أود قبل أن أبدي ملاحظاتي أن أذكر باختصار ما أراه يلخص ما سأقوله، مستعيراً قولاً لجلال الدين الرومي: «ربما تبحث بين الأغصان عما يظهر فقط في الجذور»، يوضّح لنا إذا كان انتباهُنا فيما نقوله ونفكر به ونفعله ينتمي إلى الأغصان أم إلى الجذور.
الملاحظة الأولى: لاحظ السكاكيني أن المشكلة الجوهرية في التعليم تكمن في وجود تقييم عمودي. وهكذا أنشأ مدرسة في القدس (1909) شعارها «إعزاز التلميذ لا إذلاله»، وترجمه بـ«لا علامات ولا جوائز ولا عقاب». أنشأها بناءً على ما خبره في التعليم الذي جلبته جاليات أوروبية وأمريكية. لم يسْعَ أن تكون مدرسته نسخة عنه أو أفضل منه. فذلك التعليم لم يكن مرجعيته، وفكرة المنافسة كانت غائبة من فكره. كان همُّه خلق جوّ مليء بالحيوية والصدق والمحبة والكرامة. قناعة أخرى لديه هي تعرُّف الطلبة على فلسطين مشياً على الأقدام. كان نهجه البناء على مقومات متوفرة، بما في ذلك التعلّم كقدرة بيولوجية. تأثّر بما قرأه من كتب عربية قديمة ملؤُها الحكمة. أفقه التربوي (وبخاصة قبل الاحتلال الإنجليزي الفرنسي للمنطقة العام 1917) كان أفقاً حضارياً. الحكمة والأفق الحضاري وقراءة الواقع هي ما ميّز السكاكيني. ما قلّص ذلك الأفق لديه هو الاحتلال الإنجليزي الفرنسي الذي قسّم بلاد الشام إلى 4 دويلات. فكرة الدولة ومكوناتها (وبخاصة التعليم الرسمي المركزي) كانت بمثابة أمراض فكرية إدراكية اجتماعية جلبوها معهم. جدير بالذكر أن السكاكيني حذّرنا من التعليم الرسمي قبل الاحتلال العسكري بـ 20 سنة، إذ اعتبره إذلالاً واحتذاءً بحذاء الغير؛ انتبه إلى ذلك بعقله الفطري وأمانته الفكرية.
الملاحظة الثانية: رفَضَ السكاكيني التقييم العمودي المركزي من منطلق كرامة الإنسان التي ترتبط باحترام التنوع في الحياة. ترتبط الكرامة بالجذور؛ الكرامة سلوك اجتماعي. اللبنة البنائية الأساسية في مجتمعات الأهالي هي المجاورة التي تشكل رَحِم المجتمع، إذ تحميه مما يمكن أن يضره، وتأكيد التنوع. فكما أن العقول تختلف بالنسبة لما تحتاجه لعافيتها الذهنية، ولإرواء عشقها للمعرفة والفهم، كذلك الأجسام تختلف بالنسبة لما تحتاجه لعافيتها وعشقها للمأكولات. الكرامة تشمل احترام تنوع الناس بالنسبة للفكر والمأكولات وطرق العيش. الكرامة تتطلب حُكْمَ الذات؛ مسؤولية الشخص في أن يكون شريكاً في تقرير ما يدخل عقله وجسمه، وأيضاً قلبه وروحه. بتركيزه على الكرامة، السكاكيني قريبٌ من قولٍ هنديٍّ قديم: «كل إنسان كامل بشكل فريد». كل إنسان فريد وليس فرداً: هو مصدر فريد للمعنى والفهم؛ ومكوّنٌ من علاقات.
الملاحظة الثالثة: السكاكيني بنى مدرسته بدون دعم حكومي أو خارجي، وبدون أن تكون له أي علاقة مع جاليات أو مؤسسات أجنبية، وبدون الاستعانة بخبراء يُسْقِطون على الناس حلولاً جاهزة «من فوق» ويستعملون كلمات لا تستمد معانيها من الحياة، بل من سلطة وخبراء وظيفتهم الرئيسية إقناع الناس بأن الماضي متخلف وولى زمانه.
الملاحظة الرابعة: السكاكيني وُلِدَ في فلسطين، ولم يسلك طريق الجامعات؛ إذ لو سلك طريق الجامعات لخسرناه كمُلْهِمٍ لنا -على الأقل عربياً- إذ لَمَا سُمِحَ له أن يسهم في إدراكنا للتعلم بأنه قدرة بيولوجية، وأن نرى جوهر التعليم بالوضوح الذي رآه (كإذلال واحتذاء بحذاء الغير)، ولَمَا تجرّأ على إنشاء مدرسة بالرؤيا المدهشة التي أنشأ وفقها مدرسته العام 1909، ولَمَا سمعنا من أحد أن أهم ناحية في حياة شخص هي الكرامة (ليس التفوق والتميز). فالنظر إلى المرء عبر رموز كشهادات وتصنيفات، يتناقض مع الكرامة والتنوع. المعلم الناتج عن خطة ومقاييس هو معلم «مهني»، يمرّ وفق مسار محدد، حيث يحصل على شهادة رسمية ورخصة. ما أراه مغيباً من التعليم في الممؤسس والرسمي هو الكرامة والحكمة واحترام العقل الفطري.
الملاحظة الخامسة: تمثلت الكرامة في فكر السكاكيني وعمله (إلى جانب ما ذكرته أعلاه) باعتبار اللغة العربية أساساً للمعلم في المجتمعات العربية. اللغة العربية كنز حضاري هائل وأداة رائعة لجدْل نسيج فكري بياني اجتماعي روحي في المجتمع، ومع التاريخ والحضارة والفنون والحكمة. فإذا لوّثنا «بوتقة» الفكر هذه (كما يفعل التعليم الرسمي المبني على قيمتَيْ السيطرة والفوز)، يتحوّل المدرّس إلى أداة مخدَّرة تعيد كالببغاء ما في الكتب المقررة. كان السكاكيني مقتنعاً بأن اللغة العربية يجب أن لا تُدَرَّس عبر قواعد ونَحُو وصرف، بل عبر منطقها الداخلي، وعبر الغنى في معانيها، والجمالية في بيانها، والحكمة في ثناياها، والذي يتمّ عبر معايشتها وعبر تفاعلاتٍ تعتمد بالأساس على نُطْقٍ وإصغاء متبادل، وعبر أدب وشعر وحكايات. اللغة العربية منطقية بمعنى جذر أي كلمة هو فِعْل، والذي منه يستطيع الطفل تكوين كلمات عديدة. يستطيع مثلاً، بالفطرة، أن يشتق من «كَتَبَ» كلمات مثل كاتب، ومكتبة، وكتاب، ومكتوب، ومكتب (ونَشَرَ العام 1943 كتيباً بهذا الخصوص). عشِقَ السكاكيني اللغة، وسعى إلى أن يعيش الطفل روحها ومزاياها، ليس بشكل آلي، بل عن طريق أن تصبح جزءاً من نمط تفكيره وبيانه وأسلوب حياته. من أجمل ما يميز العربية وجود المثنى (إلى جانب المفرد والجمع)، وهو أمر مفقود في غالبية اللغات الأوروبية. المثنى علاقة تختلف جذرياً عن «العلاقة مع الآخر». من أسوأ ما خلّفته المستوطنات المعرفية الغربية (مدارس وجامعات) هو تشويه هذا الكنز. الخلل الأعمق في التعليم الرسمي هو ليس التلقين، بل استبدال لغات حية بلغة رسمية لا تستمد معانيها من الحياة. تفاعُل الناس عبر لغاتٍ تستمد معانيها من الحياة يشكل خطراً كبيراً على من يريد السيطرة على الناس. من أخطر ما فعله الاحتلال المعرفي هو ليس استبدال لغة عربية بلغات أجنبية، بل استبدال لغة حية بلغة حروفها عربية، لكن مرجعيتها ومعانيها مستمدة من مصادر غربية. كلمتا «ناجح» و«فاشل»، مثلاً، حروفهما عربية، لكن معنييهما يعودان إلى الثقافة الأورو-أمريكية الحديثة. خبراء التربية والتنمية والحداثة والتقدم والعلوم والتكنولوجيا يغيّبون اللغة العربية ككنز حضاري فكري اجتماعي روحي، ويحوّلونها إلى مادة دراسية! على الرغم من إعجاب السكاكيني بالمتنبي وغيره، فإنه عندما بدأ بتوليف كتاب «الجديد في القراءة العربية» (1924)، قرر أن يستعمل لغة أقرب إلى الحياة التي يعيشها الأطفال، حيث معانيها ودلالاتها مرتبطة ونابعة من حياتهم وخبراتهم، بحيث يحسّ بها الطفل ويعيشها، لا أن يتقنها آلياً، حيث تصبح سلعة كما يحصل عبر لغة الكتب المقررة: لغة اصطناعية تركيبية زائفة. همُّهُ أن لا تفقد اللغة العربية حيويتها وارتباطها بالحياة. تسليع الحياة (تحويلها إلى بضائع وخدمات) بدأ باللغة، وعبرها تحوّل الإنسان إلى مخلوق جلّ همّه المطالبة بسلع وخدمات! سؤال مغيَّب من التعليم الرسمي: كيف نفسر أن الأطفال يتعلمون ويتقنون اللغة العربية قبل دخولهم المدرسة، ثم يرسبون فيها كمادة مدرسية؟!
الملاحظة السادسة: عاش السكاكيني بعيداً عن العبودية لمقاييس على شتى الأصعدة؛ لا يوجد شيء واحد في فكره وعمله استند إلى مقياس، لا محلي ولا عالمي. جوهر ما ركّز عليه هو قِيَم وقناعات كالكرامة، لا عن طريق أن يصل إلى مستوى معين، بل عدم الاحتذاء بحذاء الغير. تمثلت الكرامة في فكره وعمله بعدم استعماله أي كلمة تعكس فكراً أو معياراً عالمياً. الكرامة تتناقض مع سعي الشخص كونه نسخة عن آخرين، أو نموذجاً يحتذي به آخرون (إذ ينزلق عندها نحو الاستهلاك ويصبح هو والمعرفة سلعاً). عارض السكاكيني فكرة التراتبية برمتها؛ لم يمارسها على الطلبة، ولم يسْعَ إلى برهنة أن مدرسته أفضل من غيرها.
كيف نفسر أن شاباً من فلسطين عمره 18 سنة قبل 120 سنة (دون الذهاب إلى جامعة، وقراءة كتب تربوية) فكّر وعمل في مجال التعليم على صعيد الجذور، ما ساعده على تجنب كثير من أمراض الأيديولوجية المهيمنة آنها واليوم؟ تفسير ذلك في الغالب يكمن في أنه لم يتبع نموذجاً جاهزاً، بل انطلق من انتباه شديد للواقع، وحدّد القيم التي لا يناقضها في أفعاله. السكاكيني سلك طريقاً لا ليبرهن أنه أفضل من غيره، بل ليكون صادقاً مع نفسه ومع الأطفال ومع واقعه وحضارته. ما رآه في الجذور خفيٌّ عن الأنظمة التعليمية الرسمية، وحَمَلَة الشهادات العالية. ارتباطه بالجذور هو ما حماه من الانزلاق وراء ما هو مبهر في الأغصان. اللغة العربية في الكتب المقررة تنتمي إلى الأغصان؛ اللغة العربية الحيّة تنتمي إلى الجذور. لم يستعمل كلمات ممزِّقة ومحقِّرة كنجاح وفشل، وتقدم وذكاء، وقياس، وتميُّز، وتفوّق، ما ساعده في أن يتحكّم في اختيار كلماته ومعانيه. اختيار العرب قبل أكثر من ألف سنة اسم «بيت الحكمة» لأول جامعة بنوها ببغداد (التي تختلف جذريا عن تعبير «تعليم عال») ينطوي على روح ضيافة على صعيد الفكر والتعبير والمعنى والفهم، روح تتناقض مع الفوقية والشعور بأفضلية. تشكل الضيافة أحد أعمدة الحضارة العربية، وتمثّلت تاريخياً باستقبال غريب في بيتك دون أن تسأله من أنت، ومن أين جئت، وماذا تريد، مدة 3 أيام، وتمثلت في «بيت الحكمة» باستقبال أفكار «غريبة» من شتى الحضارات.
