ظهرت في السنوات الأخيرة العديد من التجارب الموسيقية الإلكترونية لفنانين عرب، ففي ساحة الموسيقى التجارية تزايد ظهور الموسيقى الإلكترونية في إنتاجات معظم نجوم الموسيقى، ولكن الموسيقى الإلكترونية ظهرت وكأنها أصوات مقحمة على خلفية الأغنية العربية، شأنها شأن أي “موضة” موسيقية تنتشر في العالم، كانفرادات الجيتار الإلكتروني على سبيل المثال. لم يتغير شيء في شكل الأغنية أو قالبها، ولا حتى طريقة الغناء أو فلسفة التلحين، كل ما في الأمر أن الخلفية تبدلت من أصوات آلات حية إلى أصوات إلكترونية. لا أنكر أن بعض الأغاني خرجت في النهاية بشكل جميل ومُرْضٍ إلى حدٍّ ما، إلا أن تمسك المنتجين العرب بإنتاج نفس النمط الغنائي لا يمكن اعتباره سوى حالة من الشلل والتحجر الموسيقي، وباعتقادي لن تضيف هذه الأغاني سوى مزيد من الانغلاق والانحصار الثقافي الموسيقي للمستمع العربي، خصوصاً في ظل حالة الاحتكار الفني والسيطرة السوقية لكبرى الشركات.
ولكن هنالك جانب مشرق من الحكاية، فالفضاء الافتراضي والنشر الإلكتروني سمح للتجارب غير التجارية وغير الاعتيادية بالظهور، وأتيح لنا الاطلاع على إنتاجات جديدة للفنانين المستقلين العرب من مختلف الأقطار، بتجاربهم المتعددة في أنماط مختلفة من الموسيقى الإلكترونية. إلا أن من الملاحظ أن معظم المهتمين بالموسيقى الإلكترونية يقدمون موسيقى خالية من الكلمات، أو أن موسيقاهم تكون مجرد خلفيات لأغنيات راب، وذلك، في اعتقادي، يعود إلى أن معظم فناني الموسيقى الإلكترونية المستقلين تنقصهم المعرفة الموسيقية بالسلالم أو المقامات، وانعكس ذلك على تكرر ظهور خواص موسيقية معينة في الإنتاج الإلكتروني الحر، مثل المقطوعات الإيقاعية البحتة الخالية من النغم، أو المقطوعات القائمة على استخدام العينات الصوتية، أو بعض التجارب التجريدية، وفي محصلة ذلك، شح الأغاني – بالشكل الطبيعي المعتاد المعتمد على الغناء- وسيطرة تجارب الـ DJ كرافد رئيسي للتجربة العربية الإلكترونية. لا أريد أن يفهم أحد أنني أقلل من أهمية فن الـ DJ، فهو فن موسيقي جميل ومهم وذو شعبية واسعة على مستوى العالم، إلا أن هذا الفن ليس عملية تأليف موسيقيّة فعليّة، بل إعادة موضعة الجمل الموسيقية في إطار إلكتروني، أو مزج مجموعات من الأغاني بطريقة متناغمة، لذلك فهي، من وجهة نظري، مستثنية من تقييم الإنتاج الغنائي والموسيقي.
على الرغم من هذا الضعف في الإنتاج الإلكتروني وانحصار أنواعه، ظهرت بعض التجارب الممتعة والنوعية، منها تجربتان فريدتان للغاية، واحدة من الشرق وأخرى من الغرب، أود الحديث عنها.
هالو، سايكليبو Hello, Psychaleppo، وهو الاسم المستعار للفنان السوري سامر صائم الدهر، الذي يدمج في أعماله بين موسيقى عربية تقليدية وبين أنماط إلكترونية مختلفة (dubstep, drum & bass, electro, trip-hop). ألبومان صدرا لهذا الفنان والمنتج المستقل حتى الآن، وتتميز موسيقاه بطاقة عالية واستخدام متكرر وذكي للأصوات المنشارية، وتغلب على أعماله اقتطاعات من أغنيات كلاسيكية (أم كلثوم، عبد الحليم حافظ) أو أغنيات تراثية. ورغم الأصوات الإلكترونية، إلا أن الروح الشرقية تترك بصمتها بعمق في الألحان، في حين يؤدي الإيقاع الإلكتروني القوي والمؤثرات المضافة دورهما في الحفاظ على الطاقة المتفجرة في اللحن بين الحين والآخر. وإجمالاً، فإن العمل مميز في المؤثرات وفي التوزيع، في الطاقة الحركية وتمازجها الموفق. في ألبومه الثاني، تطورت أعماله الموسيقية كثيراً، وتصدرت إيقاعات الـ Dub-step والمؤثرات الموسيقية المعدنية، كما ظهر تطور واضح في البناء الموسيقي عن الألبوم الأول، مميزاً ببناء طويل للأغنية مع عديد من التغييرات وتعدد الصعود والهبوط في جسم المقطوعة. أعمال Hello Psychaleppo تستخدم فيها تقنيات الـ DJ ومؤثراته، إلا أن التركيبة الكاملة للأعمال يمكن اعتبارها مقطوعات مؤلفة وليس إعادة توزيع.
