طابورٌ طويل من عُشّاق السينما يحملون الذرة المُحمّصة (الفشار) التي أضحت تقليدًا مُرتبطًا بكلِ من قَصدَ هذا المكان، جميعهم ينتظرون دورهم للحصول على تذكرة مشاهدة آخر الأفلام السينمائية. لعلَّنا اعتدنا على هذا المشهد قبل أن تحلّ جائحة كورونا، لكن لا شيء ظلّ اعتياديًا بعد هذه الجائحة التي ألقت بظلالها على كافّةِ مناحي الحياة، فالكثير من دور السينما وصالات العرض أغلقت أبوابها في وجه مُحبيها إلى أجلٍ غير معلومٍ منعًا لتفشّي الوباء.
لكن في الوقت ذاته، جاءت الجائحة لتجعلَ الكثير من المؤسسات والمراكز السينمائية العربية تطرحُ الأفلام عبر مواقعها على الإنترنت، لتُمكّن كلَّ مهتمٍ بالسينما من مشاهدة الأفلام بالمجانِ خلال فترة الحجر الصحي، ليسدّ بذلك الفضاء الإلكتروني الرحب – ولو مؤقتًا – غيابَ دور السينما التقليدية. وفي هذا السياق تأتي مُبادرة مؤسسة «فيلم لاب فلسطين» التي عرضت عبر موقعها سلسلةَ أفلام قصيرة تحت عنوان «أصوات من فلسطين في زمن كورونا»، أتاحت لمجموعة من صنّاع الأفلام الفلسطينيين فرصة للتعبير عن تجاربهم الاستثنائية خلال فترة الحجر الصحي بلغةٍ سينمائية تروي قصصًا شخصية يومية تَعكسُ تعقيدات الحجر، وما يرافقه من مشاعر ملل وخوف وارتباك من حالة الوباء المُعاش عالميًا، ومن الوضع السياسي المتفاقم في فلسطين بشكلٍ خاص. نستعرض في هذا المقال مجموعةً من هذه الأفلام.
«كوفيد 1948».. وباء الاحتلال المُتمدد
«بعد 20 عامًا يخرجُ أسيرٌ فلسطيني من سجون الاحتلال إلى سجن أكبر، حيث الحروب والحصار والخوف والهلع، ويُضاف إليها هذا العام وباء كورونا. تبدو الشوارع بلا مارّة، والمساجد بلا مُصلين، والدكاكين بلا مشترين». هكذا بدأ المخرجُ يوسف نتيل فيلمه «كوفيد 1948»، فلا جديد على حياة من يسكُن غزة ومن عايش ثلاثة حروب و14 عامًا من الحصار. رتابةٌ حدّ الملل عدا فنجان القهوة اليومي الذي يبعثُ الحياة بالفنان التشكيلي سليمان النواتي الذي ظهر بالفيلم. حتّى معابر غزة التي كانت مُتنفسًا يبعثُ الأملَ أضحت هاجسًا بالنسبة لهم. هذا ما فعلهُ شبح فيروس كورونا الخفي بهم، وما يفعله شبح فيروس الاحتلال المرئي أيضًا، فالفيروس الأول سيجدُ العالم له الدواء ولو مُتأخرًا، أما الثاني فهو فيروس لا دواء له. وقد جاء عنوان الفيلم لافتًا، فقد أضاف المخرج إلى اسم الفيلم «كوفيد 19» الرقم 48، وهو التاريخ الفاصل في حياة ملايين الفلسطينيين الذين هُجروا وشرّدوا من بيوتهم فيما يعرف بالنكبة الفلسطينية التي ما زالت مُستمرة منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا.
«ع الجزيرة».. فلسطيني لا يشبه كروزو
في إحدى جُزر لوفوتن النرويجية القريبة من القطب الشمالي، حيث تكسو الثلوج المكان، بينما تنخفضُ درجة الحرارة تحت الصفر بدرجاتٍ، يأخذنا المخرج الفلسطيني محمد الجبالي المقيم هناك بجولةٍ في إحدى المحلات التجارية، التي تبدو فيها الرفوف فارغةً من البضاعة، بينما هَلِع الجميع حين تعلّق الأمر بالحياة أو الموت على حدِّ قوله، فقد كانت الجزيرة قبل حلول كورونا هادئةً ولا يتجول أحدٌ في الخارج، فماذا حدث بعد ذلك؟ ينقلنا الجبالي إلى تفاصيلِ حياته اليومية الهادئة جدًا خلال الحجر الصحي المنزلي، يُثبّت كاميرته على قطّته التي تؤنس وحدته، بينما يُحضّر الخبز في مطبخه ويشرب القهوة ويمارس الرياضة ويُشاهد شروق الشمس وغروبها وهكذا دواليك، إنها رتابة الحياة على جزيرة نرويجية لفلسطينيٍ لم تكن عزلته تشبه عزلة رجل المغامرات روبنسن كروزو.
