفة، والتأكيد عليه، ولسرد تواريخ مختلفة، بما في ذلك الاختلافات الداخلية لموقعنا في العالم. في أي لغة إذاً يمكن لغرباء حميميين أن يعبّروا عن إحساس وطيد بالتماهي يتم الشعور به بشكل فطري؟
إذا كانت الكلمات فعلاً ترسم حدود العوالم، فهل يمكنها أن تجسر بين هذه العوالم من خلال خلق إمكانية لتعاون مرتجل ولعلاقات تضامن تعترف في الآن ذاته بالألفة وبالاختلاف؟ ما نوع المعاجم التي سوف يفضي إليها فعل «الجسر» هذا؟ هل يمكن لتجربة تأليف معجم من هذا القبيل أن تترجم نشاطاً يتجسد في عوالم حية، إلى شيء أشبه بلغة هجينة للتواصل؟ هناك قوة في الهجين، لأنه جوهرياً متمرداً ومتعدياً للحدود. يتدخل «الهجين» في ممارسة السلطة ليس لمجرد الإشارة إلى استحالة هويتها، بل ليمثِّل عدم إمكانية التكهن بوجودها، إذا ما اقتبسنا عن هومي بابا.(2) إذاً، هل هو معجم هجين هو الذي سيستجيب بالكامل لعلاقات التماهي الفطرية؟ الكلمات الهجينة، نوعاً ما، هي معدات استراتيجية؛ معدات هدفها حياكة التضامن حول الأحاسيس الداخلية بالألفة، دون الانجراف إلى حالة جمعية غير متمايزة أو نحو محو الاختلاف.
فكروا، مثلاً، بالكلمة العربية «صمود»، اسم يعني التحمل أو الثبات؛ اسم تحول إلى فعل بعد العام 1967 عبر جدلية الاضطهاد وممارسة المقاومة. من منظور شخص يقاوم التقصي الأنثروبولوجي، أمكنني التقرب من ممارسة الصمود من الناحية المفاهيمية فقط. ولكن من منظور شخص غريب حميمي، فهمت على الفور أن الصمود صامت، ودؤوب، وثابت، ومتحدٍّ. فهمت أنه جودة، وصِفة، وحديقة تنمو لتتحدى كل الصعاب. كونه مفعم بالطاقة الكامنة، تخيلتُ الصمود على أنه رشيق، ومبدع ومنتج، وبالتالي مرمِّم للركام وللدمار. استوعبت أن الصمود يعيد استيعاب النفايات في العالم كقيمة في مزرعة حاكورتنا في طولكرم. أتى هذا الفهم الفطري بسهولة، لأنني وجدت أن الصمود قريب من كلمة (jugaar)، من حيث قدرة كليهما الإبداعية. في اللغة الهندية (جوغار) هي اسم. لكنها، أيضاً، صيغة لاختطاف المألوف. فهي تشير إلى حلول عملية معينة طوّرتها المجتمعات المهمشة أو المهملة من قبل جهاز الدولة في الهند. في الأساس (جوغار) تعني إعادة مبدعة لإيجاد غاية للنفايات الصناعية والحضرية. وعلى الرغم من أن (جوغار) بالمعنى الحرفي هي فعل، فإنها تعني، كذلك، موقفاً مقاوماً واستعداداً ماهراً لجعل الأمور تنجح على الرغم من كل العقبات. وأكثر من أي شيء آخر، (جوغار) هي صيغة لاقتصاد غير رسمي يعمل على مستوى العالم السفلي، بهدف إزعاج التدفق السلس للعولمة.
مع ذلك (جوغار) هي استراتيجية بحتة، وبالتالي، فعل فقط. على عكس الصمود، فإن جوغار تعمل بشكل جوهري على مستوى المادي. بإمكاني تخيّل جوغار وهي تعيش داخل الصمود، وعليه تصبح أكثر مما هي عليه في الحقيقة. بالتحديد، كونها لغة للرفض الفعال الذي يقوم بعملية تفكيك وإعادة تصنيع متكررة للذات، بهدف إنتاج حالة من رفع الإخضاع، فإن الصمود يتخطى حدود الجوغار. من جهة أخرى، كلٌّ من جوغار والصمود يتخطيان، بشكل جوهري، مفهوم بيير بورديو للهابيتوس (أو التطبع)، الذي ما زال يحدد السجالات المعاصرة حول الفعل داخل عوالم الحياة. بالنسبة لبورديو، فإن الهابيتوس (التطبع) هو عبارة عن كتلة من المعرفة الموروثة التي تدخل بشكل فطري الجسم الفاعل.(3) غير أن الرشاقة المتواصلة التي ينتجها الجوغار والصمود، وإن كانت تحت ظروف متفاوتة من النضال، تعني بالضرورة أن نوع التراكم المعرفي الذي يعتبره بورديو أمراً مفرغاً منه، شيء يصعب تراكمه. فبدلاً من ذلك، تعمل عوالم الحياة المتحولة من خلال خاصية متعنتة (عنيدة).
مرة أخرى، أي من هذا لا يجعل الجوغار –ممارسة المقاومة التي تتبعها المجتمعات المهمشة في جنوب آسيا– يشبه أو يضاهي شيئاً مثل الصمود. لكن من خلال استخدام كلمة جوغار، وجدت نفسي أخاطب تماهياً ما؛ إحساس بالألفة، شعرته بشكل فطري دون أن تكون لدي كلمات لوصفه. عدم القدرة على الكلام هي محنة مربكة.
