للنسق السينمائي الفلسطيني تاريخ طويل من المحاولات الإبداعية، فقد عرفتْ السينما الفلسطينية قبل العام 1948 عددًا من التجارب، الّتي على الرغم من قلّتها ومحدوديتها، وعدم اكتمالها أو نموّها، إلّا أنّها تستحقُ أن يُشار إليها، فقد كانت بداية العمل السينمائي الفلسطيني على يدِ مُخرجين مثل إبراهيم حسن سرحان، الّذي تعاون مع المخرج جمال الأصفر لتصوير أول فيلم فلسطيني يحمل عنوان «أحلام تحققت». ولسرحان عمل وثائقي سينمائي سابق على «أحلام تحققت»، وهو بعنوان «زيارة الملك سعود بن عبد العزيز إلى فلسطين». إلى جانب ذلك، نرصدُ مساعي سينمائية أُخرى مثل «ليلة العيد» و«حلم ليلة»، وغيرهما من الأفلام غير المُكتملة، أو الّتي لم تحظَ بأرشفة. بالإضافة، عرفتْ السينما الفلسطينية محاولات أخرى لمنتجين ومخرجين آخرين، نذكُر منهم أحمد حلمي الكيلاني، ومحمد صالح الكيالي، وخميس شبلاق، وصلاح الدين بدر خان.
وعلى الرغم من مرور السينما الفلسطينية بعددٍ من المحطات المفصلية في تاريخها، وذلك تبعًا للتحوّلات السياسية والاجتماعية، الّتي مرّت بها فلسطين والقضية الفلسطينية، والّتي تُحرّك الإنتاج الإبداعي، وتؤثر على النسق السينمائي وتبلوّره، إلّا أنّ زخم حدث النكبة لعام 1948، كان الأكثر تأثيرًا على مسارها، وعلى الإشكالات الّتي تعرّضت لها، فقد مُثلّت النكبة بكثافة في السينما الفلسطينية كمادة محوّرية، وإن لم يتم الإشارة إليها بشكل مُباشر، فالنكبة هي الهمُّ الفلسطيني المشترك، والحدث المسؤول -بشكلٍ أساسي- عن الهموم الفلسطينية المتوالية، على اختلافاتها، فمن النكبة نبعت الهموم، وإليها تعود، وبالتالي فإن السينما الفلسطينية اليوم، هي نتاج للمشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي.
ذائقة النكبة
قدّمت العديد من الأعمال غير السينمائية، مُعالجات درامية وسردية لقضية النكبة الفلسطينية، كحدثٍ سياسي وإنساني، جسدّت فيها قصة المُعاناة والكفاح والنضال الّتي عاشها الشعب الفلسطيني منذ العام 1948، لعل أكثرها شُهرةً وتأثيرًا المسلسل التلفزيوني الدرامي «التغريبة الفلسطينية»، من تأليف وليد سيف، وإخراج حاتم علي، والّذي بُثّ لأول مرّة عام 2004، وتمّ فيه تناول النكبة الفلسطينية، بما سبقها من ثورة ونضال، وما تبعها من شتات ولجوء ونكسات، من خلال بناءٍ مُحكمٍ للأحداث وللشخصيات، عاكسًا واقع النكبة، وحجمها الكارثي الحقيقي، في مشاهد بلغت من الحزن ذروته، خاصةً مشهد النكبة والخروج نحو المجهول، وافتراق العائلات، وهو بمثابة بورتريه الشتات، والانفصالين المادّي والمعنوي.
أمّا في فضاء السينما الفلسطينية، فقد تمّ تصوير النكبة بصريًا وصوتيًا، بطريقة يتم من خلالها مظهرتها، بحيث يُبرِز البناء الجمالي والإبداعي عمق الأزمة النكبوية كحدث انتقالي، ولتبيان استمرارية حالة النكبة بأشكال مُختلفة، بما تتضمنه من استلاب وضياع على شتّى الأصعدة، السياسية والاجتماعية والهوياتية وغيرها، ولربط المخزون الثقافي الفلسطيني بمُعترك النكبة، وذلك في إطار تشكيل وعي هوياتي، وإدراك معرفي، من خلال سيميائيات تعكسُ الذاكرة الجماعية للأفراد الفلسطينيين، ومختلف مركبات الحالة الفلسطينية، بهدف إعادة ترسيخ هول هذا الحدث، ومواجهة محاولات التشويه والحطّ من بشاعة النكبة، من خلال تناول أحداث واقعية، وقصص عايشت هذا التاريخ، وما ترتب عليه. ولذا، يُمكن اعتبار الأفلام الفلسطينية كأدبيات للنكبة، فهي عمل تأريخي يهدف إلى إبقاء الحدث النكبوي نَشطًا في الذاكرة الفلسطينية، ولترسيخه كجزء من سردية التحرُّر. وقد تنوّعت هذه الإنتاجات بين الأفلام الروائية، والأفلام الوثائقية، وتلك الّتي دمجت بين هذين النمطين، والّتي تعملُ على مواجهة الصعوبات الإنتاجية، وعلى تحدي وموازاة الإنتاجات الإسرائيلية، الّتي تقوم بتزييف الحقائق التاريخية؛ خاصّةً فيما يتعلق بحدث النكبة، وفي ذلك أفلام مثل «الجنة الآن»، «سجّل اختفاء»، «الاستعادة»، «ملح هذا البحر»، «يد إلهية»، «عُمر»، «3000 ليلة»، «لمّا شفتك»، وغيرهم.
وبالتالي يتمثّل التّحدي أمام السينما الفلسطينية، في القُدرة على تصوير حقيقة النكبة الفلسطينية بكل تجرُّد، بمشاهد لا تُضعف عمق الصراع التاريخي، وتعقيده الأيديولوجي، ولا حساسية جمهوره. وقد حاولت عدد من الأفلام تصوير النكبة بهذه الطريقة، من خلال استعراض أرشيف النكبة الفلسطينية كما حدثت بكل تراجيدياتها. ولا يُمكن إغفال إسهامات ثلاثة من المُخرجين عرفتهم السينما الفلسطينية، والّذين غيّروا طابعها، وكسروا نمطيتها، ونقلوها من شاشات العرض المحلية، إلى شاشات العرض العالمية، بما أحرزوه من تبدُّل من طريقة العرض الفني في الفضاء السينمائي، فالأفلام الّتي تُنسب لهؤلاء المُخرجين، والّتي تقوم هذه المقالة بتقديم قراءة موجزة حولها، تُعدُّ نماذج سينمائية تطرقت لإشكاليات رُصِدَت من خلالها التحوّلات الفردية والجماعية الّتي رافقت مسيرة الفلسطيني، وشكّلت حيّزه السياسي والمجتمعي.
يتمثّل التّحدي أمام السينما الفلسطينية، في القُدرة على تصوير حقيقة النكبة الفلسطينية بكل تجرُّد، بمشاهد لا تُضعف عمق الصراع التاريخي، وتعقيده الأيديولوجي.
النكبة ليست حدثًا سياسيًا فقط
فيلم «باب الشمس»، وهو من إنتاج عربي-فرنسي عام 2004، لمخرجه يسري نصر الله، والمأخوذ عن رواية للكاتب اللبناني إلياس خوري، تمّ اختياره كأحد أفضل عشرة أفلام عالمية من قِبَل مجلة «تايم» الأمريكية، فقد نجحَ في توثيق النضال الفلسطيني، حيث يختمر الفيلم بمشاهد كثيفة تُعرض في جزئين، الأول بعنوان «الرحيل» ويتناول فترة النكبة بالتحديد، والثاني بعنوان «العودة» والّذي يُشكّل مخيم شاتيلا فيه مادّة سينمائية تُطرح من خلالها أسئلة وجودية وقضايا نضالية، ويمتد الفيلم بجزئيه ليؤرخ للتحوُّلات الاجتماعية والسياسية في الفترة ما بين العام 1936، أي منذ الثورة الفلسطينية الكُبرى، وحتى عام 1994، أي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وانتقال أبطاله من الجليل، إلى مُخيّم شاتيلا بلبنان. ويبتعد الفيلم عن التناول السطحي للقضية الفلسطينية، فيعرض لبيئة الحياة خلال عملية التهجير والشتات، وفي المُخيّمات كما هي، دون مُحاولات تجميلها، حيث تناول الفيلم، خاصةً الجزء الأول منه، جغرافية النكبة من زوايا متعددة، عارضًا تفاعلات جميع التفاصيل والعناصر في خضم هذه المأساة، طارحًا قضية فلسطين العادلة، من حيث دور الرجل في النضال، ودور المرأة في التضحية، عارجًا على قصص الحب والحرب. وتُروى القصص النضالية والغرامية في الفيلم عن طريق الفلاش باك، من خلال شخصية خليل، حيث يرقدُ أحد الشخصيات المسماة «يونس» في غيبوبته بعد عملية فدائية أُصيب خلالها، فيبقى خليل، الفدائي السابق، يجترُّ الذكريات والآلام، ليُلقيها على مسامع يونس الغائب، القابع في مستشفى مُخيّم شاتيلا في لبنان، مازجًا بين أسلوبي السرد، والتوثيق التاريخي، في رمزية تُحيل إلى الأمل والضياع، ومحاولات التعلُّق بالرمق الأخير من الوطن. وعالج الفيلم انعكاس القضية السياسية على الجوانب الحياتية للفرد الفلسطيني، من خلال التركيز على هذه الجوانب بشكل غزير، وتصوير تعاطيه مع الجوانب السياسية، واستيعابه للاستيطان الإسرائيلي، وطريقة تعامله مع الأوضاع الجديدة الّتي فُرضت عليه جرّاء النكبة، والصدمة الّتي بقيت مُلازمة للخيال الفلسطيني في دول المهجر، والعيش على أمل العودة، حيث عبّرت عن ذلك أحد شخصيات الفيلم قائلةً: «إحنا ما عرفنا فلسطين، إلّا بعد ما راحت». وبالتالي، فإنّ حبكة الفيلم تجعل النكبة مرئية وملموسة، أكثر من أيّ عمل آخر، فهو يرى ما لم يعُد يُرى، ويتميّز بتركيزه على المناحي الاجتماعية والثقافية، في إطار تاريخي وسياسي.