والتجربة الثانية هي نردستان – N3rdistan، وهو اسم مجموعة موسيقية أسسها وليد بنسليم ووداد بروكو، وهما مغنيا راب مغربيّان مهاجران في فرنسا، يرافقهما بنجامين كوسيارا، عازف فلوت وآلات أخرى، إضافة إلى عازف الدرمز Cyril Canerie. ما يميز هذه المجموعة الفنية استخدامها للنصوص الشعرية العربية القديمة، مثل المتنبي والأصمعي، والنصوص الشعرية الحديثة، مثل نزار قباني ومحمود درويش وأحمد مطر، وغناءها على طريقة الراب. أما موسيقيّا،ً فالمجموعة تقدم مزيجاً غير معتاداً من الآلات الحية والراب والموسيقى الإلكترونية بأنماط عدة. أجمل ما تقدمه المجموعة الأداء المسرحي المدعّم بقوة الأبيات الشعرية مع سرعة موسيقى الراب، والتي ولدت معاً توليفة جديدة وموسيقى زخمة ورسالة ثورية. لم تصدر المجموعة ألبوماً كاملاً حتى الآن، وتكتفي بفيديو وحيد ومجموعة أداءات حية على بعض المسارح، هذه العروض القليلة فيها حيوية وطاقة عاليتين بالشعر وطريقة الإلقاء والأداء المسرحي، وهو نوع مختلف من الموسيقى الغنائية، لا هي راب و لا غناء ولا إلقاء عادي، بل حالة مميزة مبتكرة.
المميز في هاتين التجربتين هو الإبداع في تصميم لون موسيقي خاص، لا شرقي خالص ولا غربي بحت، لون خاص قد يكون منحازاً إلى الهوية الشخصية للفنانين أنفسهم وأفكارهم الموسيقية، وهذا الإبداع تمثل في القدرة على الإقناع بنوع جديد غير مألوف، فالأذن لا تستسيغ الجديد بسهولة، وكثيراً ما تحارب الأنماط الفنية الجديدة قبل أن تقبل. الحال نفسه تواجهه الموسيقى الإلكترونية التي تحارب من محبي الموسيقى الكلاسيكية العربية على وجه التحديد. ويبدو أن الكلاسيكيين غير منتبهين إلى معضلة صيام الموسيقى الشرقية العربية عن التطور لقرون، كما يبدو أنهم لم ينتبهوا إلى مدى ارتباط التطور في شكل الأغنية العربية وتنوع آلات فرق الموسيقى (كما في الفرق التي عزفت خلف عظماء الأغنية العربية – أم كلثوم مثالاً) الذي ساد في خمسينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، والذي لم يكن إلّا نتاج محاولات تقليد للأوركسترا الغربية، وأن التطور الذي حرر الأغنية العربية من القوالب القديمة سببه مجاراة الغربيين في آليات الإنتاج التي تمخضت عن التحولات الاجتماعية في المجتمعات الغربية، والتي أدت بدورها إلى ظهور الأغنية القصيرة ذات الثلاث دقائق وتراجع المقطوعات الطويلة. فكل ما طرأ على التطور الإنتاجي والتأليفي في العقود الماضية كان نتاج مجاراة تجارب ناجحة في الموسيقى الغربية، فما الداعي من الاستمرار في محاربة الجديد؟
لا ننكر أننا (العرب) كثيراً ما “استوردنا” واقتبسنا ونقلنا من الموسيقى الغربية أنماطاً وآلات وقوالب، ولحسن الحظ أننا نجحنا في الحفاظ على اللون المميز لموسيقانا الشرقية حتى اللحظة. هذا الأمر يحسب لنا لا علينا، ويمكن توظيفه في خدمة الموسيقى الشرقية لا ضدها. في هذا المثال، طور بعض الفنانين أشكال الإنتاج الموسيقي العربي وأخرجوها من الإطار الكلاسيكي التجاري، دون نسخ التجربة الغربية الحديثة، فمنحونا متعة الاستماع لموسيقى عربية مختلفة. هؤلاء هم الأجدر بالظهور على الساحة الفنية، لولا منظومات الإنتاج التجارية الاحتكارية التي تعشق السهل المتكرر، وتخاف من التجريب والابتكار.
- نُشِر هذا المقال في العدد [ التاسع والعاشر ] من المجلة