- فش عندي إشي أقوله.
- بس بدي أسألك.
- اسمعي، أنا زهقت. بشكيش من إشي، ووضعي أحسن من غيري، روحي إحكي مع اللي بيعانوا، مش معي.
- بس أنا بديش أحكي عن المعاناة.
يقف سائقان قرب سيارة أبو أحمد يشربان القهوة. أسألهم بيأس إذا كان دائماً على هذه الحال.
«لا، اليوم بس»، رد أحدهما بعين فيها بريق.
اسمع أبو أحمد، هنا نحن لا نتفق. كل شخص يقول إنه على ما يرام؛ ’أنا وضعي أحسن من غيري‘ وهي ميزة عظيمة نملكها. أريد فقط أن أعرف كيف يمكن للناس عمل ذلك، تحدي الوضع ومواصلة الحياة. لست مهتمة بكيف أننا نعاني، ولكن بكيف أننا ما زلنا صامدين، وقادرين على مواصلة المسير. انظر إلى حالتك مثلاً، نصبوا حاجزاً منعك من الوصول إلى مكان عملك، فبدأت بالعمل على الحاجز.
كانت قد مضت شهور وأنا أقطع حاجز سردا للتوجه إلى عملي في بيرزيت. لكن ذات صباح، قررت التجول على الحاجز بدلاً من اعتباره مصدر بؤس علي أن أعبره بأسرع وقت ممكن. يومها، بدأ مطر خفيف بالهطول، حين استقبلتني سيارة أبو أحمد البيضاء المتآكلة والمحاطة بتاكسيات صفراء على جانب الطريق، بمشروب دافئ. وبينما أخذ أبو أحمد يصب الماء الساخن فوق كيس الشاي وعرق مريمية في كوب بلاستيكي، سألته كيف وصل به الحال إلى العمل هنا. بدا لطيفاً لكن متحفظاً بعض الشيء. - أنا ساكن بكوبر، وكنت شغال على السيارة في رام الله قدام المحكمة الشرعية، محل ما بتوقف التكاسي. في يوم كنت رايح على الشغل، لقيت الطريق مسكّر. قعدت، فأجا بعد شوي سواق من زبايني برام الله وقال لي، «أبو أحمد بدي قهوة». وهيني من وقتها لليوم. قديش بدك سكر؟
كان يوزع القهوة من باب السيارة المبنية يدوياً بينما هو جالس على كرسي مكتب أبيض دوار تم خفضه لأقصى حد. وطيلة حديثنا لم يتوقف عن أخذ الطلبيات وإعدادها للزبائن المتدفقين. نسكافيه مع كريمة، شاي، اثنان مع النعنع، كاسة يانسون. كانت الأكواب البلاستيكية بمحتوياتها الجافة المختلفة مصفوفة على رف من الفورمايكا بانتظار الماء الساخن. أبو أحمد، ثلاثة قهوة! يشغل السخان فيما هو يحرك المحتويات في الغلاية ذات اليد الطويلة، مواصلاً أخذ الطلبيات، ثم إنزال الغلاية فوق اللهيب ورفعها عنه. بعد أن وصلت الرغوة حافة الغلاية، أطفأ النار وبمهارة صبّ القهوة الداكنة، برغوتها، في أكواب بلاستيكية صغيرة. إنها مهنة مناسبة تماماً لشخص مقعد.
مع الطلبيات، تأتي، أيضاً، شكاوى الزبائن، «غلا كثير، ندفع عشرين من نابلس، وهلق بدهم كمان خمستعش لنوصل أريحا». «الدور بطيء كثير، رح يشيب شعر راسي قبل ما يوصل دوري». وأبو أحمد لا يرد، فقط يومئ برأسه مبتسماً مواصلاً التحريك. كانت له إطلالة لطيفة، لكن حيوية، جعلتني أرغب في الحديث معه. كان يومها مشغولاً جداً، فسألته إن كان بإمكاني العودة في وقت لاحق. «أهلاً فيك بأي وقت»، ردّ رافضاً أخذ ثمن كوب الشاي مني.
خلال الأشهر التالية، قمت بزيارات عدة لأبو أحمد، لكن الوقت لم يكن أبداً مناسباً. كان دائماً مشغولاً، فأقول مودعة بأنني سأعود في وقت لاحق، ويومئ هو برأسه مبتسماً ملوحاً يده باتجاهي.
عندما أزالوا الحاجز ذهبت للبحث عنه قرب مبنى المحكمة في رام الله. بدلاً من السيارة البيضاء، لمحت سيارة مرشوشة بألوان قوس قزح. جلت بنظري داخل السيارة فوجدته داخلها. عرفني ورحب بي بطريقته المعتادة. هنّأته على السيارة الجديدة فردّ إنها هي القديمة ذاتها لكنه دهنها. كان مشغولاً لحظتها، فقلت إنني سوف أعود لاحقاً في آخِر اليوم. أومأ رأسه مبتسماً، ملوحاً بيده كالعادة.
عدت إليه عند الساعة الخامسة تقريباً وكان الشارع مهجوراً. كان الضوء مزيجاً من اللون الأصفر الحاد والظلمة الرمادية التي عادة ما تخيم على رام الله في أمسيات الشتاء. كان هنالك سائقان يقفان قرب السيارة فيما هبّت ريح متقطعة فوق الشوارع. التوقيت يبدو ممتازاً. ولكن ما إن بدأت بطرح الأسئلة، حتى اعتراه الغضب فجأة. لم يكن يرغب بإجراء مقابلة معه، ولا أن يكون موضوع دراسة. ليس لديه ما يقوله، ولم يرغب في تكرار الحديث ذاته في كل مرة. إن اختياري الحديث معه خطأ، وهو لا يريد أن يضيع وقته في الشكوى. حاولت إقناعه بالمنطق، ثم بالجدال معه. فكان رده بأن علي أن أسجل نفسي ما دمت أعرف كل شيء. بدا السائقان اللذان كانا على مقربة منا محرجين، دون أن أعرف لأجل مَن مِن بيننا. وكان عليّ الدفاع عن نفسي، فلم أعتقد بأنني استحق كل هذا الغضب منه. لذا حاولت انتزاع مقابلة منه على سبيل الاعتذار. وبدون أن يبدو عليه ذلك، استسلم هو. - الحاجز ما أثّر على شغلي. ما عانيت. كثير غيري عانى، بس مش أنا. إذا كان الشغل ورا الحاجز، اشتغلت ورا الحاجز. إذا كان الحاجز مسكر، اشتغلت على الحاجز. ما تأثّرت بشي. كنت أشتغل طريش. لما خف الشغل وبطل في ورش طراشة كفاية، ما أثر هذا علي. بلشت أبيع القهوة، وكان الحال أفضل. لو ما اشتغلتش هذا الشغل كان جبت صندوق ومسحت كنادر. كندرتك مش نظيفة، خليني ألمعلك إياها. تفضلي. أنا بدي أشتغل. بديش أقعد. بدي أظل أشتغل لحديت ما أموت. فش ولا قوة في الأرض غير الله سبحانه وتعالى بوقفني عن الشغل. ما أنا لازم أشتغل عشان أطعمي أولادي.
لم يكن هناك ترابط بين كلماته ووجهه، بين ابتسامته الدائمة وسيل العبارات الذي كان يسيل من بين شفتيه. ولكن العبارات لم تتدفق بسهولة – كل عبارة تلتها هزة رأس لا مبالية.
توفي والده عندما كان صغيراً، فلم يتمكن من إكمال دراسته. بصفته الابن الأكبر، اضطر أن يحل محل أبيه وأن يعيل أمه وبعضاً من أخوته. وعندما بلغ الخامسة والأربعين عاماً، كان قد عمل لمدة ثلاثين عاماً في عدد لا نهائي من الوظائف المؤقتة. وكان بين كل حين وآخر يستخدم كلمة إنجليزية مثل side وpainter. - أبو أحمد هيتك بتحكي شوي إنجليزي.
- شوي مش كثير، اشتغلت جرسون في الأميركان كولوني، سنة 1984، اشتغلت هناك سنة. وبعدين سافرت على السعودية. ضليت هناك سنتين وبعدين رحت على الأردن.
- يعني لفيت العالم؟
- لا مش العالم.
- طيب العالم العربي؟
- ولا حتى العالم العربي.
في السعودية عمل في بلدة صغيرة في الشمال، أولاً كعامل طلاء بيوت، ثم في محل لبيع الثياب. كان العائد المادي جيداً، لكنه لم يحب المكان. ثم انتقل إلى الأردن حيث أمضى سنة في العمل في وظائف متفرقة: في طلاء البيوت، في تبليطها، أو في تبييضها. ثم عاد إلى البلد وعمل في طلاء البيوت ثانية، «بس مش عند اليهود، عند العرب». «جف» الطلاء وشحت فرص العمل فيه، فاستخدم كل مدخراته لشراء سيارة نقل. لكنه بالكاد تمكن من دفع الضرائب ورسوم رخصة السيارة، فحوّل سيارته إلى شاحنة قهوة ووجد زبائنه بين سائقي التاكسيات، قرب مبنى المحكمة. بخلاف الوقت الذي أمضاه على حاجز سردا، عَمِل أبو أحمد أمام مبنى المحكمة لثماني سنوات. ولكنه عمل على سيارة القهوة لمدة أطول من هذه. بعد انتهائه من الحديث، قال إنه أمضى عشرين سنة من حياته في العمل في مِهنٍ مختلفة حتى تمكن من أن يكون تحت «قوس القزح هذا». - شو الفرق بين الشغل هون والشغل على الحاجز؟
- هون الجو أهدا. صح هناك في شغل، بس كمان في مشاكل كثير. فوضى. بدل الفوضى، هون أنا راسي مرتاح. المصاري أقل بس كمان أقل وجع راس. شو بدك تشربي؟
- بس الفوضى كانت وقت الزحمة؟
- شوفي ما حد كان باله مرتاح لما كانوا يعبروا. بتعرفي بتيجي دورية جيش وتبلش تطارد الناس وتضرب السيارات. ضربوني أكثر من مرة. ضربوا ضواو السيارة – وفي مرة أجا جيب وطخ عليّ، ومرة رموا قنبلة غاز جوة السيارة. يعني شو بدي بوجعة هالراس؟ أربع مرات. ييجي الجيب وبدو يحرك السيارات، بس هيك. لأنه هيك بده. وفي طريقه بيبدأ يكسر كل شي – بقلب العرباية المحمل عليها خضرة. هيك. مش لأنه في شي عم بصير، بس لأنه جاي على باله هيك. كيف الواحد بده يرتاح لما هيك بصير معه؟ أي بتولعي مع هيك وضع.
- والناس كانوا متضامنين مع بعض؟
- القصة مش شغلة تضامن. بس شو البديل عن إني أشتغل هناك؟ فش بديل، يا بتقبلي يا ما بتقبلي، بفرقش. بس أنا لازم أشتغل. يعني أنا بعمل شغلي، وبعدين بيجي واحد ثاني، وبصير يبيع قهوة، بكون أحسن لو كنت ببيع لحالي، مش هيك؟ بيجي واحد وبصير يبيع قهوة، وكمان واحد ثالث، وواحد رابع. كل واحد بيحب حاله – كيف أنا بدي أتضامن معهم؟ هم جايين يعملوا مصاري، يشتغلوا. يعني ما في هذا اللي بتسميه تضامن. أحسن لي أشتغل لحالي، بس المصاري توزعت على اثنين. تضامن؟
- شو أسوأ شي شفته في سردا؟
- إيش أسوأ شي؟ كل حياتنا من أسوأ إلى أسوأ. والكل بيقول، سمعت هيك، وفلان انقتل، وفلان وفلان استشهدوا والثاني انجرح ونقلوه على عرباية، وعدّي لتعدي. فش فرق إذا متت اليوم أو بكرة. إذا عشت أو متت. إذا لقيت شغل أو ما لقيت. فش فرق. هيني أنا هون، مثل شخص مخدر وبطّل صاحي. بطّل صاحي. هاي حياتنا.
كان كئيباً، حتى غضبه كان لا مبالياً. - أبو أحمد، لما بتروح على البيت بترتاح مع أولادك؟
- أولادي صغار، أنا برجع على البيت تعبان. ظهري بوجعني من الشغل. عمري خمسة وأربعين سنة، وأكبر واحد في أولادي عمره عشر سنين، وعندي خمس أولاد. قولي لي، الدولة راح ترعاهم؟ الحكومة بتهتم بالعجزة؟ بكبار السن؟ بيعطوا ضمان اجتماعي؟ لا، ما في شي. لازم أنا أهتم فيهم. شو بيلزم راح أعمل.
- يبدو إنك تزوجت متأخر؟
- آه تأخرت لمن تزوجت. كان أربعة وثلاثين سنة. هون، مش بس عنا، في كل البلاد العربية، نفس الشي. بنقول الواحد لازم يشتغل للماضي والحاضر والمستقبل، فاهمة علي؟ أولاً لازم أشتغل عشان أصرف على إمي وأبوي. وبعدين لازم أشتغل عشان أصرف على إخوتي وخواتي، اللي انولدوا معي. وبعيدن لازم أشتغل عشان أولادي. مش زي الزعماء، اللي بقولوا جايين ليخدموا الناس وما بخدموا إلا حالهم. بالعكس. بتفكري حياتك ملكك؟ لا مش ملكك.
سمح لي بالتقاط صورة له. فمازحته وسألته كيف يمكن لشخص يشعر هذا الكم من الغضب أن يحمل ابتسامة كهذه؟ لكني كنت أعرف الإجابة مسبقاً، كان فمه المحكم يحاكي ابتسامة فحسب.