«الحجر الصحي: كبسولة».. تختلف الفلسفات والعزلة واحدة
من نافذة حيفا، تنقلُنا المخرجتان روزين بشارات وجونا سليمان إلى العالم الذي يبدو ككبسولةٍ افتراضية صغيرة يتشارك أُناسها حالاتهم الوجدانية المُتشابهة خلال مرحلةٍ غير طبيعية يعيشها العالم في فترة كورونا، فلكل شخصٍ فلسفته الخاصّة في يوميات حجره الصحي، فالبعض يرى العزلة مدعاةً للتطوّر الذاتي والتأمل، وأن التواصل البشري أصبح افتراضيًا فقط، بينما يُصاب آخرون بالاختناق بسببها، فهناك من يرقص ويرسم، ومن يرى أن الحجر أضحى روتينه اليومي المتكرر، فآخر يومٍ طبيعي كان الحادي عشر من آذار/ مارس.
«حجر صحي، منع تجوّل وأشرطة فيديو قديمة».. تاريخ مُتشابه
بإيمانه أنّ التاريخ يُعيد نفسه، يعودُ بنا المخرج سمير قمصية 20 عامًا إلى الوراء بأشرطةِ فيديو عائلية قديمة يقتنيها، حيث كان جدّه يُوثّق بكاميرته لحظاتٍ عائلية سعيدة مثل أعياد الميلاد وذهاب الأحفادِ إلى المدرسة وميلاد الأخت الصغرى لسمير وليلة عيد الميلاد في كنيسة المهد في بيت لحم. وفجأة يتغيّر نمط الحياة بشكلٍ مُريب إلى اجتياحات واعتقالات ومنعٍ للتجوال، لتُعلَن بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، لتبدأ معها رحلة الاضطرابات السياسية والوضع الاقتصادي المتدهور، وتُعلن أيضًا وفاة جدّ سمير الذي أحبّ الكاميرا وأحبته، ليستشعر سمير هنا أهمية الاستمرار في توثيق ما بدأه جدّه، إيمانًا منه بدور الكاميرا في التقاط لحظاتٍ خالدة وتصوير واقعٍ مؤلم، وها هو يجدُ نفسه اليوم وهو في عامه الثاني والثلاثين يوثّق يوميات حجره المنزلي في زمن كورونا، كما كان يوّثق بعمر الحادي عشر يوميات التزامه المنزل بسبب حظر التجوال خلال الانتفاضة، فما بين الزمنين لقطاتٌ شاهدة على واقعٍ عشناه ويعيشه الفلسطيني حتى اليوم.
«ضبابي».. حيرة مشهدية بنظّارةٍ مكسورة
يبدو المشهد في فلسطين ضبابيًا كما يظهرُ في عنوان الفيلم ونظّارة مخرجته ليلى عباس المكسورة، التي لا تستطيعُ إصلاحها بسبب الإغلاقات التي فرضها فيروس كورونا. دعك من ذلك، فلا داعي لإصلاحها، فضبابية الرؤية عبرها تتشابه مع ضبابيةِ يوميات ليلى والمجتمع الفلسطيني الحائر بين ترسيم مشروع «صفقة القرن» وخطّة الضم الإسرائيلية، وبين استماعه لخطاب رئيسه الفلسطيني المُتلعثم، بين خططه الأسبوعية المُلغاة بسبب الجائحة، وبين التساؤلات والأقاويل التي تتنبأُ بنهايته، بين السؤال عن أوجه اختلافِ أعراض فيروس كورونا عن الحساسية العادية، وبين التعقيم والتنظيف المنزلي المُبالغ فيه. هكذا إذن بدا الوضع الفلسطيني على كافّةِ الأصعدة، فمشهد الضباب سيّد الموقف.