شكّلت هذه الأمور جذور فكر السكاكيني في التعامل مع التعلُّم. «بيت الحكمة» كان مكاناً يدخله من يأتي إلى بغداد طلباً لتعميق فهمه ومعرفته وصقل فكره وبيانه؛ «بيتٌ» مليء بمصادر مخطوطة وبشرية ولم يدّع أن لديه أجوبة جاهزة لتغيير العالم كما تفعل جامعات ،النخبة، (يوجد مثلاً في كلية التربية بجامعة «هارفارد» برنامج learning to change the world). التركيز في «بيت الحكمة» كان على تغيير الذات وصقل المعنى والعيش بحكمة. صديقٌ بكلية التربية طُلِبَ منه الذهاب ضمن لجنة إلى مصر لتحسين التعليم فيها. سألتُه: هل زرت مصر؟ قال: كلا. قلت: لا تعرف مصر لكن تعرف ما يناسبها؟! الاعتقاد بوجود نموذج عالمي يصلح لكل المجتمعات هو مرض فكري خبيث، لعله الأخطر إذ يحتمي بكلمتين خبيثتين: خدمة (من فوق) وتنمية! كلمة «خبيث» تصف التعليم الرسمي بدقّة: يُظْهِر شيئاً بأنه حسن، لكنه في العمق مُؤْذٍ بالتصميم. ربما يشكل التغلب على ادّعاءات عالمية من أكثر التحديات التي نواجهها حالياً، فهي أنجع قاتل للتعددية. بالنسبة لِمَنْ يؤمنون بأن طريق التقدم هو الاحتذاء بحذاء الغير، آمل أن يعيدوا النظر وينطلقوا من مقومات ذاتية كأساس ومرجع (بعد ذلك، يمكن أن يضيفوا أي شيء يشعرون بأنه يعمّق ويوسع إدراكهم وفهمهم). المناعة الذاتية أغلى ما يملكه الإنسان والمجتمع لحمايتهما مما يمكن أن يضر بهما. هذه مسؤولية الناس على الصعيد الشخصي والجمعي. هذه المناعة على الصعيد الفكري ترتبط باعتبار «واجبي أن أتعلم» أهم من «واجبي أن أدرس»، فالتعلم، في رأيي، هو أهم صفة في المعلم الجيد. في الوضع السائد، مسموح للمعلم أن يتعلم فقط عبر ورش عمل وبرامج تدريب تُعْطَى فيها معلومات ومهارات جاهزة؛ واجب الدراسة يلهينا عن التعلّم. فرق مهم جداً مع السكاكيني، أن السكاكيني لم يدرس لا في جامعات، ولا في ورش عمل، ولا عبر مساقات وكتب مقررة وتقييمات، بل قضى حياته يتعلم.
تعامُل السكاكيني مع الأمريكي اليهودي آرثر ليفين يعكس بعداً آخر في حضارته: إجارة المستجير. بنهاية الحرب العالمية الأولى (1917) قرع باب السكاكيني ليفين. كان هناك قانون عثماني تم سنّه خلال الحرب العالمية الأولى يحتّم على كل أجنبي غير مواطن أن يسلّم نفسه للسلطات. قرع ليفين أبواب يهود في القدس قبل السكاكيني، لم يقبله أحد. عندما قرع باب السكاكيني تساءل: أرفض خوفاً من العواقب أم أفعل ما تمليه عليّ حضارتي العربية وأجير المستجير مهما كانت العواقب؟ تغلبت حضارته على خوفه. كانت امرأة يهودية تُحْضِر الأكل (الكوشر) يوميا وتضعه على شباك الغرفة التي نزل فيها ليفين دون علم السكاكيني. لاحظ بعض الجنود ذلك فقرعوا الباب وعثروا على ليفين؛ قادوه هو والسكاكيني مقيدين بالأغلال إلى سجن دمشق. كاد يخسر حياته لولا انتهاء الحرب وخروج السجناء – قصة السامري الصالح تعاد حرفياً بشكل مدهش؛ في هذه الحالة السامري هو الفلسطيني! تشير هذه القصة إلى ناحية أخرى في حياة السكاكيني تتناقض مع الأيديولوجية السائدة: الفرق بين المواطن الصالح والإنسان الصالح. «مواطن» كلمة ترتبط بدولة حديثة، حيث كل شخص يختلف عن الآخر برقم وطني. الجندي الإسرائيلي الذي يرفض الذهاب إلى الضفة الغربية ليهدم ويقتل ويعتقل يُعْتَبَر مواطناً غير صالح في إسرائيل ويعاقَب، لكنه بدون شك إنسان صالح بمعنى يحكم فِعْلَهُ.
