من مجموعته القصصية «السيد أزرق في السينما» الفائزة بجائزة القطان للكاتب الشاب ٢٠١٨
أووه، لقد نجحتَ في الخروج، إنك تعود إلى حيث كنت، لستَ بحاجة لإخفاء وجهك فلا أحد ممن يعرفونك ما زال حيًا، لقد التقيت بهم جميعًا هناك، في عالم الأموات، يا لحظك يا رجل، ها أنت تعود وحدك، من بين كل من ماتوا لم ينجح أحدٌ في الهروب سواك. امشِ في شوارعك الماضية، إنها روائح جديدة، لكنها تحمل أشياء مما سبق، هنا كنتَ يوم وقعتَ، وهناك كنتَ يوم اختبأت في هروبك، هيه يا رجل، لماذا تنظر هذه السيدة إليك هكذا؟ لا تعرفها، ولكنها نظرة متفحصة للتأكد من كونك شخصًا تعرفه هي، إنها تبلغ من العمر أربعين تقريبًا، ومنطقيًا هي لم تعش في فترتك قبل موتك، إنها تقترب منك، حاول تجنبها، اهرب فورًا، نعم اهرب، واختبئ هناك.
لقد رحلتْ، هيا اخرج، امش على مهلك، أنت متأكد من أنه لا يعرفك أحد، لقد أوصيت بحرق مؤلفاتك كلها، مات كل ما كتبته معك، اختفت أسرارك بانتهائك من حياتك الأولى، وهذا يعني أن صورتك أيضًا قد تلاشت من ذاكرات البشر، جيلك مات، وجيلٌ من بعده مات أيضًا، أنت في أمان، لكن لسببٍ ما يخبرك به حدسك، عليك أن تأخذ احتياطك. هيّا يا كافكا، فلتذهب إلى المكتبة، مكانك المفضل، اذهب واسترجع أصدقاءك القدامى، وفتّش عن جديد هذا العالم، تناول أي كتاب، اشتمّه، اشتمّه أكثر، دع الرائحة تملأك، خذ شهيقًا، واحبسه داخلك، لقد اشتقت كثيرًا لمثل هذه الرائحة، صحيح أنها صارت أخف، وملمس الكتب صار أنعم، لكنها ما تزال تحتفظ بشيء مما سبق، انظر إلى اليمين، هناك كتابٌ عتيق، امسكه، بلطفٍ يا رجل، أنت مثيرٌ للضحك، لكنَّ أحدًا لا يلومك، قبّله واحضنه، هل هذه دموع؟ ما أشدّ هيبة الكتب أمام قارئٍ حُرم منها، إنها تعيده طفلًا.
أمامك حسب الترتيب، دوستويفسكي، ديكنز، فلوبير، هيسه، ويبدو أن هذا المدعو غراس له حظوظ جيدة، لم تقرأ له، لقد ولد بعد وفاتك، دعه على القائمة، سيأتيه وقته، هناك في الجناح الآخر من المفروض أن تلتقي بتوماس مان، ستندال، ستريدنبرغ، تولستوي. هيا انطلق إليهم، لا يهم، لا يهم، انهض من تعثرك هذا، لا تستطيع، ها هو صاحب المكتبة قادمٌ نحوك ليساعدك، يمسك ذراعك، ثم يقول: «سيدي، خذ حذرك، لن تهرب الكتب، يبدو أنك تحب الطراز القديم في الملابس، هل تريد أن أساعدك؟» ، «لا تصرخ يا هذا، لا تصرخ»، «كافكا؟» ،»لا لا لست هو، لقد مات، ربما أشبهه لكنني لست هو، هل تسمح لي بالمرور إلى الجناح الآخر؟». إنه لذعرٌ كبير أن ترى عينيْ أحدٍ ما تتفحصانك، تتنقلان في معالم وجهك، هذا الوجه الذي تخاف أن تنظر إليه كل صباح، خوفًا من أي تغير طفيف، هذه الملامح التي تجبر على مرافقتها طوال اليوم. حسنًا، هذا لا يهم كثيرًا، لقد وصلتَ، حرف الـM، إنه توماس مان، ثم يخطر في بالك أنه من الممكن أن تتواجد بعض مؤلفاتك الصبيانية الأولى، لكنك تنفي هذا، من أنت ليكون اسمك على رفوف مكتبة؟ أنت لا شيء، محض إنسان كان، حاول أن يكتب، وصفق له بعض الناس، لقد كانوا حمقى، حاولت أن تصدّق أنك كاتب، لكنك أمام نفسك كنت تعي أنه ما يزال الكثير أمامك، هناك في آخر خزانة من المفروض إذا احتفظت المكتبة بشيء لك أن يكون، تقرأ فرانتس كافكا، وبجانبه أكثر من خمسة عشر كتابًا للاسم نفسه، فرانتس كافكا يتكرر أمامك، تفرك عينيك، ثم تمسكهم كمجنون، تقرأ العناوين: التحول، المحاكمة، سور الصين العظيم، في مستوطنة العقاب، رسالة إلى الوالد، الوقاد، رسائلك إلى ميلينا، لا تصدّق، تفتح الكتب، تقرأ، وتقرأ، هذه حروفك، هذه كلماتك، هذا أنت قبل موتك، تنظر إلى آخر الممر، تلاحظ أن صاحب المكتبة يحدّق بك، وهذه المرة تحدق به أنت، تود أن تسأله هل ما تراه حقيقة أم وهمًا، هل عدت إلى زمنك الحقيقي؟ هل متَّ قبل الآن أم حدث أمر لم تحسبه؟ تقفز إلى الصفحات الأخيرة من الكتب، هناك أشياء ناقصة، هذه ليست النهايات التي أردت أن تقف عندها، هناك تكملات لم تكتبها بعد، ترمي الكتب، وتسرع بالخروج من المكتبة، يحاول صاحبها أن يصدّك، لكنك ترميه بعيدًا، وتركض بحثًا عن مكتبة أخرى، وبعد عناء، تجد أن هناك الكثير من نسخ كتبك واسعة الانتشار، يصيبك صداع، أنت مصاب بالسل يا رجل، ليس عليك أن ترهق نفسك هكذا، لم يحدث شيء يستحق، بلى حدث يا رجل، تخيل وجود قراء كثيرين لك، يمسكون كتبك ويسهرون معها لياليهم، ثم عندما ينتهون منها يلعنوك، يشتموك، ويتمنون أنهم لم يقرأوا لك، صار اسمك مقترنًا بصفة التفاهة، كان يجب عليك أن تقوم بحرق كتبك بنفسك، اعتمدت على صديقك ماكس، ويبدو أنه لم يقم بما أوصيت به، خانك صديقك، طوال الوقت كنت لا تأتمن أي بشريّ، أنت تركن إلى شجرة، تجلس مفكرًا بالمصيبة حولك، حاول أن تختفي مرة أخرى، مت، أسرع بالموت، ما فادك هروبك من عالم الأموات إلا أن ترى فداحة ما فعلت يداك. أنت تجر نفسك متعبًا، تحمل وزر ما كتبتَ، تقف أمام قبرك، تقرأ: يرقد بسلام، فرانتس كافكا، تهز برأسك موافقًا، إنه سلام كامل، ترمي بنفسك في الحفرة، ثم تغفو.