كلمة الافتتاح
حميد دباشي
«ذاعَ صيت الفلسطينيين على أنهم شعبٌ يفتعلُ مشاكل لا أساس لها ولا سبب ولا مُبرر، حتّى أنّ اسمهم صار مرادفًا لذلك. فهم لن يُغادروا كما ينبغي عليهم، ولن يقبلوا بمصير اللّاجئين الآخرين […] إنّهم يُسبِّبون المتاعب حقًا».
إدوارد سعيد، مسألة فلسطين[1]
ما المشترك بين الفلسطينيين والأمم الأولى في أستراليا؟ ما المشترك بين الفلسطينيين وسكّان أمريكا الأصليين؟ ما المشترك بينهم وبين الأمريكيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة؟ أو حتى بينهم وبين شعوب كاشمير وهونغ كونغ الّتي تنتفضُ لأجل حقوقها؟ لِمَ يجب على غير الفلسطينيين أن يكترثوا بالفلسطينيين؟ هل نُقدم جميلًا للفلسطينيين إذا أيّدنا قضيتهم؟
لا يُمكننا الإجابة على هذه الأسئلة المتشابهة استنادًا على نضالات وطنية من أجل الحرية بعينها، فقد خاضت شعوب أخرى تجارب مماثلة. ولا يمكن أن يستند التضامن حصرًا على نوعٍ من الاستجابات الثُنائية المتبادلة بين مُختلف حركات التحرر الوطني. وفي ذلك، يتعاطفُ سكان أمريكا الأصليين والأمريكيين من أصل أفريقي مع الفلسطينيين، عند رؤيتهم يخوضون المعركة نفسها. مثل هذه الحسابات المقارنة للنضالات تكون محدودة للغاية من حيث الإيمان بها، ويمكن أن تتبدَّد بعد وقت قصير، وقد تُستخدَم لتأليب شعب ضد آخر.
في مظاهرات عام 2020 في إيران، كان بعض المتظاهرين يرددون هتاف: «لا غزة ولا لبنان، أضحي بحياتي من أجل إيران»، وكأنّ الحُرية في غزة أو لبنان تأتي على حساب الحُرية في إيران! إنّ الإجابة على هذه الحجة المعيبة يجبُ أن تستند إلى فهمٍ أكثر تمسكًا بالمبادئ وأكثر هيكليةً، وفهمٍ أكثر إحاطةً بالهيمنة الاستعمارية والديكتاتوريات المحلية والانتفاضات التحرُّرية.
يُمثِّل الفلسطينيون كشفًا عن المنسيّ، تمامًا كما يُمثِّل الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين عُقدةً للاستعمار الأوروبي، والّتي تُلاحِق مُحاولتهم لطمسِ تاريخهم الدموي. يترصّد الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron، وغيره من المُحافظين على التاريخ الفرنسي العنصري، لأيِّ شخص يُذكِّرهم بتاريخهم الاستعماري. إنّهم يُنكِرون الإرهاب الذي اقترفوه طوال تاريخهم الاستعماري. ويفعلُ الإسرائيليون اليوم، ما فعله الفرنسيون في الجزائر، والبريطانيون في الهند، والبلجيكيون في الكونغو، والإسبان في أمريكا اللاتينية، وهلّم جرًا. فالصهيونية هي امتداد للمنطقِ الاستعماري الأوروبي حول العالم. لقد ظنَّ الفرنسيون أنّ لديهم كل الحق ليكونوا في الجزائر، وكذلك ظنَّ البريطانيون في الهند، والبلجيكيون في الكونغو. ظنّوا أنّ هذا حقٌ منحهم إياه الرب، ليحصدوا ويستعمروا و«يُحَضِّروا» الشعوب التي غزوها.
