رأيت مليون نحلة، والتقيت خمس سيدات تحدثن عن استعادتهن لوقتهن، بنين مبنى فيه حضانة ومطبخ، وطابق لمقهى سيطل حين ينتهي على تل العاصور وعلى مقبرة صغيرة. خبّرتنا أكثرهن زعامة كيف أتين بالمال من سكان القرية، وكيف أقنعن أهل البلد بمشروعهن، وكيف اجتهدن وكيف اجتمعن وكيف استطعن أن يملكن الوقت الذي أُخذ منهن، وكيف رفضن أن تتحكم بهن وكالات الدعم، فلا أحد يمكنه أن يقول لهن كيف يوزعن الوقت بعد أن امتلكنه.
ونظرت من سطح البناية على تلال عالية، وكفر مالك تطل على وديان عميقة وقرى وبلاد ومناحل، وتساءلت: هل حقا سننجو من وكالات الدعم؟ هل يمكن أن ننجو؟ هل نريد أن ننجو؟ هل بإمكان المجتمع في ظل الآليات السياسية والاقتصادية العالمية والمحلية الحالية أن يخلق بديلاً ولو صغيراً يمكنه أن يستمر ويزدهر؟ هل يمكن للعمل الاجتماعي أن يكون بديلاً للعمل السياسي؟ أم أن العمل الاجتماعي هو مخبأ للعمل السياسي، فيتقوقع هناك إلى أن تنضج الأسباب والمقومات للحراك السياسي؟ أم هو تفريغ للعجز السياسي وعدم القدرة على رؤية ما هو جمعي وأكبر وأشمل، فنختبئ داخل البنية الصغيرة المنكفئة على ذاتها هرباً من السؤال الأعظم: إلى أين؟
وهكذا سألت نفسي أيضاً، حين رأيت الزبل يتحول إلى سماد للأرض، وغاز للطهي، وحين أكلت بعضاً مما أنتجته الأرض والسماء في هذه البقعة المحصورة بين جدار ومصنع، بين العسكر ورأس المال، حين جلسوا ليشرحوا لنا كيف حموا هذه المزرعة من المصادرة والإغلاق، بالعمل والعرق والجهد المباشر ولا غير، حين أخبرونا عن الكيماويات التي تحملها الريح من المصانع لتحط في أرضهم وصدورنا. الأرض كفعل.
جلت في المزرعة وفكرت: هل الزراعة هنا عمل يحاول أن يبحث عن علاقة الفلسطيني بالأرض؟ هل هي سؤال أصلاً؟ أم لربما هي ممارسة يومية لحاجات وضرورات وجودية لا تترك مجالاً للفرد بأن يتساءل عن جدواها أو معناها؟ أوليس هذا هو الفعل السياسي؟ أم هو بذرته الكامنة في الأرض المنتظرة للحظة الحاسمة للانطلاق والانتشار؟ وفكرت للحظة كشجرة تفاح؛ ليس مهماً من يقطفني، المهم أنهم ما زالوا ينثرون بذوري في الأرض.
وتساءلت حين عدت إلى رام الله، ودخلت حديقة مركز خليل السكاكيني: ما وظيفة المثقف؟ وما دور المؤسسة في وسط كل هذا؟ هل دورنا أن نحاول أن نرى عن بعد كل الذي يجري ونحاول أن نضعه ضمن إطار نظري عام؟ أن نجمع أطراف كل هذه الخيوط المتناثرة لنتمكن من أن ندرك ونعي هذا الذي يحصل؟ هل دورنا أن نتفاعل مع هذه التجارب دون أن نؤثر على حركتها وتوازنها؟ هل المثقف هو الأرض التي تلقى بها بذور هذه التجربة؟ هل المثقف الوسيط؟
هذه المشاهدات والأسئلة التي أسجلها الآن، أفكر بها حين أمارس عملي كمثقف. فمن خلال عملي في مؤسسة ثقافية، أحاول أن أنسجها ضمن المشاريع والنشاطات والبرامج التي نقوم بها، لتساعدنا على ربط ما نقوم به مع الأسئلة السياسية والاجتماعية العامة والشاملة في المجتمع، ويصبح الحراك الثقافي فضاء للتفكير والبحث والربط بين هذه المبادرات والمشاريع المكثفة، وبين مبادرات وأفكار أبعد وأعم. فدور الثقافة والمثقف في هذه الحالات يخلق دائماً إشكالية معينة؛ بين حالته الطبيعية الناتجة بشكل تلقائي نتيجة الحراك الجمعي والمجتمعي من خلال مبادرات مثل هذه، وبين حالته الوظيفية التي تتجسد من خلال وجود المؤسسة الثقافية، تنبع أسئلة عن العلاقة بين الحالتين، وكيف يمكننا أن ننسج علاقة تأثر الواحدة بالأخرى دون سيطرة وغلبة لا من ناحية الشكل، ولا من ناحية القيمة. لربما عملية النسج أو الحياكة تبدأ حين يلتقي هذان الفعلان على الأرض بمعناها الفعلي، وليس المجازي.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx