حرية ستيوارت مل. قراءة نقدية في كتاب جون ستيوارت مل «في الحرية»

قراءة نقدية في كتاب جون ستيوارت مل «في الحرية»

يحاول جون ستيوارت مل الفصل وتحديد المسافة بينَ ما هو سياسي وما هو شخصي، وهو بالتحديد ينطلق مدفوعًا برغبةِ تقليص كلّ القوانين والتعليمات التي تَحُدُّ حريةَ الفرد في ممارسة ما هو شخصي وغير مُضر للآخرين. وهو عندما يفعلُ ذلك، فإنه لا ينفصلُ عن واقعه السياسي والتاريخي، فمن المهم أن نذكرَ هنا أن ستيوارت مل لم يكن فيلسوفًا سياسيًا بذات الطريقة التي كانَ بها إسبينوزا أو أرسطو كذلك، فعلاقته بالسياسي والدولة لم تكن مبنية على مسافةٍ بعيدة، فقد كان مُشاركًا فاعلًا في الحياة السياسية بإنجلترا، وكانَ يهدفُ أساسًا إلى تحويل كتاباته السياسية إلى قوانين ولوائح يُعمَلُ بها من خلال عمله السياسي في البرلمان الإنجليزي؛ ولذلك فإن تنظيراته هنا لا ليست منفصلة تمامًا عمّا يهمُّ الفرد العادي في مسألة مثل «الحرية»، فستيوارت مل لا يناقش ما تعنيه الحرية بالمطلق، ولا يحاول أن يؤسس ميتافيزيقًا أخلاق الحرية، بل يسعى لتأسيس محددات يمكن من خلالها أن تُوجد الحرية في المجتمع، دونَ أن تؤدي إلى هلاك الفرد وخنقه بسبب جماعته أو مجتمعه وقوانينه الواسعة الصارمة، وكذلك دونَ أن تخلقَ الحريةُ حالةً من الفوضى الأخلاقيّة. ولهذا السبب، فإن مناقشة مل للحرية تتعلّقُ بحالات الأفراد وأمزجتهم السياسيّة والأخلاقيّة المختلفة، فهو يدافع مثلًا عن حرية الفرد في أن يتبنى أفكارًا مخالفة ومعادية للسائد في مجتمعٍ ما بأن يفترض كلَّ الاعتراضات التي قد يحملها المعارضون له، ويبدأ بتفنيد هذه الأفكار ببراعة سياسي لا يفقد حسه بالواقعيّة والعمليّة ودقة منطقي لا يهمل قوةَ حُجِجِه وصلابتها.

أمثولة دون مغزى

يؤسسُ جون ستيوارت مل في هذا الكتاب ما يعرف بالليبرالية الكلاسيكيّة الآن، وهي مجموعة الأفكار التي تدافع أساسًا عن حرية الأفراد في الإيمان، والتعبير، وممارسة ما يحلو لهم ما دام لا يتقاطع هذا الإيمان، أو الفكرة، أو الفعل مع حرية فرد آخر. وهو هنا يقر «الضرر» كمحدد أساسي لهذا التقاطع، فطالما كانَ الأمرُ مُتعلقًا بفردٍ يتصرّفُ بحريته بأي طريقةٍ غير ضارة، فإنه له الحق في ذلك كليًا. تنظر هذه الأيدولوجيّة التي تتقاطعُ في معظم الأحيان مع الليبرتارية؛ لتحديد أدوار الدولة بمهماتٍ معينة واضحة ومختصرة، وتَهاب من تغول وتوسع الدولة في مهامها؛ وذلك خوفًا من سيطرتِها على قطاعاتٍ واسعةٍ من العمل، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى سيطرتها السياسيّة والفكريّة على العمال في هذه القطاعات.

ويعتقدُ مل هنا أن على جميع الآراء أن تتصارع في سوقِ المعرفة الحرّ دونَ أن يكونَ للدولةِ أو للأغلبية الحق في فرضِ أو إجبار فكرة على الآخرين، وأن من خلال هذا الصراع الفكري الحرّ يمكنُ للأفكار الضحلة أن تفند فتندثر لضعفها أمام الحجج التي تتعرض لها في كل ساحة نقاش. هذا الجو العام من الحرية الفكريّة يخلقُ بالنسبة لستيوارت مل حالة من الثراء الفكري، حالة تعزز الإبداع العقلي وتقود المجتمعات نحو الحقيقة أكثر فأكثر.

كلُّ أفكاره هنا واضحة ورصينة ويصعب الاختلاف معها، وهي في كثير من الأحيان تبدو للعديد في عصرنا -ليس في بلادنا للأسف- كبديهيات الحياة اليومية ولا تتعلّقُ بأيدولوجية معينة، ورغم أن هذه الأفكار خلافية في مجتمعنا، ولكنها رائجة عند كلّ الليبراليين واليساريين العرب، وغالب الحجج المطروحة في الكتاب معروفة في عصرنا، وذلك ليس لأنها بسيطة وسهلة -قد تكون كذلك- ولكن لأهمية هذا الكتاب في تأسيسه للخطاب الليبرالي عالميًا.

