مثل كل الفلسطينيين المدمنين على ملاحقة الأخبار، تابعت قبل أيام وقائع إطلاق سراح الأسيرين لؤي صوان ومعاذ مسامح عبر إحدى محطات التلفاز المحلية. واقعة التحرر بحد ذاتها، وإن جاءت بعد أربعة عشر عاماً، لم تكن ما استقطب اهتمام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. فالاعتقال والتحرر باتا جزءاً من الروتين اليومي في بلد اعتاد زراعة الشهداء كما يزرع أشجار الزيتون. والأربعة عشر عاماً، على أهمية حب أهله للحياة والفرح، لم تعد في ظل النمو الدائم لقائمة القابعين في سجون الاحتلال منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تستحق كل هذه الجلبة.
سر هذا الاهتمام يكمن في أن الحكم الأصلي الذي استقر عليه النائب العام العسكري الإسرائيلي بشأن عقوبة سجن هذين الأسيرين لم يكن ذاته الذي أمضياه في السجن. كان القرار في حينه يقضي بسجن معاذ لسبعة أعوام، ولؤي لواحد وعشرين عاماً. إصرار معاذ على رفض صفقة النائب العسكري إلا إذا تضمنت شرط اقتطاع سبع سنوات من حكم لؤي وإضافتها لفترة حكمه، وضع النيابة العسكرية الإسرائيلية في حيرة. كانت تريد أن تنتهي من ذلك الملف كي تتفرغ لغيره، فوضعت الأمر بين يدي القاضي العسكري، الذي اشترط موافقة والدة معاذ على قرار ابنها. جيء بالأم الفلسطينية لقاعة المحكمة، وسألها الضابط القاضي. ردت بجملة واحدة: «بدَي أولادي لؤي ومعاذ يتحرروا من السجن في نفس اليوم». كلمات المذيع وهو يسرد تفاصيل هذه القضية أعادتني لأبعد من أربعين عاماً. وبالتحديد إلى القاووش رقم (2) في سجن بئر السبع في نسخته للعام 1976، الذي كان عبارة عن ثكنة من الباطون تضم بين جدرانها الأربعة ثمانين أسيراً جلَّهم من المحكومين بالسجن المؤبد. في ذلك القاووش توطدت علاقتي مع أحد الأسرى من شمال فلسطين، محكوم بالسجن لمدة عشر سنوات. كان في مثل جيلي. طالب في جامعة بيروت العربية، جرى اعتقاله قبل عامين وهو عائد إلى الوطن. في أحد الأيام، أذكر ذلك الآن بالتفصيل، كان يوم موعد الزيارة الشهرية للأسرى، وكنت حينها معاقباً بالحرمان من الزيارة لمدة شهرين. استقبلت صديقي ذاك بعد عودته من زيارة ذويه واستفسرت منه، على عادة الأسرى في مثل مناسبات كهذه، عمن قدم لزيارته، وعن جديد أخبار أسرته وأخبار البلد. على غير عادته، رد باقتضاب وشرود. كل ما فهمته منه أن أحد زائريه كان زميله الذي درس معه في بيروت. ساد الصمت بيننا لفترة. احترمت تحفظه، ولم أرد فرض نفسي عليه على الرغم من أن تقاليد السجن وبحكم العلاقة الحميمة التي تلف الأسرى، كانت توجب عليَّ استنفاد كل ما في جعبتي لإخراجه من حالته النفسية تلك.
- هل أتركك مع نفسك أم تريد أن نتمشَّى سوياً داخل الغرفة؟
- «دعنا نمشي»، رد وهو ينهض عن البُرش.
