منذُ فترة ليست قريبة، يعيش قطاع الكتّاب الشباب في غزة، ظروفًا قاسيةً، في ظلِّ مكوث حالة التجاهل والتهميش وانعدام الفرص والنوافذ، وشحّ الموارد والإمكانات، والحصار الثقافي والمعرفي المفروض، عدا عن المنظومة المجتمعيّة، التي تحيطُ خاصرة الطاقات الأدبية الشابة، بحزام التقاليد والموروث، وحيّز اليقين، والرّفض المُطلق لأي إرادات تفكير جديدة وحداثيّة. ربّما هي حالة مذهلة، من الخراب الروحي والفكري والمعرفي، التي تضربُ بالشعراء والفنانين بشكل أكثر خصوصيّة، كونهم الأكثر انكسارًا على مدار سنينٍ مضتْ. لهذا بدتْ الحاجةُ مُلحّةٌ لديهم، للتمسّك بإرادة الرفض، ليس المكاني منه فحسب، بل والواقعيّ أيضًا.
وإن كان اِنعدام الخيارات بالنسبة لهم، يُمثّل إعدامًا للأفقِ الظاهر وغير الظاهر، بل ويُعد تمسّكاً غير محسوب بخيار انعدام الخيار نفسه، فالشعر كان دومًا المكان الأرحب، الذي يستوعبُ بمعناه الواسع، طاقات الرّفضِ والتمرّدِ لديهم، بوصفها واحدةً من سمات الخطاب الشعري الحيّ والمعاصر، والتي تتحكّمُ في عملية إنتاج الدلالة النصية في قصائدهم، طالما أنّهم يملكون القدرة على رؤية العالم، رؤيةً فاحصةً واعيةً -من بعيد- وقد آثرنا أن نختار ثلاثة شعراء، برؤى وتطلّعات متباينة، رغم تجاورهما مناطقيًا، كانوا قد حازوا على جوائز ثقافية وإبداعية في حقلِ الشّعر من مؤسسة عبد المحسن القطان، لإجراء هذا الحوار الخاص بمجلة 28.
الشاعر نضال الفقعاوي صاحب «ظهيرة: قصائد في عربة الإسكافيّ»، الحائز مناصفةً على جائزة الكاتب الشاب للعام ٢٠١٥، التي تمنحها مؤسسة عبد المحسن القطان للكتاب الأول، وهي أرفع الجوائز الثقافية الفلسطينية على مستوى الحقل الشاب، تتويجًا لقصيدة نثر. قال عنها محكّمو اللجنة، أنها تقدّم صوتًا شعريًا حرًا ولافتًا، بلغةٍ سليمةٍ، تتمتّع بغنى إيقاعي، وعمق تأمّلي، واشتغال على الموضوعات الهامشية، التي لا يلتفت إليها أحد.
كلماتي قليلة، أيها الشيطان/ وأيّامي، منذُ آدمَ/ تعرِفُها خطيئةً خطيئة/ شجرتي بلا ثمار/ وأحبُّها/ وخطوتي بلا وجهةٍ واضحة/ وأخطوها/ فماذا تريد؟/ من بين عطايا الرّب/ يا وريثي.. سأهديكَ النّسيان..
- لديك طفلُ اِسمهُ آدم، أتيتَ بهِ، وسط غابةِ الآثامِ هذه، لتخلِّصهُ من آثامك، أم لتورثّه إياها؟ هل حقًا كنتَ تبحث فيه طوال الوقت، عن شيءٍ ما فيك، إن لم يكن هذا النسيان؟
فيما يخصُ البحثَ، صِدقًا، لا أدري؛ هل حقًا كنتُ أبحثٍ في «آدم»، عن شيءٍ ما فيّ، أم لا؟ لم أفكر في ذلك أبدًا، ولم أخططهُ يومًا. الذي أعرفه -تمام المعرفة- أنني لا أريدُ أن أخلِّصه من الآثامِ، أنا لستُ ملاكًا، ولا أريد لأحدٍ صفة الملاك.. أيضًا، لا أريد أن أورِّثهُ إياها. فقط، أردتُ أن أذكِّرهُ بالفضيلة العظمى؛ النسيان!
الحقُّ أنني أردتُ له اسمًا، يذكّرهُ بأمهِ الأرض/التراب، وينسيه خطيئة السماء، وبوصفٍ أدق، أردت له أن ينغمس -كلما نادى عليه منادٍ- في معناه. أردتُ له أن ينشغلَ بالمرادفِ -مرادفِ اسمِه ومرادفِه- عن الدلالات.
في اللّيل/ أكدّسُ قتلاي في أكياسٍ كبيرةٍ/ أعقِدُها بكِفّة يدي/ وأحملها مثل لصٍّ نادمٍ/ إلى حاوياتٍ فارغةٍ لمذبحٍ مهجور.
- قصيدتك مهجوسةٌ بالهجرِ والانزواءِ، والتَخفّفِ من أعباء اللحظة الثقيلة.. رثاءٌ ذلك، أم طموحًا شعريًا؟
لا، ليس رثاءً. لطالما كنتُ راغبًا عن رثاءِ من ذهبوا، لطالما وجدتُني مهجوسًا بالحياة والأحياءِ، حتّى وأنا أبتهلُ وحيدًا «في مقابر الأسلاف»، حتّى وأنا أغرقُ في التمني، قلتُ: «يا ليت لي صمت من ذهبوا..».
ليس رثاءً إذن، بل طموحًا شعريًا، لا يتأتى إلا بالانزواءِ، باعتباره تفاديًا للرعبِ النافرِ في الوجوه، وملجأً قَصيّاً عن بلادةِ الأحياءِ الأموات.
- من بينِ كلّ محاولاتكَ للانسحابِ والرّكونِ إلى عربة الإسكافيّ -مهجعك الشعريّ.. ربما هنالك محاولةٌ للبقاءِ خارجًا، في حُمَّى الظّهيرة؛ للدّفاعِ عن أصواتٍ، تخرجُ مغلوبةً من رنينِ معدنها.. أودّ لو أسمعها بصوتِكَ أنت.
الصوتُ في كلّ شيء، هذا ما يؤرقني!
ففيما يرى آخرون، أن الشعر صورة، وأن «الحياة شجرة صور» -نسيت من قال هذا- إلا أنني، وإن وافقتُهم جزئيًا، منحازٌ للصوتِ في كلّ شيء، في الكائناتِ، والشعرِ والأشياءِ. أجدني في القصائدِ، ألهثُ مع حمارٍ، وأنبحُ مع كلابٍ، وأسمعُ بوضوحٍ تامٍ، صوتًا مُرعبًا يصدحُ في مذبحٍ مهجورٍ!
الصوتُ، صوتُ اصطكاكِ، في الذهابِ إلى الحياةِ صباحًا، وفي الإياب آخر النهارِ، هو الضرورة الأولى لشعرية الإسكافيّ. أما الحمّى، حمّى الظهيرةِ، التي تجلدٍ صفيحَ العربةِ المتآكل، هي الضرورة الثانية؛ ليخرجَ حزنُ العالمِ من راديو الإسكافيّ، كما هو في حقيقته، منهكاً، و»مخلوطًا بالدموع وبالحشرجات».
- تميلُ ميلَ الاقتصادِ اللُّغوي، المحمولُ على غنائيّةٍ متماهيةٍ مع فضاءِ القصيدةِ البصريّ. أظنُّ بأن هذه هندسة جمالية، لا تخرج إلا من حاذقٍ، سواء مُشتغَلةً في مرسَمٍ معماري، أو مُرتجَلةً على مسرحٍ يوناني، وهنا أودُّ أن أسألك: كيف تفهم دور اللّغة في الشعر؟
لا أرى أنّ دور اللغة في الشعرِ، يقتصرُ على خلقِ تفاهمٍ بين الشاعر والقارئ، بل هو دورٌ أعمق وأبعد من ذلك بكثير، دورٌ يُثري اللغةَ العادية، ويرتفعُ بها لتصبحَ لغةً شعريةً، حمّالة أوجه، يتفجّرُ منها ما يشبه السحر، وتتعدد في تراكيبها، التآويلُ والدلالات.
كتابةُ شعرٍ جديدٍ، تُلزمني أن أخلق مفرداتي، أن أستخدم الكلمات ومدلولاتها بطريقتي، وأن أُنشئَ صداقات تخصّني بين الكلمات.. ببساطةٍ، يمكنني القول: لولا اللغة لما وجِدَ الشعر. وهنا أذكر قول «مالارميه» الشاعر الفرنسي: «الشعرُ لا يُكتب بالأفكارِ، بل بالكلمات»، تلك الكلمات التي غالبًا ما أجدني منساقًا لها؛ لتقول عني، ما لم أخطط لحظةً لقوله، أو أنها في مراتٍ، تقفزُ عن قولي، لتقول قولها هي، فتقول -بلعبةٍ رشيقةٍ وغامضةٍ- أكثر مما أريدُ أن أقول.
- كيف ينشغلُ الخيالُ، في إعادةِ تأهيل الذاكرة، وكيف يتمّ التفاعل بينهما، في خلقِ عالمٍ حُلميّ، من عناصر الواقع نفسه؟
بالنسبة لي، فعل الخيال بالذاكرة، أشبه ما يكون بفعل الميكانيكيّ بشاحنةٍ عطلانةٍ، منذ زمنٍ في رصيف. الشاحنة العطلانة هي الذاكرة، والميكانيكيّ هو الخيال. الاثنان موجودان، ولكن كلّ على حدةٍ، منفصلان، كلٌّ في عالمه الخاص إلى حين، أو إلى أن يأتي الشعر، كعلاجٍ أخيرٍ لآلام أقدام السائق/ الواقع، الذي أنهكهُ المسير، وصار لا بدّ له من استدعاء الميكانيكيّ؛ لإصلاح الشاحنة وركوبها.. ركوبها، ليس في إسفلتٍ معبّدٍ ولامعٍ، بل في طريقٍ ترابيٍّ يجتاز حقول الأرضِ، ويوغلُ في سديم المجرات.
- نضال.. ماذا أعطتك غزة، وماذا أخذت منك؟
دائمًا ما أتحدثُ عن غزة، ابتداءً من فلسطين، فلسطين التي لم أرها، إلا في خرائط المدرسة، ولم أسمعها، إلا في حكايات أمي المشبعة بالأسى والحنين. فلسطين الذاكرة والحلم، الذي يفتّتُ القلب، كلما لوحتْ لنا، ورقصت مع الريح، رايةُ البلادِ. فلسطين، أُم غزة، وغزة، البنت العانس، والبقرة العجفاء، التي حين أخذتْ، أخذتْ مني كلّ شيء، وحين أعطتْ، أعطتني كسرةَ خبزٍ ناشفةٍ على حجرٍ، أظنها الشعر.
الشاعر أنيس غنيمة (26 عامًا)، الفائز بجائزة الكاتب الشاب -الصادرة عن مؤسسة عبد المحسن القطان لعام 2017- عن مجموعته «جنازةُ لاعب خفّة»، والتي تتناولُ كلَّ ما يتقاطع معها، بطريقةٍ جماليّةٍ، مهما كان بسيطًا، أو عابرًا، قال عنها محكّمو اللجنة، أنها تقدّم خطابًا شعريًّا ناضجًا ومتمكّنًا، واستعارات وصورًا مدهشة، وزخمًا شعريًّا، يتدفّقُ في نصوصٍ، مُنسابة عن القسوةِ والحزنِ، عبر شعريّةٍ، تتميّزُ بالذاتيّةِ والتجريبِ والإبداع.
- «جنازة لاعب خفّة»، عنوان رشيق على مستوى التقنية والدّلالة، رغم اكتنافه بطقس تراجيدي ضخم، وإحالات مبّطنة، تفتحُ الجرحَ على الحزنِ الإنساني الكبير.. هل حدّثتنا عن جنازة لاعب الخفّة هذا؟
بالنسبة لي، العناوين هي أشبه بدّالة غامضة، تأخذُ حيزّها بأهليةِ القصيدة، أما عناويني أنا، فهي قاصرة، ربما لأن قصائد المجموعة مسكونة بغائبين كُثرٍ، وربما أنا بينهم.
كُتبت نصوص هذه المجموعة، في الفترة ما بين 2013، حتى نهاية أغسطس 2014، إذ حَظيت بأصوات انفجاراتٍ، كان لا بدَّ من تطويعها؛ لسدِّ الفوّهة، التي علت سقف المشقّةِ والموتِ. أما ما حدث فيما بعد، حتى حصولها على جائزة الشعر في مؤسسة القطّان، فهو أشبه بهوايةِ جمع الطلقات النارية الفارغة، وتلوينها.
«جنازة لاعب خفّة»، هو غوصٌ أوليٌّ في أشكالٍ شعريةٍ، أخذتْ على عاتِقها، تفويض اللغة للتحدّث باسمها. إنها أشبه بصلاةٍ صامتةٍ، لأفواهٍ تتأرجحُ فوق حبال السيرك. لا يمكن تفويت التجربة، وهي عنوان أبرز لهذا الكتاب، وأكثر جدارة، إنما يمكن محوهُ فيما بعد.
أجراسُ آثامي تدقّها يدُ الليل القدّوس/ وتجرُّني ترتيلةُ السأمِ والغبارِ/ آهٍ، أيُّها المجدُ الطالعُ/ يا سفينةَ الصحراءِ في نهرٍ آسنٍ/ يا خشبَ المسرّةِ بأسرهِ/ ويا مزامير وجودي في كلّ حين/ هأنذا بما أحملهُ ويَحملني/مولودٌ في الذي وُلِدَ لي.
- عندما يهبطُ الليل -هذا الهدوء المُفخّخ بالإشكاليات- على غرفتك، تشعر وكأنك تقبض على ذاتك، تمسكها بيديك، وتدلّلها مثل قطةٍ مستسلمةٍ، بعدما تحوّلها إلى لغة، إلى نوعٍ من كائنٍ لغويّ، لتبدأ في محاصرته، ورصده وتفكيك مغاليقه. يأخذني الفضول، لأعرف كيف ينادي عليك الشّعر في هذا كلّه، من أيّ فخٍّ ينبعث صوته؟
إنني أتفقُ مع القول، الذي يدّعي، أن القصيدة لا تبدأ في العزلة، بل في نطاق من العلاقات (العالم والانسان). تجربة العزلة في غرفتك وحيدًا بانتظار الشعر، تكتسب أهميتها في بداية التجربة، وهي اتِّكالية ضرورية الى حدٍ ما، أما مسألة الركون الى الانتظار، فهي فكرة قاتلة للشعر. ليس ذلك الصوت العاجز للإنسان، الغارق في ذاته، ولا يمكن تصويره كشيءٍ يشبه الاختراع الآلي، وهو ما أقابله غالبًا، عندما أقرأ أكثر من ديوان لشاعرٍ واحدٍ، التكرار المريب والمكشوف على فراغ. إنني أرفض هذا الآن، لأن الشاعر، ليس هو ذلك المخترع للأشياء، إنما صيّادها. لا يمكنني الانتظار كل ليلة، حتى تنبلج الأشياء، بل أقابلها في المنتصف.. هذه رؤيتي للشعر، أنه ليس صَدًا صوتيًا لتجاربٍ أخرى؛ حتى تجربتي، وهو ليس الخضوع والركون بكل تأكيد، إنه عند حافة العالم؛ حيث تقف قدمين باستغراب.
- تستخدم في أغلب قصائدك، عناصر متباعدة ظاهريًا، وتؤلِّف بينها بمخيالٍ سرياليٍ مخمور، خلعَ العالمَ عن فروة رأسهِ، وذهب في رحلته الطويلة، من أجل إحداث هزّات جمالية، في لاوعيهِ، في لاوعيِ القارئ، وفي لاوعي العالم.. هل توافقني الرأي، في كونك لا تودّ البحث عن أكثر من بُعدِ اللغة التزيينيّ، داخل المفارقات الجمالية؟
بالطبع تهمّني اللغة، وأعتقد أنني أنتبه لها، أكثر من أي أجزاء القصيدة الأخرى، لكنها ليست مجرد محاولات لتزيين النصّ بكل تأكيد، بل هي لبّ وأساس. يبدأ الشاعر باكتشاف الشعر ثم يسعى لخلق القصيدة. إنه عمليًا يشبه البناء، من هناك تبدأ المفردة، من قاعدة اللغة وقاعها، وهي طريق التغيير الأول، الذي يتطلّبه الشعر، حيث تقف ذاتك، في تحدٍ مع مشارب مختلفة، بعيدًا عن الرفاهيةِ والاستسهالِ المكرور، لأنه وعند كتابة الشعر، هناك مفردات وتعابير قديمة، لا بدّ من نبذها، وإدخال مفردات جديدة، أي الغوص في متاهات لغوية أخرى، وهي الطريق، لخلقِ التعبير الجديد كما أرى، وإحدى غايات هذا الأمر، هو غاية رؤية العالم وتعقيداته، ذلك التعقيد الذي ينجح أغلبنا في تجاهله، إذ أنه من هناك، يمكن معرفة الأثر الذي ترغب بإحداثه. تستطيع رمي هذا القالب، في بهو التجربة، إن لم توافقني، وهو حدث، لا بدّ أن يمرّ به الشاعر، الذي يقف مواجهًا العالم.
- أشار الصربيّ تشارلز سيميك، في رائعته أرق الفنادق، إلى أنّ كتابة قصيدة نثر، كمحاولة الإمساك بذبابة في غرفة معتمة، رغم ذلك، لِمَ تقوم بتلك المحاولة؟ ما فتنة مهمة كهذهِ، تبدو خرقاء في الظاهر؟
إنني أتفق معك، حول كونها فتنة، وأنا مفتونٌ بها، حتى آخري. ربما هذا هو السبب الأكبر، أما ما يشير إليه الشاعر سيميك، وما يثيره سؤالك، فقد أختلفُ معكم بهِ، في جانبين؛ لأنني أولًا، لا أجدُ هذه الفكرة، تنطبقُ على قصيدة النثرِ فحسب، باعتبارها صنعة صعبة، إنما على الأشكال الأدبية كافة، أما ثانياً، فما هي متعة الكتابة، إن لم تكن الإخفاق، والمحو وتمزيق الورق! إن الكتابة، هي حالات النزق الشديد، وما ينتج عنها، وهي متعة تُبرزُ الاشتغال والجدّ، وهو ما يبقى، وتمحو الفتات والهذر إلى زوال. أستطيع القول لك، إنني وسط هذه الغرفة المعتمة، لم أجد أقرب لي من قصيدة النثر، إنها التعبير الأمثل بالنسبة لي، وقد يكون الآن فقط. أما عموميًا، فإن ما يعطيه النثر، هو أكبر بكثير من الأشكال الأخرى، وهذا رأيي الخاص.
- فكرة الجوائز الأدبية، صديقٌ غادِر أم عدوّ جيد، بالنسبة لشاعر يكتب، من أجل الشّعر وحده؟
لا يمكن لشاعر حقيقي، أن يقبل بامتنان غبطّة الجائزة مهما كانت، بل عليه أن يتجاوز باستمرار محدودية مسيرتها، لأن هناك دائمًا، ما هو أعلى قيمة وأكثر شأن، إنه الجزء الخاص بأصالة كل كاتب، مهما كتب، ولأجل ماذا، وهو بالنسبة لي محددًا أساسيًا لعلاقة الكاتب بالكتابة، والعكس. صوتُ الشاعرِ، مرهونٌ لعالمٍ مغاير، عن صخب مشاع، أو حدث عمومي.. إنه بالتأكيد، ليس صوتًا للركضِ واللهاث نحو الظهور، وهو أكثر ثيمات الجائزة الأدبية، بل هو الاختفاء خجلًا. لست أعني أني ضد وجود مثل هذه الجوائز، ولا أعني أني أنبذ وأنتقد الحاصلين على جوائز، فهي تشكلّ جزءًا مهمًا، من عمل ثقافي فعليّ.