مثال آخر ينتمي إلى الجذور وينبع من أفقنا الحضاري هو عبارة الإمام علي، التي تمثّل أروع ما قرأت في التربية: «قيمة كل امرئ ما يحسنه» بشتى معاني «يحسن» بالعربية (الإتقان، والجمال، والنفع، والعطاء، والاحترام). تشكل العبارة مصدراً لقيمة المرء يجسّد احتراماً وكرامة وتنوعاً وحكمة، وتعتمد على فِعْل. لا يوجد أي شيء شبيه أو قريب من هذه العبارة، في المجتمعات الغربية الحديثة. لا أرى مبرراً لإهمالنا لها والتمسّك بمقياس يمسخ الإنسان إلى رقم سوى تخديرنا عبر رموز توحي بوَهْم إيجابي. لم يرسم السكاكيني صورة محددة في ذهنه، ولا مستوى معيناً، على كل طفل أن يصلهما، بل كان همُّه أن لا يكون الطفل نسخة عن أحد، بل صادق مع نفسه وشديد الانتباه لما يجري حوله، ويعمل ما فيه خير لمجتمعه. هذا بالنسبة له جوهر الحكمة والكرامة والتحرر – القيم التي عاش وفقها. كذلك، حاول التخلص من شرذمة الحياة وتجزئة المعرفة. ارتكز في عمله على ما هو متوفر لدى كل شخص، ولا يرتبط بأجوبة جاهزة ومعايير عالمية، بل بأفعالٍ وسياقات. اهتم السكاكيني بهذه النواحي بـ«الفطرة» وعبر تأمّلٍ واجتهاد لفهم ذاته، والعلاقة بين داخله وخارجه، والتعبير عن ذلك بصدق وإخلاص. لا شك أنه احتاج حتى يصل إلى ما توصل إليه إلى أمانة فكرية، مغيبة عادة من المؤسسات. شخصياً أُؤمِنُ بأن أهم «موضوعين معرفيين» للأطفال هما التربة الأرضية والتربة الثقافية اللتان تغذيانهم.
الحكواتيّون، مثلاً، الذين يحملون بداخلهم نبض الحياة وروح الحضارة والثقافة والمجتمع، وتكون معارفهم ظاهرة في أسلوب حياتهم، ومجبولة بكيانهم، يشكلون أفضل المعلمين ضمن التربة الثقافية. الحكواتي ينقل عبر حكاياته عالماً متناغماً عن طريق رسم صور عن الواقع والتاريخ والبشر في مخيلات الأطفال. يفعل ذلك عبر بيانٍ حيٍّ حيوي جميل. ما يميّز الحكواتي قراءةُ الحياة. المعلم الملهم ليس من يحمل شهادة، بل من يشارك الناس بما تبلور ونضج بداخله وما يجسده في أسلوب حياته. لم يستعمل السكاكيني كلمات لها إيحاءات إيجابية بدون دلالات، أو أن دلالاتها تعود إلى «الاحتذاء بحذاء الغير»، أو إلى نمط الاستهلاك في العيش، مثل حداثة وتقدُّم وتميّز ونخبة وتفوق، التي تمزق النسيج المجتمعي، بل عن كرامة وحكمة وتحرُّر. لم يتكلم عن تحسين التعليم وتطوير المناهج، ولا عن التخلص من التقاليد، بل جسّد -دون وعي- مبدأ «الزباتيين» (أهالي ولاية «تشياباز» جنوب المكسيك) في حركتهم (1994): «تغيير التقاليد بطرق تقليدية»، أي بدون تمزيق المجتمع ومناعته الذاتية.
نحن ما زالت لدينا فسحة كي ننطلق من الحياة والحكمة التي تراكمت عبر عصور – تماماً كما فعل السكاكيني. العيش وفق الكرامة والحكمة والتحرر لا يظهر في عالم المفاهيم، بل في نمط حياة الشخص والمجتمع. السكاكيني عمل ضمن رؤيا لا ضمن أهداف؛ الرؤيا تنتمي إلى الجذور. معظم الطلبة العرب الذين يذهبون إلى جامعات أوروبية وأمريكية ينبهرون بخبراتهم الأولى، التي عادة تكون أفضل من التعليم الذي مروا به في المدارس. لكن اطلب منهم أن ينظروا في الأمر: التحسين الذي يشعرون به، هل هو على صعيد الأغصان أم في الجذور؟ قوتنا تكمن في الخلطة. كثير من الممارسات السائدة في مجتمعاتنا ضروري معالجتها، لكن من الضروري أن يتم ذلك دون تمزيق النسيج فيها، بل وفق مبدأ الزباتيين الذي ذكرته سابقاً.
السكاكيني لم يجسد ما يشار له اليوم بـ«تحول نموذج» (paradigm shift) بل تحرير الفكر من مفهوم النموذج ذاته، وينقلنا إلى عالم نحكم فيه حياتنا، وفق ثلاثية المكونات: حكمة، وكرامة، وتحرر (ولا أقول حرية).