أخفضنا خلال أيّام الحجر الصحيّ صوت أشيائنا الماديّة وسيّاراتنا وبنوكنا التي تنبحُ لنُلقي الأموال في فمها، فجنحَ بعضنا واهمًا إلى التفكير بأنّ حياتنا تسيرُ باتجاهاتٍ أكثر إنسانيّةً وسمائنا المضمّخة بالتلوّث تجاه النّقاء. بدت مبادرة «فناء الشّعر» التي أطلقتُها بداية الحجر، بنشرِ قصيدةٍ صباحيّة يوميّة متسقة مع هذا الإيقاع البشريّ الجديد الذي فتح قريحته فجأةً على استهلاك الفن، ديجيتاليًّا، وقراءة الكتب ومشاهدة الأفلام وفعل كلّ ما لم تُبقِ الحياة الجائعة له وقتًا يُذكر.
لم أنشر القصيدة الأولى التي اخترتها من المجموعة الشعريّة الأخيرة للشاعر الراحل أمجد ناصر «مملكة آدم» (2019) سوى رغبة لحظيّة في مشاركة قصيدةٍ ممتعة في أيّام الحجر المتباطئة، لتستمرّ بعدها القصائد بالتتابع فتتجاوز المئة قصيدة، وتتنوّع بين عربيّة ومترجمة وقديمة ومعاصرة. لكن في تسليط واضح على العربيّة المعاصرة منها. وراء هذا التسليط أسباب لا يمكن نزعها عن الواقع العربيّ المتوحّش، الذي يحتاج فيه صنّاع الشّعر أو مستهلكوه أن يشعروا بأنّ النصّ قد ينطق باسم الأشياء الحيّة التي لا تزال تتنفّس تحت الرّكام العربيّ. ثمّ، وفي انتقائي للقصائد المنقولة إلى العربيّة، شدّتني تلك التي سأجد فيها، على نحو شخصيّ، ما يشفي هذا الغليل. يقول الشاعر الهندي ك. ساتشيداناندان:
“ثمّة شجرةُ “حَمْرِيَّة”
في كلّ خطوة إلى الجنة
بأشواكها
تحاكم
كلّ قرن من تاريخ الإنسان
سَلْ عن أرقام
القتلى ومبتوري الأطراف”.
ويبدو تلقّي قصائد أخرى منتقاة بعيدًا عن صور العالم المتهالك، على أنّه هدنة من الميلانكوليا المستمرّة. إذن، في تلك أو هذه، قرأتُ الشّعرَ ونشرته كمن يبحث عن معنى واحد في كلّ شيء حوله ويجده. وشيئًا فشيئًا، بدأ صوت الشّعر بالخفوت. والأصوات التي نامت أيّام الحجر عادت إلى عهدها؛ فأصوات القتل والجريمة والاغتصاب والتحرّش والحرب صارت تُسمعُ زاحفةً إلى آذاننا عبر شاشات مواقع التواصل الاجتماعيّ. وعاد السّؤال الأزليّ إلى ذهني: ما جدوى الشّعر في الأزمان القاتمة؟ فأنا لم أستطع إرخاء العلاقة بين الشّعر وبيئته، بين خبر قتل امرأة عبر موقع «فيسبوك» وقصيدة تتلوه عن حديقةٍ غنّاء.
ما الذي سيصير إليه أمرنا بغير الشّعر؟ ما دام أمرنا سارٍ دون ما يبدو أكثر إلحاحًا منه. نظّرَ قبلنا شعراء الحداثة العربيّة والشعراء الواقعيّون في شعرهم، وفي التصاقه برفضهم السياسيّ والاجتماعيّ والتزامه بالتحرّر من الاستعمار والتخلّف. مهما رأينا في ذلك الرّبط ضرورة مرحليّة لا تتطلّبها المرحلة الآنيّة التي تنتصر للفرد مقابل الجماعة، وللصّوت المستقلّ مقابل الجوقة، فإنّ السؤال حول الأسباب الوجوديّة – الخارجة عن الزّمن – التي تدفعُ بشاعرٍ إلى الاشتباك بالسياسيّ والاجتماعيّ هو سؤال شرعيّ.
من نظرة بانوراميّة للقصيدة العربيّة الشّابة، أتلقّاها يوميًّا وأضعها في مركز عالمي وعالم من تابع قصائد «فناء الشعر»، يشعر المرء بأنّ هؤلاء الشعراء والشاعرات إنّما يشكّلون صوتًا جماعيًّا، وإن لم يقصدوا، في وجه أخبار العنف والعنصريّة والشّرّ. وأنّ الشاعر العربيّ يكتب شعرًا سيكون جزءًا من تراثه الحضاريّ. وبقدر ما يبدو أنّ قصيدته تنبع من تراثه وحسب، سيبدو لهذا العالم المتهالك بأنّ قصيدته أقرب من أيّ وقت مضى للكلّ الحضاريّ الشامل. لكن إذا لم تفهم ذلك الثقافة السائدة المتعالية التي تروّج للاستهلاك والتسطيح، وظلّت ترى بالشّعر هامشًا غير فاعل، سنظلّ نحن بدورنا نشكّك في معنى أن نكتب، وسنظلّ نبحث واهمين عن جدوى حقيقيّة أو قادرة على التغيير. بينما يحدث في غرفةٍ ما، أو في فناء خلفيّ ما، تغيير طفيفٌ وعابرٌ في مزاج أحدهم بعد قراءة قصيدة. أخشى أنّه يتوجّب علينا الاكتفاء به.