عندما عاد عطوان إلى مسقط رأسه، في شبه جزيرة الفاو، في الجنوب الشرقي من البصرة، بعد الحرب العراقية الإيرانية بسنتين، وجد أرضه قد تحولت إلى سباخ ملحية.
كان الملحُ يغطي كل شبر من تلك الأرض. ولا أثر للنخيل الذي كان يظلل بسعفه مساحات واسعة مزروعة بالحناء. تمالكه الحزن، بينما هو ينقل بصره في أنحاء أرضه الخربة. تذكر طفولته وصباه وشبابه، حيث ترعرع في هذه البقعة، وقضى أجمل سنوات حياته، قبل أن تتحول إلى ساحة للمعارك الشرسة والوحشية خلال الحرب، التي سقط فيها عشرات الآلاف من الجنود العراقيين والإيرانيين، وكانت ما تزال ميدان اشتغال منظمة الصليب الأحمر التي يبحث أفرادها تحت الأرض عن رفات الجنود المفقودين من كلا الطرفين، إلا أن ثمة ما يعيق عملها على الدوام، وهي تلك الألغام التي عجزت الحكومة عن رفعها حتى ذلك الوقت. وها هي الآن قد استحالت إلى أرض بور، جرداء، لا حياة فيها.
فجأة، وكما لو أن ثمة من أوحى له بذلك، قرر عطوان إحياء الأرض.
لم تمضِ سوى أيام قلائل، حتى باشر عطوان عمله، يساعده على ذلك أولاده الخمسة. عمل الجميع بهمة ونشاط. كشطوا الملح عن سطح الأرض، ثم حرثوها، ثم قاموا بتنقية التربة وقلبها وتسميدها، ثم شرعوا بنثر البذور، وثبّتوا فزاعات مليئة بالتبن وألبسوها ثياب الموتى التي عادة ما تُرمى في الأنهار الجافة، ووقفوا هناك يتخيلون ازدهار الأرض بأصناف معينة من الخضراوات، طماطم، خيار، بطاطا، سبانخ، لوبيا، سلق. لم يتبق سوى مرحلة السقي، وأما هذه فقد فكر عطوان بجلب المياه العذبة بواسطة مركبات حوضية كبيرة. الأمر الذي لم يكن مستحيلاً بقدر ما كان مكلفاً، لكن إرادة الفلاح البصري، الذي ناهز الستين من العمر، كانت أقوى من أن تنتكس بسهولة. وبالفعل، اتجهت في اليوم التالي خمس عشرة سيارة حوضية مليئة بالمياه العذبة إلى الأرض، وقام الجميع بالإشراف على سقيها حتى فاضت وارتوت وكادت أن تنطق بذلك.
بعد أن انتهى كل ذلك، وقف عطوان على أرضه مُتخصِّراً، يتأمل ما تم إنجازه. تخيّل الأرض وقد تحولت إلى بستان أخضر كما كانت في الماضي، مليء بالخضار والفاكهة والمحاصيل الزراعية. انفرجت أساريره، وعاد إليه الأمل، وشعر بالارتياح، فها هي أحلامه تتحقق، وما هي إلا عدة أشهر حتى يجني ثمار تعبه.
إلا أن ثمة ما طرأ، ولم يكن في الحسبان.
ففي غروب أحد تلك الأيام، التي أعقبت نهاراً من السقي بالمياه العذبة، نهض فصيل من الجنود المدفونين تحت الأرض، منذ الحرب، وهموا بالمغادرة. أجفل الفلاح البصري وأحس بالذنب يأكل قلبه، كما لو أنه طردهم من بيته وليس من أرضه. وضع يديه فوق رأسه وراح يولول وسط دهشة وذهول أولاده. ركض في إثر الجنود حتى لحق بهم. كانوا أربعة عشر جندياً مثقلين بالأوحال وتراكم الزمن. لم يتعرف على هويتهم، ولم يكن ذلك همه. استوقفهم وراح يتوسلهم بالعودة إلى أرضه.
«عفواً أيها الجنود» قال لهم: «لم أقصد إزعاجكم، ولو كنت أعلم أنكم تسكنون باطن هذه الأرض، لما تجرأت على ايقاظكم!»
«لا تحاول يا شيخ» قال أحدهم وهو يعيد فص عينه اليمنى، الذي انزلق من محجرها فجأة: « ليس لنا مكان في هذه الأرض بعد الآن»
«لماذا؟» سأله الفلاح البصري بتوسل: «أين تريدون الذهاب؟»
«إلى مكان آخر» أجابه جندي آخر بينما هو ينتزع رصاصة صدئة من رأسه: «مكان يتوفر فيه الملح على نحو كافٍ»
«ملح؟!» صاح الفلاح كما لو أنه أصيب بصعقة: «وما حاجتكم للملح؟»
كان الأبناء الخمسة يسمعون هذا الحوار المثير بين والدهم الفلاح البصري المذعور وفصيل الجنود القتلى، وقد فغروا أفواههم من شدة العجب.
«هل أنت غشيم يا شيخ، أم أنك تتغابى؟» قال أحد الجنود وهو يبصق شظية كانت مستقرة في حلقه.
«أنا أقول لك لماذا سنغادر أرضك» قال الجندي الآخر وهو يعيد أحشاءه المتيبسة من خلال الشق الذي أحدثته قنبلة في بطنه: «بعد أن كشطت الملح عن سطح هذه الأرض، وبعد كل هذه الكميات الكبيرة من المياه العذبة التي غمرتم بها عظامنا، أحسسنا أن موتنا لم يعد له طعم!» «نعم أيها الشيخ» أكد أحد الجنود الأربعة عشر بصوت مبحوح، وهو يعالج تفاحة آدم في نحره كي لا تقع: «بسببك أنت لم يعد لموتنا طعم أبداً!»
وغادروا.