ما أودّ الإشارة إليه، هو اِنتباهة الشاعر، بعد حصوله على جائزة أدبية معيّنة، لأن ابتسامة خافتة، لا يمكن البناء عليها، وهي مزيفة وباطلة عند الشعر.
- أين تضع غزة كمدينة المتناقضات –إن صحّ الوصف- في سياق تجربتك الشعرية؟
ربما لم أكتب عن غزّة الكثير، لكنها حاضرة في كل كلمة بائسة قلتها، وفي كل رجاءٍ تألف، وفي كل خيبة أمل، أقول: إنها مثل لعنة لا يمكن شَطبها، مع ذلك، هي أشبه بقصة حب لا تُمحى. لا يمكنني التنكرّ لها، إنني عالقٌ بهالتها، وأستطيع القول إنني -حتى الآن- ابنها العاق، لكن الذي يضمّها بذراعيه، رغمًا عن ذلك. إنها للأسف مدينة المأساة، وهي ضحيّة كل وقت، وقد يظنُّ البعض، أنها مادة دسمة للشعرِ، بافتراض المقولة الشائعة، حول أن الإبداع هو ابن المعاناة، والمحدّثون بها مخطئون برأيي؛ إن الابداع هو وليد الحرية فقط، عندما يجد الشاعر نفسه حرًا، يستطيع الوصول الى أقصى طاقة خلّاقة، ويمكنه عندئذٍ، أن يفكّ قيود التبعية؛ تبعيته لذاته والعالم، وأن يتبع صوت الشعر فقط، في أعلاه وجوهره.
الشاعر حامد عاشور، الحاصل على إشادة وتوصية بطباعة مجموعته الشعرية «جراحٌ تجرّبُ نفسَها»، ضمن مسابقة الكاتب الشاب لعام 2017، والتي تمنحها مؤسسة عبد المحسن القطان، حيث أتى في بيان اللّجنة: «تُقدم هذه المجموعة موهبةً، يجب تشجيعها ومخيلةَ نشِطةَ، ونبرة شخصيّة في الكتابة، تستحقُ الانتباه، وتنطوي على عملٍ شعريٍ، ممتع ومدهش ومتدفق وغني، لغةً وإيقاعًا وصورةً ورؤيةً، مُقدِمًا شِعرًا، ناجمًا عن تلقِ مختلفٍ للعالم، وثقة بالنفس، كافية لتمنح الأشياء فرصة، كي تقول نفسها بنفسها».
أنا الجدّة الطاعنة بالحسراتِ/ كنتُ أودُّ لو كانَ لي طفلٌ/ أُسمّيهِ «باب»/ وأغلقهُ -جيًدا- على نفسي/ لا أحد يدركُ رعشةَ قلبي/ كلما تذكرتُ/أنني غابة.
- تتنقّل واثبًا، من مخيّلة بشريّ، إلى مخيّلة شجرة أو حصاة، لابسًا ثوبَ عاطفتها، برشاقةٍ معتدّة بنفسها، من دون أن ينتبه على وثبتك أحد.. هل الأمر يحتاج إلى تدريبٍ من نوعٍ ما؟
لا شيء يأتي بالمجان، أو دون تجربة. صحيحٌ أنني لم أرَ الغابةَ في حياتي لكننّي رأيتُ حياتي الغابة، عشتها وأخذتُ ألاحق مصائر الأشجار، وأنا أنبض بالخساراتِ، وكذلك الحصاة، والأشياء الأخرى، التي أراها بعينٍ ثالثة، أو ربما مُضفيًا عليها نظرةً شاعرية.. إنه التأمل الذي بُليتُ بهِ، أُفكر مثل ميتٍ، وأتصرف مثل باب، أرى مثل نافذة، أقفُ مثل مئذنة، وأجلس مثل كرسي وأنفجر مثل قنبلة، وعلى النصوص التي أكتبها، أن تتحمل ذلك.
- ثمّة قصائد لديك، مرتبطة بنحو الصورة، أكثر منها بنحو الكلمة، وتستمدّ شعريّتها من محيطها الكامل، من قطريّة محيطها، عبر خطٍّ سرديِّ، يمرُّ خفيفًا بين السطور، دون أن يؤذي روح القصيدة، أو يشوّه مفعولها الصوتيّ، حدّثنا عن أثر احتكاك الشاعر العيني بالموجود والمُتخيَّل، من داخل بقعة صغيرة ومحدودة كغزة.
الأمرُ سيّان هنا، بالنسبة لي، أقصد الموجود والمتخيل، فكل الأشياء التي رأيتها، وشعرتُ بها، كتبتُ عنها، كما أنّه لا علاقة لهذا الأمر بغزة، أو الجغرافيا عمومًا، ولا يتوقف الأمر عند حدود، طالما أن لي في الخيالِ حياة حقيقية، وأكاد ألمسها في داخلي، ويُمكن للنص- من خلال ذلك- تجاوز ايقاع المكان، والقفز من على الجغرافيا، كذلك يُمكن له تطويع الزمان، إنها مخيلة الشاعر الشبقة، الأكثرُ تفتحًا من المجهول، والأكثر نفاذًا إلى عمقِ الأشياء.
يقول صديقي الشاعر محمد الزقزوق: « الخيالُ خجل الحقيقة من عجزها».. لطالما تأملتُ هذه العبارة، وآمنت بها، والعالم – كل العالم، لا غزّة فقط- حيزٌ أضيق بكثير، مما يريد الشاعر قوله، فيما هو مرئي، وغير مرئي، وثمة عوالم أخرى، ومساحات شاسعة من الغموض، مختفية في مستويات عظيمة، بعيدًا عن النظرة الأولى، وفي كلِّ محاولة لملامستها، يظهرُ عالمٌ خفيٌ آخر.
- لو لم تكن شاعرًا، ماذا كنت تتمنى أن تكون؟
لم أختر أن أكون شاعرًا، كما أن لا أحد يستطيع، أن يختار ذلك بمحض ارادته.. شيءٌ ما داخلي، يهمس ل، بأنني حتى لو كنت صيادًا في يومٍ ما، سأبذر طاقتي في البحث عن الطرائد، وحين أنجز هذه المهمة، أعود إلى صومعتي.. وأيضًا سأكتب الشعر.
- «جراحٌ تجرّب نفسها».. هل من شرط الكتابة، أن يكون الشاعر مليئًا بالأضرارِ؟
أعتقد أنه يجب أن يكون مليئًا بالتجارب، وإن كانت مُضرّة على المستوى النفسي. التجارب التي تعمل على صقل المخيلة، واستفزاز روح الشاعر، كما أنها الحصان المجتهد، الذي يجرُّ عربة الكتابة، الى مآلاتٍ بعيدة، دون تعبٍ أو تخاذل، وبالطبع هي مؤونة الكتابة ووقودها، ثم لا شيء أكثر ضررًا، من أن يكون المرءُ شاعرًا.
- يقول تشرشل في عالم السياسة: «ليس هنالك أصدقاء دائمين، ليس هنالك أعداء دائمين، هنالك مصالح مشتركة»، فما الذي يقوله حامد عاشور عن عالم الشعر؟
أنا من أولئك، الذين يرون في الشعر، الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العالم، لمساعدة غريق، لإطعامِ جائع، لإغاثة ملهوف.. لقد وُجد هذا العالمُ جريحًا، ووجدتْ معهُ ضمادة الشعر.
- كلمة لغزة والعالم.
أنا غزة، وقد أخْرجتُ هذا العالم من رحابةِ صدري، وأبقيتُ على الانسان.. لا جدوى من أي شيء، كل الكلام هنا لا يفضي إلى شيء.