مرَّتْ 18 دقيقة، قضيتها في حوضِ الاستحمام، متكوّرٌ جسدي كجَنين. أعرفُ أنَّها 18 دقيقة، بعدد الأغاني التي مرَّت دقائقها ولم أسمع. لا أدري كيفَ انتهى الأمرُ بجسدي هنا، ككرة باردة على شقوقِ حوضِ الاستحمام؛ وبُقعِه الحمراء بعد اغتسالِ شعرِ أمّي المصبوغ. مرَّت ستّة شهورٍ على هروبي من الوقت. لا أحدِّق في شيء ما بالتحديد، أحاولُ فقطَ أن يمرَّ الوقت قربَ صدري ولا أشعر. بالمناسبة، هذه مذكّراتي عن يومٍ واحد، تكرَّر عددَ مرَّاتٍ لا يُحصى.

تذكّرتْ. قرأتُ -في مكانٍ ما- أنَّ 186 مريضاً دخلوا إلى مصحَّة نفسيَّة، جلّ ما يجمعهم هو الوقت الذي قضوه في مطار هيثرو بلندن. تُعرَف هذه المصحَّة بمعالجتها المسافرين القادمين من هيثرو القريب، منهم من وُجِدَ يتجوَّل بين بوابات المطار هائماً بلا وجهة. المسافرون القادمون من الشرق غرباً هم أكثر عرضةً للاكتئاب، بينما يعاني القادمون من الغربِ شرقاً من أعراض الاضطراب ثنائيّ القطب. تتغيَّرُ ذواتهم لأسابيع، أو حتَّى شهور، وربّما إلى الأبد. كلُّ ذلك لأنَّ التوقيتَ -المنطقة الزمنيَّة- اختلف، ولم يعدْ لديهم إدراك للنهارِ واللَّيْل.

قبلَ الستّة شهور الأخيرة، كنّا محترفي التحايل على اللَّيْل والنهار، قبل أن يلاحظَ أحدهم أنَّنا نهيم على وجوهنا بين البوابات، وصبغت أمّي -قبل أنْ يتوقَّفَ الوقتُ- جذورَ شعرها كلّما ابيضّت. تحايلنا على الوحدة والفراغ وانعدام الجدوى، تحايلاً على صدري الذي يمرّ فوقه الوقتُ فيخدشُ جلده. الآن بعدَ أنْ توقَّف تماماً، لن نستطيعَ التحايلَ عليه والهرب منه؛ أقصد الوقت.

وقفتُ في حوضِ الاستحمام، لأكتشفَ أنَّ المياه في الحوض قد هربت إلى المصرِف واختفت، وحملتُ ساقَيْ الثقيلتيْن على حافّته لأخرج منه، فأسندتني ذراعي على المغسلة. مرآة أمّي حوافها معدنيَّة ويأكلها الصدأ، ولاحظتُ أنَّ شيئاً لم يتغيَّر أبداً في منزلها، مهما اهترأ. أنا ما زلتُ أجفّف قدميْ بمنشفةِ طفولتي الخشنة، فالزمانُ لا يجري هنا، بل يمشي على مهلٍ، متجاهلاً أنَّ قدمي أصبحت سفينة.

وحين أنظرُ في مرآة أمّي، أرى صورتها عالقة مطبوعة هناك، أمامي، في حدودِ وجهي، وصوتي الرفيع، وعينيْ الضيّقتيْن، والحبّ الثقيل كالمرساة في قلبي. أبحثُ عن نفسي هنا، ولا أجدني كلّي؛ ولا أختفي كلّي، ما زالت آثارُ أقدامي على رمالِ شاطئ بعيد، ودُخان سيجارتي في سماءِ شرفةٍ أحبّها، أبعد. يتكوَّر جسدي كجنينٍ لا يكبر في حوضِها، لأنْ لا شيءَ يتغيَّرُ في منزلِ أمِّي.

صبغتُ شعري المتساقط، لأنّني أيضاً -مثل أمّي- شِبْت. آخرُ مرَّة سرّحتُه فيه، وقفتُ أمشّطه أمام المرآة -طويلاً- وأغنية واحدة تبدأ من جديدٍ كلّما انتهت. كان في الحقيقة يغنّيها مؤدٍ مبتدئ، استجمعَ شجاعته ليفشل في تقليد كريس كريستوفرسن. يحدثُ أنَّ اسمَ الأغنيَّة «نخب الأوقات الجيِّدة» أو «للسرَّاء» مثلاً، لو كان ذلك أكثر شاعريَّة. الأغنية ذاتها من جديد، تعيد:

«لا تحزن،

أعلمُ أنَّ الأمر انتهى،

لكنَّ الحياة تمضي

(…)

تظاهر بأنّك تحبّني مرَّة واحدة أخيرة

نخبَ الأوقات الجيِّدة

لا تقل كلمةً واحدة عن الغد

أو الأبد

سيكونُ هناك وقت كافٍ للحزن

حين تتركني».

لا أدري كم مرَّة دارتْ الأغنية في Loop، في حلقة، في عقدة، في حبلِ مشنقة. وبّخني أحدهم قبلَ فترة، قبل يوميْن أو خمسة، حينَ قلتُ جزافاً إنَّ الشهريْن الماضييْن مرّا بسرعة: «بسرعة؟ كانا أبطأ شهريْن في السَّنة»، وكأنّي قصدتُ الإهانة. لا أدري لِمَ قلت ذلك أصلاً، فأنا آخرُ من يتهّم الوقتَ بالجري. قبلَ أن يتوقف الزمن وتروج نكتة الغيبوبة الجماعيَّة، اعتدتُ أكلَ أظافري أمامَ طابورٍ في البنك، أو مؤسسة حكوميَّة، أو صالون الأظافر. كنتُ أتعرَّق ويعتريني القلق، بينما أرى الوقتَ الثمين أمامي «يضيع» و «يُهدَر» وأنا أتألّم. لا أدري لِمَ قلتُ ذلك، ولا كيفَ انتهى جسدي مراراً في حوضِ الاستحمام، لا أحدّق في شيء ما بالتحديد، لكنّي أعرفُ أنَّ هناك وقتاً كافياً للحزن، بعد أنْ ينتهي هذا كلّه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx