قراءة في قصة «جدران من حديد» ضمن المجموعة القصصيّة «عالمٌ ليس لنا» لـ غسان كنفاني.

«جدرانٌ من حديد» هيّ قصةٌ قصيرة، صدرتْ ضمن المجموعة القصصيّة «عالمٌ ليسَ لنا» والتي نشرتها مؤسسة الأبحاث العربيّة في العام 1965، وهيّ التي كُتِبتْ في الفترة ما بين 1959 إلى1963 وحملتْ خمس عشرة قصةً قصيرة. وفي هذه الورقة نتناولُ قصة «جدران من حديد»، والتي تدورُ أحداثُها حولَ طفل يُدعى حسّان، وتفاعلاته مع طائر حسّونٍ كانَ قد حصلَ عليه هديةً من عمٍّ بعيد.

تتصاعدُ أحداثُ القصة بتصاعدِ أسئلة حسّان حول سلوك «حسّونه»، الأمر الّذي سَيوفرُ لحسّان ولإخوتٍهِ الثلاثة مساحةً حواريّةً تمثلُ مَجرى أحداث القصة. فحسّان الّذي لا ينفكُ يطرح السؤال تلوَ الآخر، لا يبدوُ مُرتاحًا لإجابات أخيِهِ الأكبر على أسئلِتهِ حولَ سلوك الحسّون، ليقررَ في النهاية التصرّف وفقًا لما يعتقدهُ أقرب للصواب. يذهب حسّان لشراءِ قفصٍ أكبر لحسونه، رغبةً منه في توفير مساحةٍ أكبر للعصفور للتحلّيقِ والطيران؛ لتقع النتائج معاكسةً لما أُريد من القفص الكبير، وتنتهي القصة بمشهدِ احتضار الحسّون وسط ذهول وصدمة حسّان.

يُقدمُ غسّان ثنائيّة الحرية /الأسر منذُ اللحظة الأولى في القصة، فهيّ موضوعهُ المركزي الّذي خُلِقتْ الشخصيات والأحداث؛ لتترجمهُ بهدوءٍ وواقعيّةٍ حادة، مشيرةً إلى نظرة غسّان المُتشائمة لواقعِ القضيّة الفلسطينيّة في مراحل كتابتِهِ الأولى، ولقد تزامنت كتابةُ هذه القصة مع عملين آخرين وهما «أرض البرتقال الحزين» و»رجال في الشمس». وعلى الرغم من أنّ القصة لم تَحملُ في طياتِ مفرداتِها وتركيبتِها اللغويّة ما يشيرُ بوضوحٍ إلى هويةٍ واضحة للحدث والزمان أو المكان، فإنّ ما حاولت القصة قولهُ يحملُ العديَد من الإشاراتِ والرسائل الدالة على تلك الهُوية. فحسّان، وهو شخصية القصة المركزيّة، يتلقى في صباحِ يومِ مولدِهِ هديةً من عمٍّ بعيد، وهيّ عصفور «حسّون» صغير غُلِّفَ في قفصٍ صغير وأرسل لحسّان. وعلى الرغمِ من أنّ القصةَ لم تُشير بوضوحٍ إلى عمر حسّان، إلى أنّ فكرة الميلاد كانت تحملُ تحت قشرتِها الأولى ما هو أعمقُ من مجرّدِ خلق مصادفة لإرسال ِالهدية إلى حسّان. وهنا، ما بينَ الحسّون الّذي بدا وكأنّه قد نجا للتوِ من معركةِ كبرياءٍ وعنفوانٍ طاحنة، كما يصفُ الكاتب في بداية القصة: «كانَ وجهه مسحوقًا، فيه الشيء الكثير من البطولة» وما بينَ حسّان الّذي كانَ ينظرُ حائرًا إلى هذا العصفور المُرتعد خوفًا ورغبةً في الفرار، قدّم الكاتب مقاربته الأهم: فلسطين.

وفلسطين، لم تُذكر صراحةً في النص، إلا أنّها كانت حاضرةً في ذهنِ غسّان، ولم تنفك تطارِدهُ حتى أعاد صياغتها في إطارِ حدثٍ مختلف، بالعودة إلى ما ذُكر أعلاه، فإنّه يُمكن القول: أنّنا نملكُ عددًا من المقارباتِ التاريخيّة، أولها الميلاد، والعّم البعيد. حيثُ يقع، وعلى بُعد 44 عامًا من كتابة القصة، وعد بلفور، والّذي مهّد لولادةِ الدولة الاسرائيليّة، ثمّ يأتي الحسّون المسحوق، أو فلسطين، بكونِها حسونًا بدايةً، وبمعاناتِه ِالتي ظهرَ بها في القصة ثانيًا، وبكونه حبيسًا ثالثًا، وأخيرًا: أنّه حبيسٌ لفترةٍ طويلة، حتى أصبح هديةً من مالكٍ إلى آخر.

وكأن غسّان وفي اختياره لطائر الحسون أراد الإشارة إلى واقعِ الشعب الفلسطيني على مدار فتراتٍ تاريخيّة ممتدة، يرى آخرها في الاحتلال العثماني لفلسطين والشام، ثم الانتداب البريطاني، وأخيرًا الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن الكاتب لم يقدم الشعب الفلسطيني على أنّه أكثر من حسون. ومن المثير للاهتمام هنا الإشارة إلى أن طبيعة الحسّون تتماشى مع فكرة القفص/الأسر أو الاحتلال، وهذا لكونِهِ ينسجمُ تمامًا مع حياةِ القفص، يُغني، ويأكل، بل ويعيشُ لفترةٍ أطول وهو في القفص مما يفعل لو كان في البراري. وهنا، يبرز سؤالٌ مشروعٌ: هل أراد الكاتب فعلًا خلق هذه المقاربة لوصفِ رؤيِته ونظرته للشعب الفلسطيني؟

إنّ المُتمعن في كنفاني، وكتاباته قُبيل نكسة 1967، لا يجدُ هذه النظرة التشاؤميّة أمرًا غريبًا، ولا متناقضًا مع انتاجه ما بعد العام 1967. يقدم الناقد اسماعيل الناشف في كتابه «طفولة حزيران»، والّذي تحدث فيه عن تجربة ِأدب الأطفال في الوطن العربي، هذا الوصف عن غسّان كنفاني، فكنفاني هو أولّ من نقل المأساة إلى حيزِ الرواية بإتقان فنّي، وأن معالجة المأساة لديه جرتْ عبرَ تحوير محدد على النوع الأدبي وذلك كمنصةٍ لإدانةِ التاريخ، بأشكالِهِ المُختلفة، النافي والمنفي وما بينهما، ينقل وجهة النقد إلى مواجهة تحديات أساسيّة، حول العلاقة بينَ الحدث التاريخي والنص الأدبي.» يصفُ صراحةً توجهات كنفاني في مراحل الانتاج المختلفة، فمدونته، وعلى حد وصف اسماعيل الناشف، حملت ثلاثة أضلع أساسيّة في انتاج السرديّة الفلسطينيّة منذُ ميلاد غسّان وميلاد الرواية الفلسطينيّة المعاصرة للاحتلال، وحتى اغتياله في السبعينات، وهيّ: لحظة الانتفاء والمكوث فيها دون القدرة على مواجهتها، لحظة تنميط الشخصية في انتفائها، العودة إلى الفردوس. وبلغةٍ أخرى، يمكن التعبير عن هذه الأضلاع كالتالي: عقدة الذنب، والتي تمثل الانتفاء والمكوث في هذا الشعور، ثم الشعور بالتدني والنقصان، وهو المقابل للحظة تنميط الشخصيّة في انتفائها، ثم أخيرًا، مسلك التحرر وهي العودة إلى الفردوس.

