في يوليو 2019، أي منذ سنة تقريباً، أقحمني الموت -لأول مرة واعياً- في تجربة الفقد. هكذا، فجأةً، ببساطة، بهدوء، وبتخفٍّ تام، أنهى الموت صراع أبي الطويل مع سكاكين السرطان. لحظة الخبر، ليلاً، وصلت طعنة الموت في أعمق رقاقة في وعيي، طبقة لا أعرفها ولا أستطيع الإحساس بها. لقد بدت ردة فعلي المباشرة بعد معرفتي بالخبر منسجمةً مع ما حضّرتني له قراءاتي في الأدب والفلسفة وعلم النفس عن الفقد: التقبل. لكن كل هذه الصلابة تبخرت مع شروق الشمس.
لم تصعقني صدمة الفقد عندما تلقيت الخبر، بل كل ما تبع ذلك من غسيل، ووداع، وصلاة، وجنازة، ودفن، وعزاء. تملكني الحقد على الحياة وقتها، والحقد، بالضرورة، على الأحياء، أكثر من حقدي على الموت. لقد فاتتني بديهية أن كل ما قرأته عن الفقد، يستحيل أن يكون قد كُتب لحظة مرور كاتبها بالمراسم التي تلي موت شخص مقرب. سيبقى الموت ومراسمه، ببساطة، سراً غير مدوّن، هكذا للأبد.
لم أكن «أتفاعل» مع عائلة ممتدة ولا متقلصة، ولا أصدقاء مقربين أو مبعدين، إلا نادراً. لقد كان حقدي حقداً هادئاً في ظاهره، قادني إلى العزلة بدلاً من أن ينهي العالم. وما إن بدأ هذا الحقد يتلاشى -دون سيطرة، تماماً كما جاء- تكفلت ظروف حياتي بعدها بأن تكون سبباً لاستمرار هذه العزلة. لم يكن تواصلي الإنساني مع أي شخص تقريباً إلا من وراء جدران السوشيال ميديا أو العمل والنشاط الاجتماعي أو الجامعة.
نزلت تدريجياً من رغبتي في انتهاء العالم إلى رغبتي في أن يتوقف العالم قليلاً، نعم، العالم كله وليس عالمي فقط. لقد تمنيت ذلك كل يوم، حيث كنتُ أصارع الفقد والحياة في آنٍ واحد. وفجأة، بدأ فايروس كورونا كوفيد-19 يهز العالم، ويجبره على التوقف! ما أروعها من هدية!
أُعلنت حالة الطوارئ بسبب وصول فايروس كورونا كوفيد-19 في مارس هذا العام. لقد كنتُ جاهزاً جداً لأن أبقى في البيت، أو بالأصح، في غرفتي، فهذا ما كنت أتمرن عليه، دون علم، في الأشهر السابقة. لقد منحتني كورونا فرصة لأتقن «التباعد الاجتماعي» قبل أن تصب غضبها على العالم، وتحقق أمنيتي بإيقافه. لم يكن خير التقارب الاجتماعي، في السابق، أكثر من شر التباعد الاجتماعي على أي حال بالنسبة لي.
توقفت الجامعة والمؤسسات وأماكن التلاقي، ولكن لم يتوقف الإنترنت! لم أتسرع في أن أعتب على كورونا تجاهلها انتقال التفاعل الاجتماعي بطريقة شبه كاملة إلى الإنترنت. لقد كان في أسوأ الأحوال متنفساً لإنكار العزلة، وكان بإمكاني في أي وقت أردت، إطفاؤه بلمسة واحدة! ولكن الإنترنت تحوّل رويداً رويداً إلى مرآة تُعري فيه كورونا تبعاتها.
لقد كانت كورونا في الظاهر، ولا زالت، تحجر وتخنق الناس وتُزهق الأرواح حول العالم. لكن أصبح من السخيف أن تكون كورونا مجرد صدفة وليست مجرد نتاج أنظمة الرأسمالية والديمقراطية والذكورية والعنصرية والعولمة، وبخاصة أن أسياد هذه الأنظمة من الدول هم من تأثروا أولاً وكثيراً، وأن التكنولوجيا، التي تزين هذه الدول، سرّعت من سيادة الفايروس بدلاً من أن تقضي عليه سريعاً.
جعلت كورونا العالم كله يقف على الحافة نفسها، معطيةً إياه فرصة لمراجعة أنظمته، ولكن سيصعب تبين إن كان العالم قد تعلم درسه إلا بعد انقضاء هذه المرحلة. ما يتضح الآن أن العالم بأكمله مكان خطر. بالأحرى، مزيف.
إذا كان هذا وضع العالم، فماذا عن وضع فلسطين، بلادي التي لا زالت تحت آخر احتلال في العالم. لم تزحزح كورونا سياسات الاحتلال في التعامل معنا، بل على العكس، لقد استغل هذا الاحتلال فرصة انشغال العالم، وتمادى، مع أعوانه، في تحقيق طموحاته في تثبيت وجوده كأمر واقع أكثر وأكثر! وكما هو الحال دائماً، فإن هذا الاحتلال تسبب في معاناة الفلسطينيين من آثار كورونا في جوانب مختلفة حسب أماكن وجودهم، في غزة، أو الضفة بما فيها القدس، أو أراضي 48، أو الشتات.
