يُعرّف الفن، على أنّه التعبير أو التطبيق للمهارات البشرية الإبداعية والخيال، وما ورثته الأجيال البشرية، جيلًا وراء جيل، إلّا لمحات تُخلّدها الحضارات، لمن يمرّون عبرها من الموهوبين والمثابرين، وربما المحظوظين ممن يذكرهم الناس، ويثبّت حضورهم التاريخ، وشأن المجتمع الفلسطيني مثل غيره من المجتمعات، تجسّدتْ فيه براعة المبدعين، من حيث نوعية الإنتاج الفنّي على سبيل الخصوص، وهناك أسماء لا حصر لها، كانت وما زالت، ترفدُ هذا الإرث الثقافي الجمالي للحضارة الفلسطينية، وترصدُ ملامحها ومعالمها ، مطعّمة بالمختلف من المكتسبات الحضارية، ومتعلّمة مما يستجدُّ في عجلة التطور الإبداعي على مستوى العالم.
وفي ذلك، نُجري حوار مع الفنان التشكيلي آدم شحادة، الّذي أثار الدهشة بلوحاته المُندرجة تحت الواقعية المفرطة، وهي لوحات استغرقت منه ساعات طويلة من العمل والتحدي، لينجزها بالصورة المتقنة الّتي يقدمها إلى المتلقي، الّذي يقدّرها بشكلٍ كبير.. لذا، نطرقُ عالمه؛ لنتعرف على بعضِ ملامحه، الّتي تأتي بذلك النتاج المدهش!
معرضك الشخصي «شموس لا تنطفئ» بتاريخ 16 يناير 2019، كان تلخيصًا لمشوارك، بلوحاتك المُتقنة، والتي تُصنّف باسم الرسم التصويري.. لِمَ اخترت هذا العنوان؟
كلمة «شموس»، تدلُّ على الأزلية الممتدة عبر الأزمان إلى الأبد، وأيضًا ضرورتها للكون والبشرية، حيث دونها العدم، فهي تُحدّد وحدات الزمن كلّه، الماضي والحاضر والمستقبل، وتؤثّر في حركة الكواكب الّتي تُحدد الأيام والسنين. كما تدلُّ على الوجودية الأبدية للفرد، المتمثّلة بقيمة الإنسان لا بماديته، والّتي تدوم، ولا تزول، فإن كان الإنسان في بعض مناطق العالم، يشعرُ بفقدان القيم، فإنّ الفلسطينيين بشكل خاص، يشعرون بألم فقدان أهم قيمة، وهي الحرية والسلام، ويُشاركهم بذلك، الكثير من شعوب الأرض.
عندما نقول لا تنطفئ، كونها مُمتدة لا يصيبها الفناء ولا العدم، فهؤلاء الشموس، نماذج كونية، ترنو العيون إليهم كل حينٍ، في طريق تحقيق الهدف الأسمى، لذلك رمزت إلى لوحاتي بشموس لا تنطفئ.. التقيت بكل المبادئ والمثل العليا في كل الأديان السماوية، فرسالتي من وراء ريشتي، هي رفع الظلم والقهر عن جميع الأطياف؛ لينعم الكلّ بالمحبة والسلام.
كيف تُقيّم أجواء المعرض وردود فعل الناس؟
غمرتني محبة الناس واندهاشهم بلوحاتي، لم أتوقع أن يصل خبر معرضي إلى هذا العدد الكبير، وأن يحضر الافتتاح رغم الأحوال الجوية الباردة في شهر يناير، وقد لاحظت أيضًا شيئًا جميلًا في الحضور، حيث أنّ انجذابهم لم يكن فقط نحو أعمالي، لكن نحو الموضوع الّذي أبحث فيه؛ «القيم الإنسانية».
ما بين 90-170 ساعة، تستغرقُ هذا الوقت تقريبًا لإنجاز لوحة واحدة، صبر تُحسد عليه، وساعات طويلة، والنتيجة دومًا مذهلة.. حدّثنا عن لحظات الانتهاء كلّ مرة؟
دائمًا ما أقول: الفن الجيّد يحتاج إلى عنصر الصبر بشكل أساسي، فأنا أعتبره هدية إلهية، ساعدتني كثيرًا في تطوير موهبتي ذاتيًا، وساهمتْ في نمو شخصيتي وعلاقاتي مع عائلتي والآخرين. عندما أبدأ عملًا فنيًا، تكون عيني على النتيجة النهائية، وأتخيلُ تمامًا ما ستبدو عليه. أقضي الكثير من الوقت، في تأمل الصورة المرجع الّتي أريد رسمها، أعيش حكايتها وأدرس تفاصيلها، عادةً لا أهتم للوقت في رسم لوحاتي، وأمنحُ العملَ ما يحتاجه من وقت وجهد، ودائمًا ما تُمثّل النهايات لحظات الفوز في التحدي، والإنجاز الممزوج بالحب والتعلّق، وأيضًا أراقب النهايات بعينٍ ناقدة، بحثًا عمّا يُمكن تحسينه. مع كل لوحة جديدة، أواجه عقبات وتحديات لم أقابلها من قبل، فأتخطاها بالصبر والإصرار، علمًا أنّني أُنتج هذه الرسومات المعقّدة، دون توفّر العديد من الأدوات اللازمة لهذا النوع من الفن، وفي ظلِّ الضغط النفسي، ومشاكل الكهرباء في غزة.
بما أنّك تتحدث عن الضغط النفسي، ومشاكل كانقطاع التيار الكهربائي.. هل تُفكّر بالهجرة إلى مكان آخر غير فلسطين؟ هذا السؤال يأتي في ظلِّ توجه كبير من قبل الشباب للخروج من غزة؟ هل وجد آدم شحادة نفسه في وطنه، أم أنّه يطمح للعيش في مكان آخر؟
فلسطين وطني الّذي أحب وأنتمي إليه، لم أفكر بهجره من قبل، ولا أفكر بهذا، فأنا وليد الأحداث الّتي مرّت بها فلسطين، ولها أُرجع الفضل في تكوين هويتي، وتحديد مساري الفني. لكن لن أتمكن من التّعرف على ما يمكن أن أصل إليه، أو أن أرى أعلى نقطة في نجاحاتي كفنان، إذا بقيت حبيس جدران غزة المحاصرة. أسعى لأن تكون لي زيارات للخارج، بهدف المشاركة أو إقامة معارض فنية، فردية كانت أم جماعية، أُسلّط من خلالها الضوء على الجوانب الإنسانية لقصتنا، أو مثلًا للدراسة، أو المشاركة في ورش عمل فنية، تساعدني على المضي قدمًا والتميّز في ممارساتي الفنية.
كيف تتخيّل العالم بعيدًا عن الحروب؟
هدفي الأسمى هو فضح الظلم والفقر والتمييز من خلال الفن، والإضاءة على مبادئ المساواة والعدالة بين شعوب العالم؛ ليعمّ الاستقرار وتنعم الشعوب بحياة خالية من النزاعات، المبنية على الطمع والتمييز العرقي أو الطائفي. أتمنى أن يأتي هذا اليوم، الّذي أرى فيه العالم بلا حروب.
هل تجد أنّك تترك أثرًا فعلًا؟ وكيف يبدو اصرارك على الاستمرار، وطموحك الشخصي في إطار الفن الذي تتقنه؟
بالطبع، لمستُ هذا أثناء معرضي الفردي الأخير «شموس لا تنطفئ»، حين قابلت الجمهور وتفاعلتُ معه بشكل شخصي، الكثير من الفنانين الصاعدين اعتبروني مصدر إلهام في تحسين أدائهم، وتطوير مهاراتهم، والكثير من المثقفين والفئات الأخرى، سواء من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو ممّن قابلتهم، أشادوا بنوع الفن الّذي أقدمه، والجهد الّذي أبذله في إتمام اللوحات. قطعتُ رحلة طويلة في مشواري الفني، وما زال لديّ الكثير لأكتشفه وأقدمه، وأسعى جاهدًا أن تصل رسالتي الإنسانية من خلال أعمالي، لكل مكان في العالم، خاصةً إلى صُنّاع القرار والمسئولين، آملًا أن أكون مؤثرًا في عملية التغيير نحو عالم خالي من الحروب والمآسي.
هل تُفكّر في تعليم الآخرين مهاراتك في الرسم الواقعي؟
قمتُ بذلك عدّة مرات، من خلال ورش فنية بأسعار رمزية، وأيضًا من خلال الرد على استفسارات الفنانين الّتي تصلني على حسابات التواصل، كما أنشر فيديوهات قصيرة أثناء عملية الرسم.
لِمَ لا نجد من يرسم الحياة الاجتماعية في فلسطين.. هل الحرب ومشكلة الشعب الفلسطيني طاغية على المشهد الفني؟
دائمًا ما يتأثّر الفنان بالبيئة الّتي يتفاعل معها، ومن الطبيعي أن نجد التنوع في المواضيع الّتي يبحث فيها الفنان الفلسطيني، فمنهم من رسم الطبيعة، كأشجار الحمضيات الّتي تشتهر بها بلادنا، ومنهم من تناول المواضيع والقضايا الاجتماعية، كالترابط الأسري والمجتمعي والفلوكلور والثوب الفلسطيني، ونجد الكثير ممن تناول المعاناة الّتي يمرُّ بها شعبنا بشكل متواصل منذ الاحتلال. وربما يرجع السبب في كثرة التركيز على قضيتنا، من قبل الفنانين خاصة في غزة، إلى الحسِّ الإنساني والعاطفي، الّذي قد يملكه الفنان بدرجة أعلى من غيره، فتعلو صرخات المظلومين من أبناء شعبه، وبالتالي ينعكس هذا على لوحاته وممارساته الإبداعية. هذا التنوع الإيجابي بين الفنانين، يُضفي قيمة رائعة على المشهد الفنّي في فلسطين، وأعتقد أنّنا يجب أن ندعم هذا التنوع الهادف، الّذي نفخرُ به.
إذن هل هذا الأمر على أهميته، يعني أن يتم تجاهل الطبيعة والأسواق والمناطق الأثرية، وغيرها من التفاصيل المهملة من قبل الرسامين، أم هناك من انتبه لهذه الموضوعات، وكرّس فنه لتجسيدها؟
الفنُ رسالة، والفنانُ ساعي بريد حرٌ في انتقاء الرسالة الّتي يودُّ إيصالها، لكن لا بدّ للفنان أن يكون موضوعيًا، وألّا يتجاهل محيطه الّذي يعيش، وأن يكون متوازنًا في تصوير جوانب الحياة الّتي يعيشها. فكما اخترتُ أن أرسم الجوانب المختلفة للحياة في غزة، من فرح وتحدي وصمود ومعاناة.. الكثير من الفنانين الفلسطينيين الّذين قابلتهم، قاموا برسم الحياة الاجتماعية والتراث والمدن الفلسطينية، وهذا شيء جميل.
حدّثني عن ساعات الرسم.. هل تُخصّص وقتًا أم تذهب كلّما شعرت بالرغبة في العمل على لوحة جديدة؟
فنّي يندرج تحت «الواقعية المفرطة»، وهي رسم اللوحات بأدقِّ تفاصيلها، وجعلها تبدو كصور فوتوغرافية عالية الجودة. وعملية الرسم تكون طويلة، تمتد لأيام وأشهر للوحة الواحدة، مثل زرع بذرة والاعتناء بها ومراقبتها، تنمو يومًا بعد يوم. أُخصّص ساعات يوميًا للعمل على اللوحة الّتي بدأتها، لكن أتوقف كثيرًا عند التعثّر في الأجزاء الّتي تحتاج لدراسة، وكأنّه نداء لآخذ قسطي من الراحة الذهنية والبدنية، لأعود مجددًا بعد فترة قصيرة أو طويلة، بحافز أكبر لمواصلة التحدي.. للأسف، عادةً ما تكون أسباب التوقف عن الرسم هي أسباب خارجة عن إرادتي، كانقطاع التيار الكهربائي، والضغوطات النفسية كوني أعيش في غزة، الّتي توجعها الحروب والحصار.
كيف تختار موضوعات الرسم عادةً؟
اختيار الموضوع، لا يقلُّ صعوبةً عن رسم اللوحة، أقضي أيام وأسابيع في البحث عن الفكرة المُمثّلة للرسالة الّتي أريدُ ايصالها، وتسليط الضوء عليها. ورسالتي عادةً ما تتأثر بإحساسي وآرائي في القضايا الإنسانية، سواء المحلية أو العالمية.
عن علاقة الفنان بالجمهور.. هل يرضيك حجم الإقبال والإعجاب بما تفعله؟
أكنُّ لجمهوري كل الاحترام، وأُقدّر التشجيع الّذي تلقيته في السنوات الأخيرة، والّذي كان له الأثر البارز في استمراري بممارسة الرسم وإنتاج لوحاتي. في يومنا هذا، ومع وجود العديد من الفنانين المميزين أصحاب المواهب حول العالم، أصبحت الانتقائية حاضرة، في اختيار من نتابع على مواقع التواصل الاجتماعي، لذا أنا محظوظ وممتن لكل من اختار أن يتابع أعمالي. هناك الكثير ممن يتابعني، مُذ بدأتُ بنشر أعمالي على الانترنت؛ عرب وأجانب، ويتواصلون معي باستمرار.
كيف ترى المشهد الفني الفلسطيني؛ هل ترى مثابرة وتطوّر للفنانين التشكيليين هنا؟
أحبُّ التّنوع في الموضوعات والأساليب الّتي يستخدمها الفنانين في فلسطين، وأرى أنّ هناك تطور ملحوظ في اجتهاد الرسامين، وإصرارهم على الإنتاج الإبداعي، هناك جيلٌ جديد من المواهب الواعدة، والّتي أتمنى أن تستمر في تقديم مواهبها بالشكل الأفضل.
هل نحنُ بحاجة لمتحف وطني، يجمعُ أشكال الإبداع الفنّي الفلسطيني، ويسمحُ للمهتمين بالمتابعة والاستمتاع؟
هذا ما يحتاجه الفنّانون؛ متحف وطني، يديرهُ نخبة من الخبراء والمختصين بالفن، فالمشهد الفنّي الفلسطيني مليء بالإبداع والجمال. وأيضًا هناك الكثير من المواهب المحلية، الّتي يجب أن تلقى الدعم والاحتضان، وتوفير ما يلزمها؛ كي تُبدع وتنافس عالميًا، لنرتقي بثقافتنا وحضارتنا بين الشعوب الأخرى.
آدم شحادة
فنان فلسطيني، مواليد العام 1991، اكتشف موهبته في سنِّ الخامسة، وحظي باهتمام العائلة والمُدرسين، فتوفّرت له ظروف جيدة دعمته ليتابع شغفه. اتّخذ من الواقعية المفرطة أسلوبًا يُعبّر فيه عن رؤيته للعالم ويُجسّد قدرته على الإبداع. شارك في العديد من المعارض الجماعية المحلية والخارجية، حصل على العديد من الجوائز.