نص من كتاب “رسائل إلى بغداد”
مساء الخير يا بغداد..
هذه أوّل ليالي فصل الخريف، إنه الفصل المظلوم من فصول السنة، فهو الذي تهب في لياليه النسيم العليل، الذي يحمل لسعة برد خفيفة تتنمنم القلوب لها، وكأن السماء أفرجت عن دُعاء الحبيبات، والأمهات، وأمنياتهم، وكلّت النسيم بتوصيلها، وها نحن نتهمه بأنه فصل الذبول، يا لنا من قساه!
إن أطبق الحزن يومًا على فؤادك، يا فؤادي، اخرجي لتلفح وجهك نسائم أوّل الخريف، اخرجي لتدفئي قلبكِ، وترحميه من لوعة الاشتياق. حافظي على حُزنك اللّيلي يا بغداد، فلا يكون لليل معنىً بدون الحزن، بدون لمعة العينين تحت أضواء الشوارع الخافتة، وأنت تسيرين بلا وجهة معروفة، تهبين خطواتك لخواء الشوارع.
الحزنُ سر السعادة المستمرة، أو قولي هو سر الاستمرار في الحياة، هو المداد كي لا يشعر الورق بالأرق، هو غلاف الأشياء التي نعتقد أنها ثمينة، وما إن نُجردها من غلافها نكتشف كم كنا مخطئين.
فكما أنّ الإنسان موكول لنفسه أن يَخلق سعادته، فهو أيضًا موكول له أن يَخلق حزنه، لذلك علينا الاحتفاظ بكل شيء يحفظ لنا حزننا المَخلوق، لأننا لن نستطيع الهروب منه، لن نهرب من الأماكن، وإن هجرناها، فلن تهجرنا ذكرياتها، لن نهرب من الأصدقاء، والشوارع، وأيام الدراسة، وساعات الليل الطويل.
لن نهرب من الذين غادروا، وتركوا لنا صورهم، وضحكاتهم، ومزاحهم الجميل، لذلك علينا أن نحتفظ بكل تلك الأشياء التي نشعر معها بالحزن المغلف بالحنين، فالقدرة على الحزن، هي قدرة على العبقرية، هي خلق جديد، لكل مخلوق قديم، هو باعث الحياة في الذكريات، والدموع التي سبقتها الضحكات، الحزن في المساءات الهادئة عبادة.
في ليلٍ حزينٍ جدًا يا بغداد، أخبرني أحد الأصدقاء بحزنه وراح يقول: «كنت أكتب الحزن الذي في عينيها، لكن ما كان واضحًا، إنني كنت مُغفل، حيث كنت أحب الحزن، وما أحببت يومًا عينيها»، لقد خطف قلبي ما قاله، وأيقنت أن الإنسان بدون الحزن، إنسان آلي جدًا، لا مشاعر له، ولا أولويات، ولا ذكريات، ولا حتى ندم.
أتشعرين بحجم النّدم في آخر الجملة التي قالها ذلك الصديق؟! إن السر لا يكمن في متن الحديث، بل يكمن فيما وراءه، فللحديث مكنونات لا يعيها إلا من كان شاعرًا، يقول: «كنت أحب الحزن، وما أحببت عيناها».
تخيلي يا كُل المُنى، إنسان لا ذكريات له، ولا مكان تلهو فيه الروح إن هي اشتاقت، كيف له أن يستمتع بذكريات من جالسهم في أيامه التي خلت؟، كيف له أن يُقلّبُ في صفحات الذاكرة؟ يبعثرُ ما فيها من ذكرياتٍ وصور كانت تجمع الضحك والبكاء والكثير من الجنون، هؤلاء الأشخاص الذين ما عاد لنا معهم من تواصل، سوى الدخول خفية إلى مخبأ صورهم، والتجول فيه، فنبتسمُ تارةً، ونسرح في الذكريات تارة أخرى، هؤلاء هم منْ حاولنا أن نقنع أنفسنا إننا سننساهم بعد فترة، واكتشفنا كم كنا مُخطئين … يا بغداد، اتركوا ذكرياتكم مفتوحة للجميع، فثمّة مَن يريد أن يطمئن عليكم دون أن يترك لكم وجعًا، يمر عليكم كالمراكب المُتعبة من طول المسافات، لترتاح قليلاً، وتغادر حيث مينائها الجديد.
ولا تستغربي من الدموع التي تنزل من العين على أهون سبب، أو على شيء غير ذي بال، تلك ليست دموع يا حبيبتي، تلك حزن مخبأ في الضلوع، لم نستطيع وقتها البوح به، فتجمَّع حتى صار بكاء.
وليس الحزن وحده من يستدعي البكاء، ويُثير في العين شهيّة المدامع، فالجمال أيضًا يستدعي في الإنسان ذلك، يجعله يقف ويدق جبهته بكف اليد، ويفتح فمه اندهاشًا وهو يقول: سبحان الخلّاق فيما خلق. بل ربما يُقلل ذاك الجمال من عقله، وربما يدفعه لأن يفعل فعل الصبيان، كما أخبر كاظم عن نزار، وإن اشتد ذلك الجمال، فرُبما يُفقده التوازن، كأن يرى غمزة تسللت في ضحكة بريئة، كأن يرى وجه عجوز تنام على أطراف يده الحَمَامَاتْ مُطمئنة، كأن يقرأ سطرًا في كتاب، فيَطلق شتيمة قوية، تسبقها ابتسامة عريضة، كأن ينظر إلى تسبيلةِ عين طفلة غافية في كرسيّ السيّارة صباحًا، والشمس تُنمنم صباحها الأبيض.
أجْمَلُ الجَمَال يا حبيبتي، هو ما يستدعي فينا الدموع، ففي دموع الجمال لذّةٌ، لا يعيها إلا الطاعن في الحُب، والطاعن في الخيبة أيضًا، فالجمال الذي لا يثير شهية المدامع للبكاء، جمالٌ مثيرٌ للشفقة.