في غزة، حيث أعيش، لم يتزحزح الحصار أو الانقسام من مكانهما خطوة واحدة في ظل كورونا، هذا إضافة إلى الزنّانة والصواريخ التي تشتاق لزيارتنا ما بين يوم وآخر. لا أعرف لماذا كنت آمل، كما آمل دائماً، أن تحسّن كورونا شيئاً من هذه الظروف في غزة، لكن آملي خاب، كما يخيب دائماً. وحين نجحت السلطات في غزة في حجر كل من عادوا، خلال الفتح الجزئي للمعابر، مدة 21 يوماً تكفي للتأكد من عدم حمل أحد للفايروس قبل إدخاله إلى المجتمع، وثقت فعلاً أننا في غزة لن نعاني مباشرةً من ويلات الفايروس المباشرة.
لأول مرة، ظن الكثير هنا أن الحصار أخيراً يمنُّ علينا بفائدة واحدة.
وبالفعل، عادت الحياة تدريجياً داخل غزة، عادت المطاعم والمدارس والجامعات والمؤسسات إلى العمل على طبيعتها سابقاً بشكل شبه كامل، وبالطبع عاد التقارب الاجتماعي، الذي لم يلتزم به الكثير أصلاً. لكن كان هناك شعور دائم أن خطأً واحداً يحدث في سياسة الحجر قرب الحدود، سيكون أشبه بانفجار قنبلة موقوتة داخل غزة. حتى هذا التخوف بدأ يقل مع بدء العالم بتخفيف إجراءات الوقاية من الفايروس. وهنا طعنت كورونا ظهورنا … .
حدث الخطأ، صارت كورونا بيننا أخيراً في نهاية أغسطس. لم تكن تعفينا كورونا من خدمتها رفقاً بحالنا كما كنا نظن، بل إن كل ما في الأمر أننا، في الضراء كما في السراء، في آخر أولويات العالم، بل الحياة أيضاً!
لا أعرف كيف سيكون شكل الأيام القادمة. لا أريد أن أتوقع أو آمل أي شيء … لكنني أعرف أنني سأتعلق بأملٍ ما، وسأتعلق بأملٍ آخر فور ما يخيب الأمل الذي قبله، هكذا نجوت من صعوبات الحياة قبل كورونا، وهكذا سأنجو من كورونا. وإن، في أسوأ الأحوال لم أنجُ، فعلى الأقل، لن أكون حياً لأضحك على نفسي. الأمل بيتي، ويمكن لليأس أن ينال مني كما يشاء حين أموت.
لقد مر عامٌ على تجربة الفقد، وكنتُ قد نجحتُ أخيراً في تكسير جدران العزلة، كنت بدأت أستعيد شعوري بالأشياء. بالفعل. لا أريد أن أقول إنني لستُ مستعداً هذه المرة لتجربة عزلة أشد، فلقد تدربت على ذلك جيداً. ما أريد قوله أن في داخلي مخاوف. خوفٌ من أن تعود أشباح الفقد بالضراوة ذاتها تحرس عزلتي، خوف ألا أستطيع مساعدة الآخرين في مشاعرهم ومشاكلهم، خوف ألا ينجو من كورونا من ساعدني يوماً في النجاة من حياتي، خوف ألا أستطيع تقديم شيء جديد لنفسي وللعالم، خوف من أن أفشل في تحمل مسؤوليات استقلاليتي عن العش الذي فقدتُ بانيه.
توهمت، أول انتشار الفايروس بالعالم، أنني سأكون أول من يصاب بهذا الفايروس في غزة، قلت لنفسي إنني سأكون أول من يُبلي غزة، ربما انتقاماً أو ضعف ثقة بالذات، لكنني لم أكن أول المصابين فيها، والآن لا أسعى إلى أن أكون أحدهم أصلاً.
ظننت أنني لن أتمكن من التخرج والحصول على درجة البكالوريوس في علمي الاجتماع والنفس في ظل التعليم الإلكتروني، ولكنني تخرجت واستلمت شهادتي وسامحت جامعتي على حفل التخرج الذي لم أكن أرغب فيه أصلاً. ظننت أنني لن أنجر وراء دعوات الكثيرين بتعلم مهارة جديدة عبر الإنترنت، لكنني وجدتني أدخل مجالاً جديداً عبر الإنترنت وأتميز فيه. ظننت أنني لن أتمكن من كتابة حرف عن كورونا، وها أنا أكتب كل شيء … .
أحتاج الآن إلى ترتيب ما بعثرته الأيام داخلي وداخل أجهزتي الإلكترونية، وإلى الابتعاد أكثر ما يمكن عن تويتر، والاقتراب أكثر من الكتب والموسيقى والفن والفيديوهات والكلمات. وإن شعرت بالملل بعد كل هذا، سأتذكر الشمس والليل، وياسمينتي على النافذة. وربما سأرقص وأغني مع عمرو دياب في غرفتي بينما أفكر بما يمكن إنجازه في المستقبل خلال جائحة كورونا وبعدها!