مع خطواتنا الأولى فوجئت به يطلق العنان للسانه. كلماته اندفعت كسيل تحرر من سدِّه. لم أقاطعه بتعليق أو سؤال. وحينما توقف السيل لم أجد ما أقوله. كنت مصدوماً حد البله. صديقي الفدائي هذا، كشف لي أنه لم يكن يوماً ينتمي لأي من التنظيمات الفدائية أو حتى السياسية، ولم يرغب أبداً في أن يكون واحداً من أعضاء تلك التنظيمات، بل إنه وقبل توجهه إلى بيروت اتخذ قراره الواعي بالبقاء بعيداً عن أي نشاط سياسي أو فدائي، وحصر اهتمامه في دراسته الجامعية فقط. حدث مرة أن زميله في الدراسة والسكن، ذاته الذي زاره اليوم، عرض عليه الالتحاق بصفوف أحد التنظيمات المسلحة للعمل ضمن خلايا التنظيم السري في الأرض المحتلة. لم يكتفِ، آنها، بالرفض فحسب، بل إنه هدَّد زميله بأن ينهي زمالة السكن معه إذا عاود هذا العرض ثانية. وهكذا بقي أميناً لموقفه، واثقاً من أن طموحه الأكاديمي لن يتوقف عند حدود جامعة بيروت العربية. انقضت سنته الجامعية الأولى كما خطّط لها، وبدت سنته الثانية أكثر وعوداً واستقراراً، لولا ذلك الاتصال الهاتفي الذي وصله من أحد أصدقاء صباه الذي وصل الأردن قادماً من الأرض المحتلة. توقع أن يسأله صديقه عن كيفية إيصاله بعضاً من البُن الذي تحرص والدته على تحميصه وطحنه بيديها، واستغلال أي فرصة سانحه لإرساله له. انتظر، ولكن السؤال لم يأتِ. بدل ذلك أخبره صديقه بأنه مر ببيتهم قبل سفره، واكتشف أن والدته تعبة بعض الشيء ولم يرد أن يتسبب لها بمزيد من التعب لتجهز له البن، فهو يعرف مقدار تعلق صديقه بقهوة أمه. حنينه للوطن الذي فجرته المكالمة الهاتفية هذه، ووحدته في الشقة بعد سفر زميله قبل أيام، وعلاقته الخاصة بأمه، زادت من وساوسه وحملته على الظن بأن حالة والدته الصحية قد تكون أسوأ مما نقل له صاحبه. لم يطق الانتظار طويلاً. كان الوقت عصراً. بحث عن حقيبة سفره الكبيرة وتذكر أن زميله في السكن كان قد استعارها منه قبل أيام حينما غادر إلى فلسطين. خشي ألا تتسع حقيبته الصغيرة لأغراضه الضرورية. لم يقدِّر كم ستطول إقامته هناك. توجه إلى حقيبة زميله. حجمها المتوسط قد يلائمه أكثر. حشر أغراضه وملابسه فيها وتوجه مباشرة إلى محطة سيارات الأجرة المتجهة إلى عمان، ليكون صباح اليوم التالي من أوائل الذين يعبرون الحدود الإسرائيلية نحو فلسطين من خلال معبر جسر «اللبني». مناسك التفتيش لدى نقطة الحدود الإسرائيلية تلك كانت طويلة الشعائر ومعقدة الطقوس، فما بالك حين يكون المسافر مرهقاً ونعساً وجائعاً في الوقت ذاته، كحال صديقنا. كان يسير في تثاقل، يتبع من أمامه في الطابور، وينفذ ما يطلب منه بشكل آلي. حالة تامة من الشرود والبلادة حدَّ تعطل الحواس. لم يعرْ موظفَ الأمن الإسرائيلي الذي راح ينبش حقيبة سفره أي انتباه. كانت عيناه منشغلتين في متابعة محاولات أم فلسطينية وهي تهدئ من روع طفلها. كان صراخه يزيد في إرهاق أعصاب المسافرين المتوترة. تذكر أمه المريضة، وغمرته موجة من الحنين والشوق فصلته عما حوله، ومنعته من