«سقط القناع».. وهم إسرائيل الديمقراطية
من قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، تستلهمُ المخرجة الفلسطينية نجوى النجار عنوان فيلمها «سقط القناع»، الذي يُعرّي سياسة الاحتلال الإسرائيلي الساعية إلى ضمِّ المزيد من الأراضي الفلسطينية مُستغلّةً انشغال العالم بجائحة كورونا. فقد وضعت النجار في مقدمةِ فيلمها مُقتطفًا من وصفِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضمِّ إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية بأنها «الفرصة التاريخية» التي لم تُتح لهم منذ عام 1948. كما عرّجَ الفيلم على سياسة إسرائيل العنصرية بحقِ الفلسطينيين الذين يعيشون داخل أراضي عام 1948، وآخرها كان حادث غرق أوّل راقص باليه في فلسطين أيمن صفية الذي التهمته أمواج بحر حيفا بلا اكتراثٍ أو مساعٍ من الشرطة الإسرائيلية للبحثِ عنه لإنقاذه أو انتشال جثته. هكذا إذن «سقط القناع» عن وجه إسرائيل التي تدّعي بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وتمارسُ في الوقت ذاتهِ سياساتها الاستعمارية والاستيطانية بحقِ الشعب الفلسطيني وأرضه، وتدّعي المساواة بينما تُمارس التمييز ضد الفلسطينيين. هكذا إذن تتحطمُ أسطورتين من «عشر أساطيرٍ حول إسرائيل» بحسب تعبير إيلان بابيه.
«انسحاب».. رحلة بلال بين عالمين
بعبارةِ «ابقوا في بيوتكم» يفتتحُ المخرج بلال الخطيب فيلمه «انسحاب»، حيث أضحت هذه العبارة مرتبطةً في ذهنِ المواطن الفلسطيني بموجزٍ لأهمِ مُستجدات كورونا التي يقدمها المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية إبراهيم ملحم.. لا شيء يُذكر في يوميات الخطيب غير هذا الإيجاز وشروق الشمس وصوت الأذان، ولا شيء يكسرُ مللَ الحجرِ المنزلي سوى طائرة ورقية تُلوّح في الأفق مُشكلّة عالم المخرج خارج بيته. وما بين خارج البيت وداخله، يسحبنا الخطيب بلقطاتٍ مُتناثرة غير مفهومة، لكنها ربما تُعبّر عن حالته النفسية ومشاعره وهواجسه خلال فترة الحجر.
«أيّار».. سنواصل بثنا بعد انتهاء ذكرى النكبة
«يبدو واضحًا أنّ مخطط الهاغاناه والعصابات الصهيونية بالتعاون مع الإنجليز هو تشريد أهالي حيفا رويدًا رويدًا». هكذا افتتحت المُخرجة الفلسطينية مها الحاج فيلمها «أيّار»، بنصٍّ تقرأهُ ياسمين حاج من كتاب جوني منصور المُعنون بـ «حيفا»، مُسترجعةً في يوميات حجرها المنزلي ذكرى يوم النكبة الفلسطيني الذي يُصادف الخامس عشر من أيار لعام 1948، فصور التطهير العرقي وتمشيط الأحياءِ من سُكّانها لم يغِب عن أهل حيفا الذين ذهبت بهم السفن إلى عالمِ اللجوء، تاركين بيوتهم وأراضيهم على أملِ العودة إليها. أما قطة مها البيضاء التي أسمتها «إيفا» فكل حركاتها توحي بشعور الملل وعدم المبالاة بالحالة التي تعيشها في أجواء الحجر المنزلي، فتارةً تنامُ فوق السجادة الحمراء، وتارةً تنتقل إلى تحت الطاولة، وأخرى تملّ الاستماع إلى الفنان عامر حليحل الذي يقرأُ نصّ رسالة يودّ إيصالها إلى «ويليام شكسبير» باللغة الإنجليزية، طالبًا من مها تدقيقها له، رغم علمه بأن «شكسبير» لن يرد على رسالته هذه كما فعل في سابقاتها، إلا أن حليحل يُصرّ هنا على الكتابة إليه علّه يكون المُخلّص لهم من أزمة كورونا.
يبدو الانتظار هنا سيّد المشهد، كون حليحل يعيشُ على أملِ تلقّي ردًّا من شكسبير الذي لم يأبه برسائله يومًا، أما مها فتعيشُ على أملِ عودة أهل حيفا إلى حيفا بعد انتظارٍ تجاوز السبعين عامًا، في حين تجلسُ إيفا على الطاولة في نهاية الفيلم، وتُشاهد التلفاز الذي كُتب على شاشته «سنواصل بثّنا بعد انتهاء ذكرى النكبة».
«النهاية هنا».. استغلال الذئاب غفلة رعاة القدس
بدأ المخرج إيهاب جاد الله فيلمه «النهاية هنا» بمشهدٍ يُظهرُ ممرًا طويلًا يهيمن عليه ضوءٌ خافتٌ سرعان ما يصل في نهايته إلى سوادٍ حالكٍ يوحي بنهايةٍ مُظلمة. هذا الممر أشبه بإطارٍ Frame يضمُّ إطاراتٍ كثيرة داخله، يعرفه جيدًا من يعمل في حقل التصوير والمونتاج. يُضيف المونتير فيديوهاتٍ من حرائق أستراليا، وأخرى من بركانٍ ضرب الفلبين واليابان والمكسيك، وصولًا إلى كورونا التي اجتاحت العالم، جميعها كوراث متتالية حلّت بنا ولربما ستوصلنا إلى «نهاية العالم». ومن العتمةِ إلى النور، ينقلُنا المخرج فجأةً لنرى طائرة درون تُحلّق فوق سماء القدس، لتُرينا صورةً بَشعة تعكسُ حجمَ التوسّع لمستوطنة أبو غنيم المُسماة إسرائيليًا «حي هارحوما»، والتي بُنيت فوق أراضٍ فلسطينية لمواطنين من بيت لحم والقدس صادرتها «إسرائيل» من أصحابها، وقطّعت أوصالهم بجدارٍ عازلٍ، فالاحتلال قد استغلَ فترة كورونا لتقسيم المدينة حسب مخططاته. إذن نحنُ إزاء خارطة جديدة رسمها الاستعمار الإسرائيلي للقدس خلال هذه الفترة، فبينما العالم منشغلٌ بكورونا، تنشغلُ إسرائيل بتنفيذ مخططاتها الاستعمارية التي لا تقف عند حدٍّ معين!
«وإحنا بنستناك».. رسالة إلى مولود مُنتظر
ما بين مدينتي بيت لحم والقدس اللتين يَفصلُ بينهما جدار الفصل العنصري، يأخذنا المخرج مؤيد عليان في فيلمه «وإحنا بنستناك» إلى شوارع بيت لحم الخالية من المارّة، فهي المدينة الأولى فلسطينيًا التي تَظهرُ فيها حالات إصابة بكورونا، حيث أُغلقت المدينة ونَصبت الشرطة الفلسطينية بين الأحياء حواجزٍ أسمتها «حواجز المحبة» تعبيرًا عن حرصها على الحفاظ على سلامةِ وصحّة الفلسطينيين ومنع خروجهم من منازلهم. إلا أنّ الحالة الاقتصادية الصعبة جعلت صاحب بقالة هناك يُدعى خضر زيدان يبدو مُتذمرًا من إجراءات الحكومة الفلسطينية في تعاملها مع إغلاق المحلّات التجارية وخاصةً التموينية منها.
إلى القدسِ يأخذنا عليان، حيث أذان الفجر يصدحُ في البلدةِ القديمة التي تبدو كبلدةِ أشباحٍ دون المارّة، فهي بكورونا أو دونها تبدو بتلك الحال، وذلك بسبب سياسة إسرائيل العنصرية. وإلى البيت يعود عليان ليصوّر لنا يوميات زوجته الحامل عبير سليمان، فهي تُجهّز ملابس مولودهما المُنتظر، وتُمارس حياتها كأيّةِ امرأةٍ تدور في دوّامة المنزل واحتياجاته، وكأن فيلم عليان وزوجته عبير توثيقٌ لمرحلةٍ زمنية من الحملِ قبل مجيء ابنهما، ليقولا له: هكذا بدت الحياة «وإحنا بنستناك» بين وبائين؛ وباء الاحتلال ووباء كورونا.
«خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الخلف»
تستعرضُ المخرجة ديمة أبو غوش تفاصيل يومها في الحجر المنزلي مع ابنيها بشار وسامي في فيلمها «خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الخلف»، فما بين المطبخ والاهتمام بالورود والنباتات التي تزرعها في حديقة منزلها، تُمارس أبو غوش المونتاج على جهاز آبل، بعد قيامها بتصوير الطفل «موريوس» الذي تسأله عن كورونا: كيف يبدو شكلها؟ وكيف نحمي أنفسنا منها؟ هل تخافها؟ ليجيبُها الطفل ببراءةٍ بأن كورونا صغيرة جدًا، وأنّه لا يخافها لأنه يمتلكُ سلاحًا وسيفًا، وكأن كورونا احتلالٌ يقاومه الطفلُ بالسلاحِ والسيف!