سوداوية النكبة المُضحكة
إيليا سليمان، المخرج الفلسطيني، الّذي نال مؤخرًا جائزة الاتحاد الدولي للنُّقاد لأفضل فيلم في مهرجان كان «لا بد أنّها الجنّة»، فقد عُرض له فيلم بعنوان «الزمن الباقي» عام 2009 في كلٍ من مهرجان «كان» السينمائي، ومهرجان «تورنتو» السينمائي الدولي، وهو من إخراج فرنسي-إيطالي-بلجيكي-بريطاني، وهو عبارة عن سيرة ذاتية لعائلة فلسطينية، تُرجمت من خلالها سردية النكبة بكوميديا سوداء، وببناء مُحكم للنص يتناولها بأسلوب ساخر ليعكس ألم الذاكرة والشتات، وتوارث الألم الفلسطيني، واستمرارية حالة الاغتراب المكاني والنفسي، والصراع في إدراك الشخصية المحورية لذاتها، وبطريقة مُبهمة كذلك، ليعكس تعقيدات القضية الفلسطينية في نكبتها وشتاتها واغترابها النفسي والوجداني، دون محاولات لاستعداء الشفقة لدى المُشاهد. وينتهي الفيلم، كما بدايته، بعودة الشخصية المحورية إلى الأرض المُحتلّة، في مشهد يرمز للضياع الهوّياتي، ممزوج بالوعي والانتماء، وتتكوّن مفرداته من الهجرة والشتات. ويفتح المخرج آفاقًا للمشاهد، ليسرح بخياله وتحليلاته، من خلال الإشارات الرمزية، ولغة الصمت، والنكات. ويتمّ تصوير النكبة من خلال إبراز الطابع الإنساني والوجودي، وليس بناءً على قيم أيديولوجية وخطابية، وتسليط الضوء على القضايا السياسية التي باتت تُعامل بلامبالاة وملل وضجر.
الاغتراب في الوطن
أما فيلم «السطح»، الّذي عُرض عام 2006، فيتحدّث عن عائلة فلسطينية تعيشُ في منزلٍ هُجّر عام 1948 من قِبَل سُكّانه الأصليين، الّذين خلّفوا وراءهم «السطوح» غير مُكتمل البناء. ويصنعُ المخرج كمال جعفري من خلال بنية الفيلم وأدواته، عملًا يتماهى في طابعه بين الوثائقي والدرامي، في محاولة لأرشفة التجربة النكبوية، فمن خلال اشتباك مع واقع الحياة، والدراما الحياتية الّتي تحدث في النسق اليومي في مدينة الرملة، يتمّ توثيق شهادات الأفراد الّذين عاشوا النكبة بناءً على التجربة الحية، والّذين قاسو تبعاتها. وترصدُ الكاميرا، من خلال حركتها البطيئة الّتي تترك للمشاهد مجالًا للتأمل، مدينة الرملة، حيث تلتقط العدسة التحوُّلات الّتي طرأت على هذه المدينة منذ النكبة، مع توثيق شهادات ساكنيها من الفلسطينيين، هؤلاء الساكنين الّذين يتخذّون من العام 1948، مرجعية للمآسي الّتي حلّت عليهم، وبالتركيز على لغة جسدهم، حيث تُلمَس التفاعلات النفسية الّتي يمرّ بها الفلسطيني، وذلك في إطار محاولة تثقيفية، ومحاولة لإعادة موضعة الانتماء للمكان وللهوية، بالإضافة إلى تناول الفيلم لهذه التحوُّلات والتفاعُلات على مستوى أعم، من خلال تبيان التهميش الّذي يتعرض له الفلسطيني اليوم في دول المهجر جرّاء النكبة، فينطوي على ذلك تصويره على أنه إرهابي، وأنّه منقوص الهوية السياسية والإنسانية. ويعكس الفيلم أصوات المُهمشين من الفلسطينيين، من خلال نُدرة الحوارات، ليعكس حالة الشُخُوص التي يعيشها الفلسطيني على أرضه المُحتلة، وكأنه طارئ عليها، حيث يظهر أحد الساكنين في الرملة ويقول: «الرملة زادوا عليها الروس، إجو استلموا المناطق كلها، العرب بطّل إلهم وضع في الإعراب، إحنا صحاب الأرض، صرنا بالدَنَب، مش نافعين»، بالإضافة للإضاءة الباهتة والضبابية، والبيوت المُدمرّة، والرُكام، ليُبيّن الفيلم الآثار الّتي خلفتها النكبة في روح سُكّان مدينة الرملة، وليعكس الواقع الاستيطاني الإحلالي المُباشر، ما يبرز السيطرة السياسية التهميشية للاحتلال.