ملاحظة أن موظف الأمن راح يتمتم ببعض الكلمات العبرية في جهاز اللاسلكي دون أن يرفع عينيه عن صديقنا، الذي وجد نفسه بعد لحظات محاطاً برجال الأمن والجنود الإسرائيليين الذين راحوا يكبلون يديه ويقتادونه بعيداً عن قاعة التفتيش. في غرفة التحقيق في سجن نابلس، كان أشبه بالمشلول. وعثاء السفر، وقلة النوم، وقلة الأكل، وأخيراً صدمة الاعتقال وما تبعها، جعلته يظن أنه بالتأكيد يعيش كابوساً سيتخلص منه حالما يفتح عينيه ويستيقظ. فتح عينيه أكثر من مرة، ولكنه لم يجد في مواجهته سوى وجوه تصرخ وتهدد، وأيادِ تصفع وتلكم، وأرجل تركل دون توقف. شيئاً فشيئاً، ومن خلال التهديدات، والشتائم، والصراخ، أخذ يستجمع قطع لعبة التركيب التي أمل من خلال إعادة تركيبها معرفة السر خلف كل ما يجري. بعد نصف ساعة تقريباً باتت الصورة واضحة لديه. لقد عثروا في إحدى جيوب حقيبة السفر التي كان يحملها على عدة رصاصات من عيار 9ملم، ورزمة كبيرة من الأوراق الخاصة بالعمل السري. معادلات كيميائية لتصنيع المتفجرات الشعبية، شيفرة للاتصال، تركيبات مختلفة للحبر السري، وتعليمات تتعلق بأمن الخلايا ووسائل الحماية، إضافة إلى بعض الملاحظات ذات علاقة بالدوائر الكهربائية، وهندسة الميدان، وعدد من التعاميم التنظيمية. تذكَر أنه لم يفتش جيوب حقيبة زميله الداخلية. كان على عجل حين أخذها، ولم يخطر بباله أصلاً أن تحتوي على مثل هذه المواد الخطيرة. بات الأمر واضحاً بالنسبة له وضوح الشمس. ولم يكن أمامه سوى أن يقرر خياره بيده. هل يعترف لهم بالحقيقة وينفذ بجلده؟ لم تعد القضية الآن تتعلق بخذلان من علَقوا على كتفيه آمالا كبيرة، ولا حتى بوأد مستقبله وطموحاته في استكمال مساره التعليمي. القضية الآن تتعلق بقضاء شبابه في السجن دون أن يكون مستعداً لذلك. هل سيحتمل تلك التجربة، وهل سيكون قادراً على اصطبار ما فيها من ألم ومعاناة؟ لعن زميله في سره. استنزل عليه أبشع الشتائم وأقذعها. كيف أوقعه في هذه المصيبة. تساءل للحظة لماذا لا يتحمل هو نتائج اختياره لطريق النضال. «إنه بالتأكيد هيَّأ نفسه للوقوع في الأسر أو حتى الاستشهاد على العكس مني ومن خياراتي البعيدة عن أي من صنوف المخاطرة والمغامرات». المشكلة التي أربكته وصعَّبت عليه القرار كون زميله في تلك اللحظة كان موجوداً في الأرض المحتلة، وعملية اعتقاله لن تستغرق أكثر من ساعات في حال الاعتراف عنه. والأهم، ما سيجر اعتقاله على احتمال كشف المزيد من أعضاء تنظيمه السري. لم يكن أمامه الكثير من الوقت ليحسم خياره. إما هو، أو زميله. بعد شهرين من اعتقاله، وحينما التقى أمه أول مرة عند شبك الزيارة، جاهد لتحاشي طيف نظرة معاتبة تراءت له خلال لهفة عينيها. لم يطق الانتظار طويلاً، أفرغ ما في جعبته بين يديها، وختم: «الآن كل ما يهمني أن تتفهمي عدم وفائي وعدي بشأن الجامعة». تأملته للحظة، والتمعت عيناها بشكل لم يره من قبل: «الآن أنت بالنسبة لي تحمل أعلى من شهادة الجامعة، ولو فعلت غير ذلك لكنت رسبت».