أشياء نائمة

انظري إليّ يا أمّي

فقد عدتُ بمزيد من اللحم

والعظام والحكمة

صرت أفكّر بالموت وأنام دون هدهدة

وأسنان اللبن صارت تطحن الخسارات طحناً

عدتُ فوجدتُ ألسنة التهاليل بتراء

أطفالاً يجعرون من كلّ زاوية

صوتَ المؤذّن مكتوماً بيدٍ غريبة

العودةُ شاشةُ سينما

وأنا لم أعد أميّز تلك البطلة

دخلتُ مرّةً وعبثتُ بالسيناريو آلاف المرّات

العودة قطّة أكلتْ صغارها

العودةُ ضفيرتي التي قصصتها ورميتها في أفواه الزّمن

صارت الحاكورةُ الخضراء امرأةً تخاف الهرم

والبئرُ صارت سريراً في مشفى

والقططُ أرواحَ النساء اللاتي شهقنَ فوق زندي

وصرتُ أمّك

أغطّي جسدك بجسدي

من رصاصةِ الغفلة

التي ستُفلت من سنينك السّبعين

اللكنةُ التي ركبتها ناخت تحت التراب

أين رحلتْ القافُ المشّاءةُ

وأين الكافُ التي لم تبرح العتبة

أين المقلاعُ والعصفورُ وابن الجيران؟

…. ماذا كان اسمه؟

وماذا

كان اسمي؟

لو كان لاسمي اسمٌ واحدٌ ما كنتُ لأنساه

كان سيسقطُ فوق رأسي مباشرةً

كرمية قنّاصٍ محترف

أين الجواعدُ التي يبّستها بملح الحياة

أين مونةُ الحرب التي لم تأتِ

فأكلها الانتظار والسوس

أين البابُ الشماليُّ المفتوح على الفرح؟

أين عمّي محمود الذي أكل العشب

واستغفر الله ذنبَ البشريّة؟

أبي العجوزُ الذي صار ابني مات

لكن أين أبي الشّاب الذي كان أبي؟

أين الجسدُ الذي كنتُ أتسلّقُه وأقطفُ من جبينه ثمار التاريخ الحامضة؟

قولي له تعفّنتْ دروس السياسة في رأسي

واستبدلتُها بقصائد لا أفهمها

قصدتُ تكحيلها فأعميتها

رفعتْ أمّي سبّابتها فوق شفتيها

أومأت لي بأن أخرس

وأشارتْ إلى أكوامٍ من الأشياء النائمة.

أنا كلمةٌ واحدة

انظر يا أبي

اللغة سريرٌ باذخ

وأنا سحلت من فرج الحياة فوق مصطبةٍ قديمة

فبأيّ لغةٍ أكتب رثاءكَ

اثنتي عشرة سنةً وقفت الخنساء عند بوّابة المدرسة

رطنتُ خلفها بكلماتٍ مثل ببغاء مبتورة اللّسان

وكانت كلّما جادت عيناها بالدّموع

تمشي كائناتٌ بجلود يابسة في صحراء عينيّ

كلّما نمت شجرة التوت نحرتها أمّي

لئلا يفلقَ جذرُها السّورَ

أيّ لغةٍ ستفلق حزني عليك

قطفت الكلمات من ذاكرة الشجرة عن قوامها الغائب

حرثت أرض اللغة من خيال المرج عن امتداده الغائب

لقّنتني القطط مراثيها عن الأجنّة التي لم تتكوّن في أرحامها

ربطني الموت عند بوّابة المدرسة وطالب بحصّته

أنا كلمة واحدة

تقفز فوق لسانه القصير

أنا كلمة واحدة لا أتبيّنها

سأُلفظُ وأنتهي لكن ماذا أكون؟

لو كان الرثاء مواءً أو ثغاء لكنته

لكنتُ حرف نداء طويل يستدرج أبي

أو أداة استفهام تدلّني عليه

أنا اسمٌ واحدٌ ظلّ في بطن الله

ونسي أن يعلّمه لآدم

أنبئوني بأسماءٍ أخرى حتّى أنطق بغيره

انظر يا أبي

اللغة سرير باذخ

تنام الخنساء فوقه مثل كون نضر

بينما أقف عند زاويته

حيّاً مهجوراً

يصفّر فيّ الصّمتُ

وتعبر جسدي

على رؤوس أصابعها

المرثيّاتُ.

حوض من البصل الأخضر

انظري يا قطّتي إلى جمرتي الكابية

كلّما أدرتُ ظهري عفّرها الوقت بأكفّه الكبيرة

وأنا مثلك في هذه العتمة

اتّسعت حدقتي

وكُتم موائي في صدر دُميةٍ قديمة

الحدقةُ التي ذرعها رحّالةٌ قدامى لم يسمعوا يوماً بفكرة الوصول

التي من سككٍ ومدنٍ وصفّارات وذهاب

كانت فضفاضةً مثل مرج فقد أباه الأفق

وأخذ يترامى دون نهاية

ركبتُ ظهور رياحه الشقيّة

لفّقتُ قصصاً بوليسيّةً لحياتي

تقمّصت أربعين بدناً وخرجت من خمسين

تزوّجت مرّتين

كدتُ أموتُ آلاف المرّات في نومي

لولا أنّ فزّاعة الوحدة خرمتْ هدأة الليل

وشمتُ لوحاً كنعانيّاً على ظهري

ورحت أقنعُ الناس بأنّ عمري 4 آلاف سنة

شيّدتُ بيوتاً فوق تلال لا أعرفها

سكنت فيها ثمّ سوّيتها بالأرض

ثمّ شيّدت غيرها

رميتُ رجالاً واستملتُ غيرهم

حسبتُ أنّي قُتلتُ لكن ظلّ نفسي يهرب إلى صدري

طردتُ الحبّ بأدبٍ فدخل من الشّباك

ذبحتُ الأطفال الذين تهيّأوا لي كي أنجو من زنازين الأمومة

وكانت الأمومة تتفرّج من بعيد وتنتشي

أخفيتُ بندقيّة أبي على أمل أن تحكمَنا الغزلانُ

لكنّها سُلختْ في مطبخنا

ثمّ صار شعب الله المختار يختار رؤوسنا واحداً واحداً

ويجرّنا إلى المسلخ الكبير الذي أسميناه الحريّة

جلدي مرقّطٌ بالندم والبهجة

في كلّ مرّةٍ بدّلته بثوبٍ متجانس مزّقته أظافر السّخرية

ومشيتُ عارية

التقيتُ بشعراء ظننتُ معهم أنّ القيامةَ قامت

وأنّ الله اصطفانا وحدَنا لنعيش

هجرتُ رجالاً جعلتُهم يظنّون أنّهم أوغاد

وأنّهم لا يستحقّون الحبّ إلا ليندبوا حظوظهم عند بوّاباته العالية

وها أنا

بعد كلّ هذا يا قطّتي المرقّطة

أموء بصوتي الأخرس عند بوّابة بيتنا الصغيرة

يفتح لي الماضي الجميل

أمشي في الفناء الخلفيّ وأبحث عن ذيل السّمكة التي أكلتها قبل ثلاثين سنة

ماتت شجرة الرّمان

وعاش ظلّها

حدقتي تتّسع في سواده

أحبو فوق السّور

وأطلّ على حوض من البصل الأخضر

يدُ أمّي تعشّبه

ويدُ أبي مقبورةٌ فيه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx