يفتحُ حاسوبه المحمول من ماركة آبل فتضيءُ التفاحة البيضاء مُشعةً ومتمايزةً عن محيطها الفضّي. يُدخلُ بريده الإلكتروني وكلمة السر على عجلٍ، كلمة السر مرفوضة! يُعيدُ إدخالها ببطءٍ وانتباه، بينما يَقضمُ أظافره وينقر طرف الحاسوب بتوترٍ ملحوظ. نخزات حادة تطنُّ أسفلَ بطنه وبين رجليه، ورغبة مُلحّة بالتبوّل تستولي على عقلهِ، غير أنه يتجاهلُ ذلك ويَدخلُ صفحة بريده الرئيسية، وهناك يضيء العلم الأحمر بجانب الرسالة البريدية الثالثة.
يَنقرُ الرسالة فتنبثقُ الصورة أمام ناظريهِ بتشوّشٍ خفيف أولًا، ثمّ بوضوحٍ مرعبٍ بعدها. العيونُ الحمراءُ المُشعّة – من أثر الكحول وسجائر الحشيش – هي عيونه لا مجال للخلط، والدمُ الذي يسيل من أسنانه وأطراف فمه هو دم الشيءِ الذي كسروا عنقه البارحة ولم يتبينوا هيأته. ثم ذلك الشيء إلى جانبه، ذلك الشيء الذي يشبه عجلًا واقفًا على قدمين، يحوطه بحافرٍ ويضحك للكاميرا. يتصاعد صفارُ معدته إلى حلقه مُخلفًا مذاقًا مُرًا وحارقًا، الرسالة حقيقية وملحّة، لا مجال لإنكارها أو نسبها لبناتِ خياله بعد الآن. يذوبُ قلبه بين أضلاعه ويشعرُ بحاجةٍ كاسحةٍ للبكاء، أو للتحوّلِ إلى رفٍ ما في خزانته المفتوحة إن أمكن.
الحقيقة أنهُ كان يعلم منذ أن استيقظ صباحًا – ليجد نبات العلّيق قد تسلقَ أقدام سريره، وعشَّش في زوايا غرفتهِ، وتدلّى من المروحة فوقه – أنّ الرؤية المشوشة في ذاكرته عن ليلة البارحة تحملُ مصداقيةٍ إلى حدٍ ما، لكنه كافحَ ذلك الاحتمال بما تبقّى لديه من رغبةٍ بحياةٍ عادية ويوم مُمل. والآن، مع هذه الصورة التي يبدو أنهُ هو مرسلها ومستقبلها في آن، لم يبقَ لتلك الرغبةِ أملًا في البقاء. لقد كان أقرب إلى قديسٍ صغير، لا يشربُ إلا لمامًا ولا يُدخن السجائر ولا الحشيش إلا في مناسباتٍ مُتباعدة بالكادِ تُحصى.. لم يَجرح شعورَ سيدةٍ من قبل، ولم يخالف قانون سيرٍ ولا لائحة عمل. لقد كان جنتلمانًا حقيقيًا، ولم يقترف ما يُمكن أن يفتحَ عليه فوهة جهنم أو يُقلِقَ وداعة أيامه.
لم يبق أمامه الآن، إلّا أن يفكر في ليلةِ البارحة؛ في النشوة التي فرقعت في دمه وعظامه، وعَوَتْ بين رجليه كبنات آوى، ورشقت حوله كدجاجٍ هاربٍ بأعناقٍ مكسورة. لقد كان شيطانًا لمرّةٍ واحدة في حياته، مرّة واحدة حقيقية، مرّة تلفّه لأجلها الآن مئات من سيقان العُلّيق المتشابكة، بينما ينبثقُ من فمهِ خوارٌ ضاحك.
_______________________________
*قصّة قصيرة من مجموعة يا للحظ السعيد يا مدام باربارة الحاصلة على تنويه لجنة تحكيم مسابقة الكاتب الشاب – القطّان (2019).