وبالعودة إلى ما جاء في وصف الناشف، فإنّ غسّان كان فعلًا يدين التاريخ، إلا أنّه وفي هذه القصة، لم يوجه أصابع الاتهام نحو الاحتلال وحسب، والّذي مثلته شخصية الطفل حسّان، بل أنه يدين الفلسطيني، وهو الحسون هنا، وذلك بجعله حسونًا من الأساس، معتادًا على حياة القفص/الأسر. بل أنّه تعمّقَ أكثر في التاريخ، فأدان العّم الّذي أهدى حسّان ذلك الحسون/بريطانيا. ربما، يكون من الصعب علينا تقبّل هذه الحقيقة الآن، بعد 77 عامًا على كتابة هذه القصة، و58 عامًا على اغتيال كنفاني، والتحوّل الّذي حدث لصورة غسّان في الوعي الفلسطيني باعتبارهِ رمزًا من رموز الثورة. لكن الأمر لن يكون بتلك الصعوبة عند قراءة القصة في سياقِ الملامح التي تصف رؤية الكاتب المُتشائمة حيال مستقبل القضية الفلسطيني في إطار ما ورد في اثنين من أبرز أعمال كنفاني: «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» قبيل نكسة حزيران. فيما تحمل الأولى صرخة غسّان كنفاني الغاضبة من موت الفلسطيني المجاني في مخيمات اللجوء على لسان أبو الخيزران في «رجال في الشمس»، ثم محاولات حامد اليائسة لجمع شتات ذاته والأيام في «ما تبقى لكم». هكذا، يصبح من الضروري إعادة التفكير في هذه القصة، واختيارات الكاتب الرمزيّة والدلاليّة والتي ربمّا حملت البعد الأهم في هذه القصة.

من الناحية الفنيّة، لم تحمل القصة حملًا أدبيًا عميقًا، فعلى الرغم من أن القصة قدمت موضوع الحرية/الأسر، إلا أنّ الكاتب اعتمد في هذا التقديم على القارئ لا على عناصر العمل. القارئ العربي في فترة نشر المجموعة القصصيّة قادر على خلق الروابط المباشرة بين ما كُتب، وبين ما أرادَ الكاتبُ قوله فعلًا، في فترة تصاعدت فيها سرديّة الألم الفلسطيني والاستقطاب العربي الّذي سبق نكسة حزيران. وبالنظر إلى العمل، وإلى بنيتِهِ من حيث كونه قصةً قصيرةً، فإنّ العمل لا يقوم على وجود حدثٍ مركزيٍ واضح، حيث لا يوجد سوى خطٍ ناظمٍ لأحداثٍ متتالية ومتصاعدة_ وهو تساؤلات حسّان حول سلوك الحسون ومراقبته له_ والتي تنتهي باحتضان الحسّون. فيما يمكن الإشارة إلى حسّان على كونه الشخصيّة المركزيّة في العمل، على الرغم مما تقدم من تحميلٍ للحسّون أعباء تاريخيّة وسياسيّة واجتماعيّة.

أمّا حسّان، فهو الطرف الآخر في المعادلة، والّذي وقعت أغلب الأحداث حول تفاعلاته مع حسونهُ «حبيس القفص»، فهو بطريقةٍ أو بأخرى، سجّان حسّون، وسجينه في الوقت ذاته. فحسّان، ليس خبيرًا في تربية الطيور كأخيه الأكبر. حذر، قلق، وغير مُتيقن من سبب عدم خضوع العصفور لمحاولاته، ودائم السؤال لأخيه الأكبر المجرّب. وهذا، يدفع حسّان لفعل المراقبة الدائمة للحسّون، إلى أن يصبح حسّان سجينًا أيضًا، وكأنّ الكاتب يريدُ الإشارة إلى القدر المُشترك الّذي يجمع الجاني والمجني عليه. يقدم الكاتب الطفل حسّان على أنّه غير مجرّب، غير قادر على الانصات إلى صوت التجربة والخبرة المتمثلة في أخيه الأكبر، متسرّع وغير قادر على تقبّل حقيقة أن الحسّون بحاجة إلى المزيد من الوقت؛ ليصبح سعيدًا في قفصه. وهنا، يقدم الكاتب الاحتلال الاسرائيلي في إطار نموه التاريخي وتصاعد هيمنته وعنفه على الشعبِ الفلسطيني في إطار محاكاة ساخرة أخذت شكل العلاقة بين طفلٍ وعصفورٍ حبيس. فيما لا ينفك حسّان عن البحث عن وسائل لترويض الحسّون في قفصه؛ ليتوقف عن الطيران، بل ويبدأ بالغناء أيضًا.

إنّ هذه الرغبة الطفوليّة، تكاد تتطابق تمامًا مع محاولاتِ الاحتلال الاسرائيلي ترويض الفلسطيني، والتي تستهجن عدم رضوخه إلى مقومات الحياة التي خلقها الإسرائيلي له.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx