كنت على شاطئ مدينة رفح ألعب الطرنيب عندما جاء صاحب الكافتيريا ليخبرنا أن الشرطة أمرتهم بإغلاق المكان، رمينا أوراقنا، وعدنا إلى البيوت. كان مشهد الناس عند الساعة الحادية عشرة مشهد الحرب، صامتين. عدنا إلى بيوتنا غير قادرين على استيعاب ما الذي حدث، وكيف نجح فيروس كورونا اختراق حِصار غزة والتفشي داخلها، وهذا يأتي في جولة تصعيد ومفاوضات تجري بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي عبر وسطاء، لا أريد الخوض في نظرية المؤامرة، لكن الشك الدائم في محاولات الاحتلال الإسرائيلي كسر وطمس الإرادة الفلسطينية، جعلني أقول لقد نجح الاحتلال الإسرائيلي في إدخال الفيروس إلى قطاع غزة، وأن الإسرائيليين، منذ البداية، يتعمدون تلويث كل ما يدخل للقطاع من معابرها بفيروس كورونا، مثلما تعمد قتل وتهجير ومحاصرة وقصف وتدمير كل شيء وأي شيء يُساعد الفلسطيني على المقاومة والبقاء.
في آذار/مارس الماضي، عاشت غزة مع العالم أحداث الجائحة، وها هي في نهاية آب/أغسطس تعيشه وحدها مرة أُخرى، هل نجحتُ في تجاوز الأمر في المرة الأولى …؟ لا أدري، هل سأنجو هذه المرة …؟ هذا يعتمد على الكثير من الأمور، أولها أنني أشك في أهميتي كإنسان في هذه المنطقة، وعلى مدار سنوات طويلة مُجربة في الحياة الفلسطينية، بدا لي أن أي شيء أثمن من المواطن. أما ثانياً، فأنا أشك في جدوى مقاومتي لتداعيات كورونا، الوافد الجديد إلى هموم كثيرة، أعاني وأقاتل وأنا أحاول التعايش معها.
في العام 2008، أنهيتُ الثانوية العامة، إن تخيلنا الحدث كلّه كمشهد، فأنا وكُل أبناء جيلنا دخلنا إلى قاعاتٍ مُظلمة، داخل مكانٍ فُرض عليه الحصار فجأة، وشُنت عليه ثلاث حروب، وقُطعت عنه الكهرباء، وأُغلقت في وجهه المعابر، وكُل ما نعايشه داخل هذه القاعات انقسام وفُرقة وخصومة استهلكت كُل شيء.
هل النجاةُ مهمة …؟
في العام 2020، ها أنا مُجدداً أعيش مع العالم فصول جائحة كورونا، وبقدر ما أدهشتني مرونة روح الإنسان ورغبتها في الحياة، أدهشتني غزة بِحصارها، لم يكن الحصار سيئاً، هذا ما قُلناه جميعاً عندما كانت أرقام الإصابات وضحايا الجائحة في ازديادٍ مُخيف، لم يكن سيئاً الحصار، قُلنا هذا ونحن نرى كيف ينتشرُ الفيروس من النوافذ والمنافذ البشرية.
أغلقنا المعابر المغلقة، وزاد خوفنا من حقارة العدو، وقرأتُ أكثر من مرة عن شكوك ومحاولات خفية للاحتلال الإسرائيلي في إدخال الفيروس إلى غزة المحاصرة، غزة التي نجحت في عزل نفسها عن الجائحة ستة أشهر يعيش مجتمعها أثر وتداعيات انتشار الفيروس بخصوصيتها، والخصوصية هنا عُذر غير القادر على فعل شيء، لا يُمكن لنظام غزة المترهل والمُحاصر والمنهك من الحروب حماية أكثر من مليوني إنسان وتوفير احتياجاتهم الصحية والاقتصادية كما فعل العالم، هنا أستطيع استيعاب كل سلوك يحاول أن يتحايل على حظر التجول والإغلاق من أجل توفير أساسيات الحياة الكريمة للإنسان وأسرته في مجتمع يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر.
على أي هامش؟
عندما أرى نفسي، أراني أعيش على مبدأ استثمار الأزمة، لقد درّبني السياق في غزة على ذلك، لا خطط دائمة، يُمكن لأي شيء أن يُدمّر فجأة ويختفي، مثلما حدث من قبل في الكثير من تفاصيل حياتي يحدث الآن مجدداً، وعندي قناعة أنني قادر على قول إن أسوأ شيء ممكن أن يحدث هو شيء جيد.
هكذا أقفُ دائماً، مدافعاً عن الخراب بداخلي، أقولُ للحياة تراكم ما، وهذا الخرابُ شاهدُ تجربتي.
أكثر ما يؤلمني وأخاف ألمه هو الفقد، الفقد والخسارة، ولدي فوبيا من ألم واستنزاف الصفر، الصفر الاقتصادي والصحي والمعيشي، أخاف من أن تستهلكني الحياة، وأخاف من فقدان الخيارات.