يَعرضُ الفيلم هواجس ديمة وكيف أثّرت الجائحة على حياتها، وحياة الطفل موريوس بمنحى آخر، وعلى حياة زوجها الذي يُفكّر بالشيكات المتراكمة التي يجبُ دفعها، فقد أضحى الفلسطينيون هنا يتحمّلون ما لا طاقة لهم به اقتصاديًا، بسبب الإغلاقات التي فرضتها السلطة الفلسطينية، وبسبب الاحتلال الذي يُضيّق الخناق عليهم بسياساته. وعليهِ، يُظهر الفيلم كيف يتأثرُ كلُّ واحدٍ منا بكورونا بشكلٍ مختلفٍ عن الآخر.
«بيني وبينك».. سقوط الحواجز
يَعرضُ المخرج مجدي العمري في فيلمه «بيني وبينك» تفاصيل يومه المليء بالفوضى، حيث بفعلِ الصدفة تعلقُ زوجته في حيفا ولا تستطيع العودة إلى بيتها بسبب إجراءات الحجرِ المفروض والإغلاقات بين المدن، وكذلك الأمر مع ابنته. يرنُّ هاتفه مراتٍ عديدة بلا إجابة، فهو في نومٍ عميق. ويرنُّ جرس البيت بلا إجابة، وتصلهُ رسائل على هاتفه دون إجابةٍ أيضًا، كما ويتغيّب على طُلابه الذين ينتظرونه لإعطائهم محاضرة الإخراج عبر الإنترنت، فكما يبدو جعلت كورونا والحجر المنزلي المخرجَ أسير بيته، وكأنه يُطبّق قواعد التباعد الاجتماعي عبر الإنترنت حتّى. وفجأةً، يصحو العمري من غفوته ليردَّ على كافة الرسائل التي وصلته، ليكسر الحاجز الذي فرضته كورونا على علاقته بالعالم الخارجي، ولتصدح بعدها كلمات أغنية «بيني وبينك» لفرقة صابرين التي تُعبّر عن هذه الحواجز التي تُخلق بيننا وبين محيطنا، دون أن ندري رُبما.
«حجرة الصدى».. معادلة حب البقاء
يُتابع المخرج محمد حرب في فيلمه «حجرة الصدى» يوميات فنانٍ غزّي مقيم في الحجر، والذي يُتابع عبر التلفاز وتحديدًا قناة الجزيرة الإخبارية حصاد أخبار جائحة كورونا في العالم؛ تتزايد الحالات وتنقص، يتأثّر اقتصاد الولايات المتحدة وفيتنام، وترتفع الوفيات في العالم بأرقامٍ صادمة.. كل هذا لا يهُم، فالخوف من الفيروس لا يُسيطر عليك وأنت تُراقب أرقام المصابين عبر التلفاز، بل يُسيطر عليك حين يصلُ بلدك ومحيطك، فحين ذكر مراسل الجزيرة في غزة وائل الدحدوح أن وصول كورونا إلى غزة سيجعلها أمام تحدٍ صعب لمواجهته في ظلِّ قلّة الإمكانيات والحصار المفروض عليها من قبل الاحتلال، قُرع جرس الإنذار، وأضحى الفنان في قلقٍ وخوفٍ دائمين، وكأن فيروس كورونا باتَ أقرب إليه من حبلِ الوريد. إنها معادلة حُب البقاء والتمسُّك بالحياة.
«حيّ».. ممنوع من العرض
كنتُ متحمسةً لمشاهدة هذا الفيلم القصير للمخرجة آن ماري جاسر المعروفة بأفلامها الخلّاقة، إلا أنني صُدمت فعلًا حين وجدتُ الفيلم عبارة عن شاشة سوداء مكتوب عليها «ممنوع من العرض» لأسبابٍ غير معروفة، وقد أرفقته جاسر بكلماتٍ مؤثّرة عن تقييد حرية الفنانين، وأنها عاشت وباء رقابة الحكومات لفنانيها، لكنها لم تتخيل يومًا أن بلادها فلسطين ستقمعُ حريتها وتحدُّ من أعمالها، معتبرةً أن هذا حاجز آخر مفروضٌ علينا كفلسطينيين ينبغي كسره في سبيل الحرية، فالحرية ليست بالخلاص من الاحتلال فقط، بل بالخلاص أيضًا من كافة أشكال الرقابة وتقييد الحريات.
هكذا بدا مشهد يوميات الحجر الصحي المنزلي فلسطينيًا؛ حجرٌ فرضته كورونا على العالم، ومنع تجوالٍ يفرضهُ الاحتلال على الفلسطينيين.. وباءٌ سينتهي أجلُه حين يكتشفُ العالم دواءً له، بينما يبقى الفلسطينييون ينضالون ضدّ وباء استعمار استيطاني إحلالي لم ينتهِ بعد!