هل قرأتم كتاب سفن ليندكفيست أبيدوا كل الوحوش: أوديسا رجل واحد في قلب الظلام وأصول الإبادة الجماعية الأوروبية[2]من قبل؟ عليكم قراءته، إذا لم تكونوا قد فعلتم. يروي الكتاب قصة كافة أشكال الاستعمار، بما فيها إسرائيل. عليكم أيضًا قراءة كتاب آدم هوشيلد شبح الملك ليوبولد: حكاية طمع وإرهاب وبطولة في أفريقيا المُستعمَرة[3]. نحنُ بحاجة إلى إدراك شامل لكل ما حصل على هذه الأرض، في حال أردنا فهم معنى التضامن مع فلسطين. يُواجه البريطانيون والفرنسيون وبقية المستعمرين الأوروبيين اليوم، موقفًا صعبًا أمام اعترافهم بالذُعر الّذي تسبّبوا به في جميع أنحاء العالم. وحتى لأقلِّهم إجرامًا، تُشكِّل إسرائيل مصدرَ إحراج. إسرائيل بالنسبة إليهم، مسرح أفعالهم الّتي يُحاولون طمسها ودفنها في تاريخهم كيفما استطاعوا.
في ظلِّ هذا السياق العالمي الّذي تسوده إرادتيّ التغلُّب ومقاومة الهيمنة، يظهر أنّ السؤال الأهم الذي يجب أن يطرحه الفلسطينيون وغير الفلسطينيين على أنفسهم هو: ما الذي تعلّمه العالم من معركة الفلسطينيين الطويلة في مواجهة الإبادة على يد المحتل الصهيوني؟ ليست المسألة بين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، ولا بين العرب وغير العرب حتى. ثمة عرب يتعاونون مع أعدائهم الصهاينة. ثمة دول عربية مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب، لم تكترث بالفلسطينيين، وأقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وعليهِ، فإنّ الدعم والتضامن مع الشعوب الأصلية، أو الأمريكيين من أصل أفريقي، أو أيّ شعب آخر، له منطق يختلف عن الإثنية و/أو القومية.
جاءت القضية الفلسطينية والفلسطينيون كاختبار حاسم لكل حركات التحرر حول العالم، بما فيها حركة تحرر ذوي البشرة السوداء في الولايات المُتحدّة. بنى الإسرائيليون لأنفسهم دولةً عسكرية بوصفهم صهاينة، والصهيونية ليست إلا امتدادًا معاصرًا، لأكثر أشكال الاستعمار الأوروبي وحشيةً، وبالتحديد الاستعمار البريطاني. لا يُمكنك أن تعي وتُعارض وحشية أوروبا حول العالم، بينما تغض الطرف عن وحشية الصهيونية في فلسطين. لا يُمكنك أن تقرأ تاريخ الهمجية الأوروبية في العالم الجديد، أو تجارة العبيد عبر المحيط الأطلنطي، بينما تسكت عمّا يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين في وطنهم الأصلي.
دون فلسطين والقضية الفلسطينية، ستبقى قضية الأمريكيين من أصل أفريقي عالقةً في فخ آلة الدعاية الصهيونية المتواصلة، والتي أوقعت حتى أكثر المفكرين ذوي البشرة السوداء ألمعية. إذا كانت أنجيلا دافيز Angela Davis تُمثِّل اليوم أكثر الأمثلة شُهرةً عن دور القضية الفلسطينية في تحرير الأمريكيين من أصل أفريقي من النزعة العدائية، فإن تانهاسي كوتس Ta-Nehisi Coates يُمثل العكس تمامًا، ويُمثِّل بقاء مسألة تحرر ذوي البشرة السوداء واقعةً في فخ الصهيونية.
إنّ خلط كوتس المُتأخر بين مشروع الاستعمار الصهيوني والقومية الأفريقية الأمريكية المناهِضة للعنصرية، لهو أمر مُخجل في هذا الوقت وفي هذا العصر، فهو لا يزال يرى إسرائيل على أنها أُنموذجًا للتحرر! وتبدو كل كلمة ينطُق بها كوتس عن معاناة الأمريكيين من أصل أفريقي فارغةً في ضوء إعجابه بإسرائيل، وتجاهله الكامل لمعاناة ونضالات الفلسطينيين. ولا يُشكِّل فرقًا إذا كان كوتس جاهلًا أو مستفيدًا من الصهيونية، فالنتيجة في النهاية هي ذاتها. كل ما عليكم فعله هو قراءة المقال البديع لبانكج ميشارا المعنون «لماذا يحب البيض ما أكتب؟»[4]، وسترون بالتفصيل ماذا يحصل عندما تفقد قضية الأمريكيين من أصل أفريقي منطقها واتّساقها، إذا تخلّت عن القضية الفلسطينية، وانحازت إلى جانب الصهيونية. إنه أمر مروعٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
يُعد التضامن مع حركة التحرر الفلسطينية حجر أساسٍ لكل حركات التحرر الوطني الأخرى، وإشارة إلى مدى خطورة قربهم من النزعة العدائية. بالنسبة لأشخاصٍ مثل كوتس، لا وجود للفلسطينيين. يُمكنكم قراءة مديحه التمجيدي للصهيونية في مقال له بعنوان «الزنوج يغنون للصهيونية»[5]، لتعرفوا أنّ كل كتاباته تدور حول ذوي البشرة السوداء واليهود (حيث يخلط بين اليهود والصهيونية). ليس فقط الفلسطينيين، بل العالم بأسره غير موجود، إذا لا وجود لغيره ومعجبيه الصهاينة الذين يُحاول استرضائهم.
إنّ نضال الفلسطينيين من أجل التحرر هو قضية الفلسطينيين بشكلٍ رئيسي. لقد حاربوا من أجل تحررهم من الاحتلال الاستعماري وسرقة أراضيهم، وباستقلال تام عن تضامن أيّ من المستفيدين من الصهيونية. لن يؤثر أيّ من المواقف على عدالة وقوة القضية الفلسطينية، فما يهم هو ما يخبرنا به تضامن أشخاص مثل دافيز أو مستفيدين مثل كوتس، عن التشكيل الأخلاقي لهاتين الشخصيتين المشهورتين والمختلفتين اختلافًا كبيرًا. تصير فلسطين في هذه الحالة عتبة يفشلُ كوتس في الوصول إليها، وتجتازها دافيز بألوانها الجذابة، ليس لأجل فلسطين، بل لأجل قضية تحرر ذوي البشرة السوداء في الولايات المتحدة.
إنّ «المشاكل» التي يفتعلها الفلسطينيون – بصوت إدوارد سعيد الساخر والرخيم – هي مشاكل جيّدة. أتمنى ألّا يفرغ العالم من مشاكل مثل هذه، لأنها تفضح الفساد والنفاق، وتُبقي شعلة الأمل للإنسانية واضحة ومُشتعلة! لا يُقدِّم أحدٌ جميلًا بتضامنه مع القضية الفلسطينية، فكل من يتضامن معها يمتلك ميزاناً داخلياً لحقيقته وعدالة قضيته.
[1] Edward W. Said, The Question of Pale1stine (New York: Times Book, 1979).
[2] Sven Lindqvist, “Exterminate All the Brutes”: One Man’s Odyssey into the Heart of Darkness and the Origins of European Genocide, Joan Tate (trans.) (New York: The New Press, 1997).
[3] Adam Hochschild, King Leopold’s Ghost: A Story of Greed, Terror, and Heroism in Colonial Africa, Barbara Kingsolver (Foreword) (Boston: Mariner Books, 1999).
[4] Pankaj Mishra, “Why Do White People Like What I Write?,” London Review of Books, vol. 40, no. 4, 22/2/2018, accessed on 10/3/2021, at: https://bit.ly/3c8uLPB
[5] Ta-Nehisi Coates, “The Negro Sings of Zionism,” The Atlantic, 13/5/2008, accessed on 17/3/2021, at: http://bit.ly/2P2f0Aw