التجول تحت حصارين
عندما كبرت وصار بإمكاني الخروج من البيت لقضاء وقت الفراغ مع الأصدقاء في بيوتهم أو في الكافي شوب، وصار بإمكاني استخراج هوية وجواز سفر، أُغلقت المعابر، وكان المطار مُدمراً منذ ثماني سنوات، وشيئاً فشيئاً صارت فكرة السفر والخروج من قطاع غزة فكرة تشبه العثور على ماءٍ في الصحراء القاحلة، يستمر الحصار منذ خمسة عشر عاماً، خلاله سُلبنا حقنا في الحياة، فقد تكفل الحصار بتقليص ساعات وصول الكهرباء من 24/24 إلى 8 ساعات يومياً في أحسن أحواله، وتقليص فرص الحصول على سياق طبيعي يضمن لك استقراراً على المستوى النفسي والاقتصادي والاجتماعي، وشمل، أيضاً، ثلاث حروب طاحنة وموجات من التصعيد تأتي بين الحين والآخر.
طوال سنوات الحصار نجحت مرتين في السفر، الأولى كانت في العام 2013 برفقة والدتي للعلاج في القاهرة، وكانت القاهرة وقتها مساحة الركض، هُناك دربت قدماي على المشي، ودربت عيني على رؤية مشاهد جديدة في رحلات تستمر لأكثر من ساعة في السيارة، وهناك عرفت الصحراء وقطعتها ذهاباً وإياباً، وهناك رأيت كيف لا تكفي أربع وعشرون ساعة للحاق بحياة غير محاصرة. والمرة الثانية كانت زيارة برلين في العام 2019، المحاولة رقم 7 خلال 6 أشهر للخروج من معبر رفح، وكانت برلين حين زرتها هادئة مثل نهر، صاخبة مثل عاصفة، وعدت لأدرب نفسي مجدداً على الركض، والمشي، والرؤية، وعدت لأعرف الحقول والغابات ومعنى الحياة غير المحاصرة، وهناك رأيتُ سياق الحياة غير المحاصرة كيف يُثمر وينمو ويكبر.
طوال سنوات الحصار، شيئاً فشيئاً أصبح القطاع يُشبه صالون العائلة الكبير، عائلة مكونة من مليوني شخص، فيه لنا بحرنا الصغير ومنتزهات صغيرة وسوق كبير وميناء يُشبه رسمتنا للسماء ونحن أطفال. في هذا الصالون، يعرف السُكان بعضهم البعض، وليس صعباً أن يتعرف الناس على بعضهم، في الأساس يعرف أجدادنا وآباءنا بعضهم البعض، ويمكن بكل سهولة إيجاد صلة قرابة بين السكان في أقصى شمال الصالون وأقصى جنوبه، وتجمعنا سوياً حكاياتنا عن الأحداث ذاتها، إن كانت حرباً أو فرحاً، الحكاية هنا يعيشها الجميع، ويعرفها الجميع، ويمكن أن تسمع تفاصيل الحرب والحياة الحارة بدون كهرباء في الصيف، والحصار والبطالة ومسيرات العودة من جميع الأشخاص كأنهم شخص واحد، يعيش الحكاية وحده منذ 72 سنة تحت الاحتلال و15 سنة تحت الحصار، وجائحة كورونا في 2020م.
على هامش البلادة
ها أنا في غزة، مُجدداً، أدّعي أني أعي ما أفعل، وأذهب إلى خرابي وأقول هذه تجربتي، أدّعي أنّي عدت هنا مدافعاً عن الخراب في داخلي؛ الخراب الشاهد على حصاري وتجربتي وهويتي، الخراب الذي فيه ذاكرتي وحياتي، الخراب الذي فيه العائلة.
من داخل هذا الخراب أحاول أن أعبّر عن مشاعري في هذه المادة، وما أود قوله في الحقيقة أنني فقدت شعوري بالألم، وصار وجع التجارب والخذلان والحروب وانقطاع السُبل وفشل المحاولات عادياً يأتي في السياق متى شاء، وأصبحتُ أكره انكساري، وصرتُ جيداً في تجاوز الأمور، أُقلّب الصحف وقنوات الأخبار وحساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي وأرى العالم بمأساته وإنجازاته كأنه مشهد ساخر، ولا يستفزني شيء، لا مشهد الانفجار، ولا حتى مشهد الألعاب النارية احتفالاً بعيدٍ ما.
أخيراً،
كالموجِ تأتيني الحياة، تطلُّ مرتفعة ثم إلى لا شيءٍ تصير.
كالموج تأتيني التفاصيل، تُدهشني، تُسعدني، تُحزنني، تُبكيني، تُخيفني، تطرحني أرضاً ثم إلى لا شيءٍ تصيرُ بعد قليل.
أخذتُ الصَبر والأمل، أتتني البَصيرة، وسمعتُ صوتاً يُردد «البُكاء لمزيدٍ من البُكاء، الانكسار لمزيدٍ من الانتظار، والركضُ لمزيدٍ من اللاشيء.
يا حياة عَلمتني أن أقف وكي لا أسقط، قُلتِ لا تركض بل تَمشى، قُلتِ لا تنكسر بل تَمشى، وقُلتِ البُكاء حَبلٌ في القَدمين.
كالموجِ تأتيني الحياةُ، تُطلُّ مرتفعة ثم إلى لا شيءٍ تصير.