تفكيك الأمثولة

يوضح ستيوارت مل في مقدمة كتابه أن مسألة الحرية لا تتعلّقُ بتصوره بالمناقشة الكلاميّة أو اللاهوتية عن الحرية، وأن مفهومه يلتصقُ بصورةٍ مباشرةٍ بالتحقق الواقعي للحرية، وهو بذلك لا يمتلك مفهومًا يمكن من خلاله أن يؤسس للحرية فلسفياً. يستعرض عبد الله العروي هنا نموذجًا أوسع عن الحرية -وليس بالضرورة متناقضًا- وهو التصور الهيجلي للحرية الّذي لا يسعى فقط لأن يقرر الحرية واقعياً واجتماعياً، بل يحاولُ ربطَ الحرية بمفهوم المُطلق، فالحرية مثلًا لا يمكن أن توجد دون دولة، لأن الأفراد قد يحاولون فرض إرادتهم السياسيّة والفكريّة على غيرهم، والدولة ستكون الوسيط الّذي يمنعُ حدوثَ ذلك. الحرية عند هيجل ليستْ حرية وجدانيّة متعلّق بالفرد فقط، بل حرية عقلانيّة تتفق فيها إرادة الفرد مع الدولة ومسار التاريخ، وهو هنا يحقق المعنى الليبرالي للحرية لكنه لا يفصله عن معنى آخر أكبر وأسمى) مفهوم الحرية، ص83).

تصور آخر بعيد عن الليبرالية ومنبثق عن الهيجلية يتمثل في الماركسية، في الكتابات المُبكرة لماركس، نجد أن حرية الرأي وحرية التفكير شروطٌ أساسيّةٌ في تكوينِ المجتمع الاشتراكي، ونعاود لمس ذات الأفكار في كتيبه «نقد برنامج غوتة» ويوضّح فيه ضرورة أن ينفصلَ التعليم المدرسي عن الدولة وخططها؛ لأن الدولة ستهدف دومًا إلى خلقِ عبيدٍ تابعين لها، رغم ذلك فإن الماركسيّة لا تتصوّر الحرية كحرية الفرد أمام جماعته أو الدولة، فهذه حرية سلبية لا تحقق له الواقع المُبتغى، ويروم التحليل الماركسي حرية أكثر سموًا يتحرر الفرد فيها (من خلال طبقته) من سيطرة رأس المال عليه، يتحرر من اغترابه عن عمله وعن ذاته، ويحقق ذاتيته في النشاط الأكثر قربًا والتصاقًا به: عمله اليومي.

يأتي عبد الله العروي هنا ويعرض انتقاد حاد وبسيط لهذه الأفكار المخالفة لليبرالية نسبيًا: «ولا مرّة يقدم فيها معنى أوسع للحرية أو نظرية عامة عن الحرية تكون حرية الفرد أولوية، وعلى النقيض من ذلك، فإن الليبرالية التي لا تسعى سوى لتحقيق حرية الفرد واقعًا دون أهداف أسمى، ستنجح بذلك. يعني هذا أن الوعود بالحرية المتصلة بأهداف أخرى كتحقيق إرادة التاريخ أو تحقق الطبقة لذاتها لن يعني سوى ضياع الوقت في تحقيق إرادات أخرى دون العودة إلى الوعد الهامشي بالحرية الفردية». (مفهوم الحرية، ص 84) وليس هذا الادعاء باطلًا تمامًا، وهذا أهم ما قدمته لنا ليبرالية ستيوارت مل: ممارسة الحرية دون إكثار الحديث عنها.

تكمن المشكلة في أن الفرد مع هذا النوع من الحرية يبقى أسيرَ نمطٍ سلبيٍ من الحرية، يمكنه أن يفعل الكثير من الأشياء التي لا تؤثر على وجوده الاقتصادي وجودًا جذريًا، فهو يضطر إلى أن يرتبط بعلاقة اضطهادية بصاحب العمل، وقد يضطر أن يعاني بظل عائلة تتملكه وتتحكم بمصيره، أي أن نمط الحرية هذا سلبي لا يغير حياة الإنسان إلى الأفضل، ولكنه يحرره من بعض القيود التي زادت حياته بؤسًا في الماضي. هذا هو نمط ليبرالية جون ستيوارت مل متمثلة في دول أوروبا الغربية وأمريكا، حرية فكريّة حقيقيّة يتخللها أزمات اقتصادية لا يمكن للحرية أن تسعفها.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx