إنّه لمن دواعي فخرنا وسرورنا أن نشترك في كتاب التضامن بين السكان الأصليين: شهادات ونصوص مع مجلة 28. يُمثّل هذا الكتاب الصادر في فلسطين أولى مخرجات مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين: مواجهة القوميات الاستيطانية»، والذي عُقد في جامعة ملبورن في الفترة ما بين 6-8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.
على مدار ثلاثة أيّام مُكثّفة خِلال ربيع عام 2019، وصل إلى مدينة نارم (ملبورن) أكثر من أربعين مؤرخ وأكاديمي وفنان وناشط ومُصمّم ومهندس معماري وشاعر. جاء جميعهم من فلسطين وجزيرة السلحفاة وأوروبا والأردن، ومن كافة أنحاء أستراليا، ليناقشوا ويناظروا ويتأملوا ما يعنيه التضامن العابر للحدود Transnational Solidarity والمقاومة المناهضة للاستعمار في إطاريّ النظرية والممارسة.
تركَّزت اهتمامات المؤتمر على إعادة أواصر التضامن القائمة منذُ زمن بين الأمم الأولى في أستراليا والفلسطينيين، كما حُرِضَ أيضًا على تناول مسألة إنهاء الاستعمار كنظريةٍ قائمة على الحرية والعدالة، وصياغة الاستيلاء الصهيوني على الأصلانية بمُفرداتِ المحو، كما ارتأينا تشجيع وتمكين إنشاء علاقات جديدة، وإلى الاشتباك نقديًّا مع جميع أشكال المقاومة ضد الاستعمار بكل تمظهراته الإمبريالية والرأسمالية والنيو-كولونياليّة والقومية والنيوليبرالية، وفي كل الأماكن، من دجاب ورونج إلى القدس، ومن غزة إلى فيركسون، ومن روجآفا إلى بابوا الغربية، ومن تشياباس إلى كاناكي، ومن ستاندنك روك وحتّى حلب.
وبالنسبة لنا كمُتعاونين ومُنظِّمين للمؤتمر، كانت الأسئلة التالية محوريةً في مشروعنا: ما هي الممارسة العملية للتضامن؟ ما هي الطُرُق التي يُمكننا بها مواجهة الهرمية العرقية والإثنية والجنسية والجندرية ونبذها؟ ما هي المعرفة المُناهِضة للاستعمار؟ بينما تبدو الإجابة واضحة من الناحية النظرية؛ تأييد التحرر والعدالة، فهذه ليست إجابات كافية لتجنُّب ما يُسمّيه عالم الابستمولوجيا الفلسطيني مضَر قسيس Mudar Kassis «المقاومة غير الناضجة».
إنّ تطبيق النظرية على الممارسة يتطلّب الممارسة أوّلًا، حيث يُتيح التعلُّم وإدراك المزيد من التفاصيل للإجابة، لكنّ الاستماع يُعتبر مُهمًّا أيضًا. ومع ذلك، يواجه الكثير منا تحديات في تحديد وإنشاء البنى التحتية المُناهِضة للاستعمار والما بعد رأسمالية بسبب البنى النيوليبرالية الّتي تُقيِّدنا. إنّ عملنا كناشطين وعُلماء ومُعلمين يضعنا أمام تحديات من قِبَلِ المؤسّسات التعليمية الكُبرى التي نتقيّد بها – حتى كمُوظّفين عرضيين غير دائمين. ويُعد أفضل مثال على هذا، طريقة تنظيم المؤتمر على أراضي الوروندجيري Wurundjeri الشاسعة في الكولين الشرقية وفي بروكسل ببلجيكا، كون المنطقتين مسكونتين بأشباح الماضي والحاضر الاستعماري. خلال مداخلته في المؤتمر تحت عنوان «متحف النيكروفيليا الكولونيالية» عبّر البروفيسور غسان الحاج عن ذلك، وأكد أنّه مثلما تَحمِل الهدية روح مانحها، فإنّ الأراضي المسروقة تحمِل شبح الحروب الحدودية؛ شبح العنف هذا يتجلّى في بنية الدولة القومية الاستعمارية الاستيطانية، وهو ما بدوره يُصبح شريان حياتها.
سعينا من خِلال المؤتمر وهذه الطبعة الناتجة عنه إلى إدراك وتحدّي هذه الأشباح واختبار ما قد تبدو عليه المعرفة المُناهِضة للاستعمار من خِلال الانخراط معها التنظير لها والعمل فيها.لم تكن إقامة هذا المؤتمر مهمة سهلة، فقد واجهنا معارضة من داخل وخارج مُجتمعاتنا. في أولى أيّام المؤتمر، وجدت المُدافِعة عن حقوق الإنسان والباحثة الفلسطينية-اللبنانية جنين حوراني، والّتي كانت تعمل بوصفها جزءًا من المؤتمر، أنّ الملصقات الرسمية للمؤتمر قد شُوِّهَت بشعارات تُمثّل الأيديولوجية الصهيونية. بعضنا ضحك على الحادثة، أمّا بعضنا الآخر فقد اشتاط غضبًا. وفي ذلك، نقتبسُ تعبير الأستاذة رباب عبد الهادي، الّتي ألقت الكلمة الرئيسية في المؤتمر، مُشيرةً إلى أن ما فعله الصهاينة أثبت أنّنا حركنا المياه الراكدة. في الواقع، يُخبرنا فرانز فانون بأنّه في لحظات التصدُّع والانزلاق، يقع إنهاء الاستعمار.
اجتمع المشاركون والحضور معًا على الدوام لمتابعة كل عرض تقديمي يقدمه المشاركون أمام الجمهور الكبير المتكدس المُدرّج الجامعي، كما اجتمعوا حول أكلة فتّة أعدّتها هانا عصافيري، ولشُرب شاي حضّرته رشا تايه في باحة الجامعة، أو للرقص في مركز دراسات ما بعد الاستعمار. خلال أيام المؤتمر الثلاثة، شاهد الحضور أفلامًا في مسرح نوفا بالشراكة مع مهرجان الفيلم الفلسطيني (الذي عُرِضَ خلاله لأول مرة أفلام الأبورجيين كجزء من هذا البرنامج) وحضروا فعاليات عبر الأقمار الصناعية مع مركز ابن رشد للثقافة العربية والجمعية اليهودية الأسترالية الديمقراطية، مما أتاح للحضور فرصة تكوين صداقات عديدة، منها ما أدّى لاحقًا إلى طباعة هذا الكتاب.
وعليهِ، لم تأتِ فكرة هذا الإصدار الخاص من مجلة 28 من المؤتمر فحسب، بل جاءت بعد تعرُّفنا على مؤسس المجلة الكاتب محمود الشاعر، من خلال الكاتبة الفلسطينية والمؤرخة الفنّية عدنية شبلي، الّتي شاركت في أعمال المؤتمر. لم يكُن هذا التعارُف بادرة عفوية أو تزكية ارتجالية، بل كانت تعبيرًا عن الإيمان بنا، حيث أوضحت شبلي أنّه بإنجازنا لهذا الإصدار بأنّ محمود وفريقه في مجلة 28 هُم مثل العائلة.
يضم الكتاب مجموعة من التأمُّلات التي تتناول البنية التحتية التي تُحافظ على بنية الاستعمار الاستيطاني بمُختلف تجليّاته الجيوسياسية: وحشية الشرطة، الاحتجاز، العمارة العسكرية، وفيات السود في الحجز، تدمير البيئة، وتزييف الحقائق وادعاء المصالحة”. تتساءل هذه المقالات: كيف يُمكننا الإصلاح؟ كيف يُمكننا مُقاومة هذه القوى القمعية؟ ما هو دور التضامن في هذه العملية؟ يقوم المفكّرون الأصليون في هذا الكتاب بالتأمُّل في هذه الأسئلة للنظر في التضامن العابر للحدود كمهمّة معرفية للتعبير عن نضالاتنا وتنظيم مقاومتنا وتخيُّل مُستقبلنا. إنّ ما يربط مُكوِّنات هذا الإصدار معًا هو الاعتراف بأنّ الرعاية المُجتمعية هي مقاومة، كما كتبت آجا مونيه بأنّ «التنشئة هي المقاومة». نحنُ نسعى تجاه هذه الكلمات في هذه الطبعة.
أخيرًا، نودُّ أن نشيدُ بالشعوب الأصلية الّتي تعيش تحت الاحتلال والتي عانت طويلًا في الماضي والحاضر. إنّ مرونتها وثباتها هي ما كان دائمًا، وسيظل دائمًا، مُحفِّزنا ومُلهِمنا. كما نودُّ أن نشكُر بشكلٍ شخصي محمود الشاعر وبريانا هوف وفريق مجلة 28 والمساهمين الأعزاء والمُخلصين في هذا الإصدار وكذلك القُرّاء.