بعد مرور اليوم الثاني عشر من الحجر المنزلي، بات من الضروري الخروج مرة أخرى لشراء مواد تموينية أهميتها متوسطة. لم تزعجنا مراقبة الثلاجة التي تناقصت محتوياتها بكميات محسوبة، ولم تزعجنا قائمة المشتريات التي طالت هذه المرة.
نحب كتابة القوائم بغض النظر عن نوعها.
تجرأنا في الأيام الماضية على تجربة وصفات جديدة، عالمية ومحلية، ونقعنا أخيراً كيلو فاصوليا بيضاء حبة كبيرة الذي انتظر عاماً أو أكثر على طرف رف المونة، نقعنا الفاصوليا ليلة كاملة قبل سلقها وطبخها. نفكر اليوم، أنا وزوجتي في نقع حمص حتى ندلل أنفسنا بالخيارات الممكنة التي سيوفرها لنا سلقه في اليوم التالي.
حمص، مسبّحة، فتة، فلافل، مجدرة حمص … إلخ.
لم يتوفر الوقت قبل أزمة الكورونا لمعالجة البقوليات وتناولها، على الأقل لم أشعر بشكل شخصي أن تلك العملية «جايبة همها». قد سنحت الفرصة الآن إلى توسيع قائمة الطعام، هناك وقت كافٍ للتفكير والإعداد جيداً. التنازل للبقوليات ومراعاة حاجتها للنقع مثير للاهتمام.
أعترف، أنا بطيء.
تعددت الأطباق على طاولة الإفطار بداية الأزمة قبل أن تتناقص بشكل غير مقلق. ثبت من قائمة الطعام طوال الأيام الاثني عشر الأولى صحني الزيت والزعتر والبيض بأحد أشكاله المطبوخة أو نصف المطبوخة. استسلمت ذلك اليوم كرتونة البيض الثانية، آخر الصامدين من قائمة المواد الضرورية لإعداد عدد لا نهائي من وصفات الطعام.
الخروج من البيت مخاطرة غير ضرورية بعد، فما زال على الطاولة من الزيت والزعتر ما يكفي للإفطار عشرات الأيام إن استطعنا إقناع شهيتنا بذلك.
أثبتّ نظرية الزيت والزعتر سابقاً وتأكدت منها بينما كنت طالباً في جامعة بيرزيت. جودة الطعام على الطاولة ليست بتلك الأهمية، وتكرار الأطباق كان عادياً جداً. لشراء السجائر المناسبة أهمية أكبر في تلك المرحلة.
أود التحقق مرة أخرى من النظرية، وتثبيت قناعاتي بها، حتى أستطيع فرد عضلاتي على الأجيال القادمة بفتواي المجربة.
الزيت والزعتر يكفيان للبقاء قيد الحياة.
يا لي من رجل مختلف.
أفكر الآن، هذه اللحظة بينما أحدق في صحني الزيت والزعتر، في أسباب إعجابي الشوفيني بهما. ربما كمن مصدر قوتهما في محلية مركباتهما البسيطة، ولشعوري العميق بقرب شجرة الزيتون، ووفرة نبتة الزعتر على سفوح التلال المحيطة. أدعي وأنا على يقين من سذاجة ادّعائي أن هناك حقيقة تختبئ في الفلسطيني بشكل خاص، مفادها أنه لن يتضور جوعاً إن راهن على الزيت والزعتر لصمود أسطوري.
الأساطير ملاذي الأخير.
بينما كانت عاطفتي الطفولية تتلاعب بصحني الزيت والزعتر، لازمني صوت طائرة الاحتلال الزنانة كخلفية مستمرة غير مرغوب فيها. سَرحت تلك الطائرة فوق سماء مدينة رام الله في ذكرى يوم الأرض الفلسطينية العام 2020 المحتد هذا.
مرعب صوت الطائرة الزنانة إن فكرت فيه بشكل منفصل، ولكنه عادي إن سبقته إلى السيطرة على خاطري جائحة عالمية أكثر رعباً، وأولويات أقرب أثراً.
تساءلت: كيف تستمر أدوات الإخضاع هذه، أقصد صوت الطائرة الزنانة، وعلى أبوابنا والشبابيك جائحة عالمية؟
في هذا الفاصل الذي فرضه الفايروس، كل شيء ساكن وبعيد عدا أفكاري عن الزيت والزعتر، وخلفية صوت الطائرة الزنانة تلك.
ماذا تبقى من أدوات الاحتلال غير خوفي منه.
أمان نسبي، أنا بعيد كفاية عن أقرب جندي، أجلس على الطاولة، أحدق في صحني الزيت والزعتر بعد أن فَرَغت الصحون الأخرى. غير ذلك، لا أقوم بفعلٍ غير الكتابة على هذه الطاولة هذه الأيام.
أستشعر خوف الاحتلال مني كلما طالت فترة الانفصال لا خوفي منه.
لا يستطيع ذلك اللعين البقاء دوني حتى لأيام عدة، تراه يسارع ليقتحم ما تبقى من بيوت لي، يأتيني مكمماً خوف عدوى الفايروس أثناء المداهمة. يسرق بعض الحياة مني قبل أن يهرب ببطء مثير للشفقة.
هم خائفون أيضاً.
علاقة القوى بيني وبين الاحتلال الإسرائيلي ليست مقتصرة على الآثار المباشرة للقمع من إفناء، ونفي، واستبدال، بل هي أعمق وأشد، تجذرت منذ عشرات الأعوام حتى باتت قهرية مَرَضية، تشكل كلانا بوعي ودونه.
الإخضاع عادة المحتل الواجبة، والخضوع صورة الضحية المثالية.
لُعِنّا عندما ظننا أن العالم لا يتعاطف مع الأقوياء، فجلسنا متربعين في القطب المريح من ثنائية الإخضاع تلك، المحتل الإسرائيلي قاهر، والفلسطيني ضحية.
غذّى كلانا الآخر حتى استوت معادلة العالم الظالم، كلانا يستند إلى الآخر حتى يبرر فعله ورد فعله. يسرقون الهواء والماء وتراب الأرض ونكتفي بأنين الضحية المتواطئ.
لا مهرب من براثن ثنائية القهر إلا باقتصاد مقاوم، يزرع ويصنع. اقتصاد فلسطيني واعٍ، يدرك الفرق بين السلع الأساسية، والزوائد الترفيهية مهما غزت الرفوف والأرصفة، اقتصاد فلسطيني يملك القرار، يتناغم مع أطباق طاولة الطعام.
توقفت عن تفكيري الثوري وغضبي المبرر في لحظة يقين.
حدثت نفسي،
الرحلة، أو الرحلات التي خاضتها مكونات الطعام حتى وصلت هذه المائدة أمامي تتجاوز في تعقيدها فكرة انفكاكي المنشود عن الإسرائيلي وتحرري منه، فهناك فلسطينيون وإسرائيليون لا يحتملون الحياة دون الكينوا المستوردة من دول أمريكا الجنوبية. نعم، تلك الكينوا التي يحصدها الفقراء هناك.
إذاً، ما يجول في خاطري هراء،
الحرب أكثر تعقيداً مما ظننت، وهناك آخرون غيرنا في السوق العالمي الحر.
بعيداً عن الطائرة الزنانة،
قريبٌ أنا بين صحني الزيت والزعتر.
أنظر إلى وعاء يحوي الكينوا المنقوعة على الرف في المطبخ.
لا دخل للعالم بتجربتي الأهم،
أبحث عن وجبة مستقلة. هل هناك؟