هل يمكن للتعابير الجديدة أن تكون خياراً محتملاً من أجل الحديث في غياب كلمات جاهزة؟ مزيج من تعدد الإيقاعية (polyrhythmia) التي يصفها عالم الاجتماع الماركسي هنري لوفيفر، والجماليات الحسية-جسدية (corpothetics) التي يتحدث عنها عالم الأجناس البصري كريستوفر بيني؟
تعدد الإيقاعية هي كلمة استنبطها لوفيفر من علم الموسيقى، وتشير إلى وحدة الإيقاعات.(4) نقيضها هو التناغم أو انقسام الإيقاع وعدم انتظامه أو كسره. وفق لوفيفر، التفاعلات بين المجتمعات المتفاوتة ضمن حيز المساحات اليومية يضاهي أحد أشكال تعدد الإيقاعية. بالنسبة للعالم الاجتماعي، الذي جمعت أعماله مفاهيم معقدة للمكان، والفضاء، والتهميش، فإن تعدد الإيقاعات يصبح ليس جزءاً من الحياة الاجتماعية اليومية فحسب، بل تجربة حية لتزامن المجتمع. لكن حتى بالنسبة للوفيفر، وبعد التحليل، تعدد الإيقاعية الظاهر في الحياة الاجتماعية محفوف بالمخاطر. ففي لحظة ما، قد يؤدي إلى تناغم الإيقاع، أو أسوأ من ذلك، إلى عدم انتظامه. التمييز بين الجوغار والصمود، بعبارة أخرى، وفي سياق مختلف، يمكن أن يعقِّد من عمل التضامن الاستراتيجي حتى بين الغرباء الحميميين. في المقابل، فإن تعدد الإيقاعات يوفر نوعاً ما من الجوهر الاستراتيجي الذي يكون عليه مواجهة حدوده الذاتية على الدوام، من أجل إعادة اختراع نفسه. فتعدد الإيقاعية، في النهاية، هو تجانس لإيقاعات متفاوتة.
مع عجزي عن إيجاد وصف درامي ملائم، وفي مواجهتي لحدود اللغة، تحوّلتُ إلى تعبير جديد. على عكس من تعدد الإيقاعية، كتعبير وجد له قبولاً في كل من علم الموسيقى وعلم الاجتماع، فإن الجمالية الحسية-جسدية (corpothetics) هو تعبير جديد ومرن نسبياً، أوجده عالم الأجناس البصري كريستوفر بيني.(5) في أعقاب مراقبة عملية العصيان المزدوجة للجسد وللجماليات في التصويرات السياسية المناهِضة للاستعمار التي تم تداولها في القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين في الهند، راح بيني يبحث عن مصطلح من بين مفردات تاريخ الفن وعلم الأجناس لوصف مثل ذلك الوضع، دون أن ينجح في مهمته. ظهورهما في أوروبا كمجالي تخصص في فترة ما بعد عصر التنوير الذي انشغل في إنتاج المعرفة، يعني أن كلاً من تاريخ الفن وعلم الأجناس متورطان بالكامل في بنى الاستعمار. غير أن الرابط العلاقاتي بين الجسد والجمالية التي لحظها بيني في الهند، عمل حتى تلك اللحظة خارج سجلات عقلانية عصر ما بعد التنوير، لدرجة أن صورة مناهضة الاستعمار فلتت من شِباك الرقابة البريطانية، بالتحديد لأنه لم تتوفر لدى المستعمِرين المصطلحات اللازمة لتسمية عدم الانصياع، وبالتالي لإقراره.
إذا ما مزجنا بين تعدد الإيقاعية (شكل من الجوهر الاستراتيجي) مع الجماليات الحسية-جسدية (تكتيك مقاومة يفلت من سلطة الشبكات المعلوماتية المستحوذة على السلطة)؛ إذا ما قلبنا، ولفينا، ولوينا وحنينا الكلمات، هل يمكننا أن نصل إلى بعد أكثر اكتمالاً للحيز الداخلي الذي يستطيع إعادة بناء الخارجي بشكل جذري لدرجة أن الخارجي يختفي في عملية التواصل؟ هل يمكن لهذه الكلمات أن تصنع عوالمَ (من جديد) هل يمكن للحميمية بين الغرباء أن تجد لغتها الخاصة في المستقبل، أو مجموع كلماتها العصية الخاصة بالتضامن الحسي وبالسيادة القصوى، في ما وراء بنى المعرفة والسلطة؟ هل هذا المستقبل موجود هنا فعلاً، هنا في الظرف الحاضر للكلمات التي لا يمكن السيطرة عليها، والتي تتخطى عوالمها الخاصة، لتصيغ إحساساً بالألفة يقع خارج أفق السلطة.
الملاحظات
- فيتجنشتاين، ل. (1922) رسالة منطقية فلسفية. لندن: بول جيكان، ترنتش، تربنر، وشركائهم.
- بابا، ه. (1994) موقع الثقافة. أوكسون: راوتليدج.
- بورديو، ب. (1980) منطق الممارسة. ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد.
- ليفيفر، ه. (2004) ريثماناليس: الفضاء والوقت والحياة اليومية. لندن: بلومزبري.
- بيني، ك. (2004) صور الآلهة: الصور المطبوعة والنضال السياسي في الهند. لندن: ريآكشن.