«الخطابُ (الكتابي) المُضاد ومناهضة إنتاج المعرفة الإمبراطورية يَنبَنيان بالكامل على وجوب تغيير الطرف الذي نخصّه بخطابنا».
حميد دباشي، ما بعد الاستشراق[1]
تساءلت غاياتري سبيفاك في بداية ثمانينيات القرن الماضي: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»[2]، وربما ينبغي استعادة السؤال قبل التطرّق إلى مسألة التضامن بين الشعوب الأصلية Indigenous Peoples، إذ مَن يتضامن مع من؟ وبأية لغة؟ فإذا لم يُمثّل التابع/ المُستعمَر نفسه في السياق الاستعماري/ «ما بعد الاستعماري»، فكيف سيتمكن من الخروج على الثقافة الاستعمارية بصوته الخاص، مؤسسًا لوجوده ووعيه ومعرفته. من هذا المُنطلق، يُعالج القسم الأول من المقال سؤال تضامن الأصلانيين مع بعضهم، من خلال تمييز التضامن بين الشعوب الأصلية عن غيره من أشكال التعاطف، وتحديد المُحاوَر المقصود فيه، ومن ثمّ ينتقلُ إلى مناقشة خطاب الأصلانية في السياق الفلسطيني بوجهيه؛ الداخلي والخارجي.
هل يستطيع الأصلاني أن يتكلّم؟
يعودُ مُصطلح الشعوب الأصلية Indigenous Peoples إلى منتصف القرن السابع عشر، عندما استخدمه توماس براون Thomas Browne للتمييز بين العبيد ذوي البشرة الداكنة الذين جُلبوا من أفريقيا للخدمة في الأمريكتين وشعوبها الأصلية[3]، وتجدرُ الإشارة إلى أنّ هذا الاستخدام للمصطلح كولنيالي جوهراني بطبيعة الحال، لا يُعبّر عن الشعوب الأصلية. لكن أعيدَ إحياء المصطلح ومفهمته في سياق حركات التضامن الأممي والتحرّر الوطني ضدّ الاستعمار والتبعية في سبعينيات القرن العشرين، لربط تجارب ونضالات الشعوب المُستعمَرة، فرغم اختلاف السكّان الأصليين عن بعضهم في الكثير من الملامح، إلّا أنّ التاريخ المُتماثل والنضال المشترك والسعي من أجل تقرير المصير، يربطهم ببعضهم.
وفي حين يحملُ الخطاب الكولنيالي نظرةً جوهرانية/ تنميطية إلى الشعوب الأصلية المُستعمَرة، يحملُ خطاب التضامن في العصر «الما بعد كولنيالي» مسحةً شبيهة أحيانًا، إذ يُنظر إلى الشعوب الأصلية في كثيرٍ من الأحيان بصورةٍ نَمطية، بحيث يجري التضامن معها بطريقةٍ تُبقيها على حالها، لا تأخذ بيدها قدمًا، إضافةً إلى أنّ هذه النظرة تُقولب الشعوب الأصلية في إطار الضحية. إن التضامن مع الشعوب الأصلية، لا يعني إقصاءها من ساحة الاحتجاج الخطابية، ولا الركوب على أكتافها للهتاف بصوتها – بالطبع ثمّة خطاب تضامني يعي ذلك، والحديث هنا عن الاستنثاء لا العموم – بل يعني نقل صوتهم وصورتهم كما يريدونها، وبكلماتهم هم، فيكون التضامن مرآة أو مُكبّر صوت. وفي ذلك يبرزُ سؤال: كيف يُمكن للتضامن مع الأصلاني منحَه مساحة التعبير والفاعلية حتّى يُصبح بمقدوره أن يتكلم؟
إن الإجابة على هذا السؤال، تتطلبُ تمييز التضامن بين الأصلانيين عن غيره من أشكال «التعاطف»، لتفعيله وجعله متبادلًا. فصحيحٌ أنّ التضامن يعني إعلان الوقوف مع فرد أو جماعة، من خلال مناصرتها والتحشيد لقضيتها، بقصد نقل صوتها والتأثير على الرأي العام، إلّا أنّه عند الممارسة قد يتماهى مع أشكال أخرى. فمثلًا، يُعبّر عن التضامن مع الشعوب الأصلية في كثيرٍ من الأحيان، بطريقة تُشبه التعاطف مع الحيوان، إذ يدعو الخطاب إلى حمايتها من الانقراض، والحفاظ على وجودها في موطنها الأصلي كما لو أنّها نوع حيواني مهدد بالانقراض، مما يُلغي فاعليتها، بل ويقضي على وجودها بالمعنى التحرري، كونه يهدف إلى إنقاذ الحياة لا التمكين. إضافةً إلى أنّ ما يُميّز التعاطف مع الحيوان عن التضامن، أنّنا نتعاطف مع الحيوانات دون أن نتصوّر أنفسنا مكانها. وفي ذلك، ينظرُ هذا الخطاب «التضامني» إلى الشعوب الأصلية/ الأولى على أنّها برّية أو بدائية، لا يُمكنها التعبير عن ذاتها. ولا ينقل هذا الخطاب صوتها، بل صوت المُتضامِن الذي لا يريدُ أن تُثار مشاعر الشفقة لديه عند فقدانها من متحف العالم الحيّ، مثلما شعرَ مع خسارة آخر وحيد قرن أبيض قبل عامين. والمُتضامِن هنا غير مستعد للإمساك بالميكروفون حتّى يستطيع الأصلاني أن يتكلّم، بل وحتّى لا يتقبّل وجوده في مساحة مشتركة، مثلما يرفضُ أن يجلس وحيد القرن في منزله. يُمكنُ بالمثل تخيّل نظرة هذا المُتضامِن غير المُرحِّبة تجاه هندي أحمر أو أبورجي يرتدي لباسه التقليدي ويسيرُ في مُجمّع تجاري Mall.
ويتقاطع مع هذا الشكل من التضامن، تضامنٌ مردهُ حلَّ عُقدة الذنب التي تلوكَ ضمير الأبيض/ المُستعمِر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأصلاني الذي انتقلَ من مجالٍ إلى آخر وارتدى قناعًا أبيض، وتحوّل خطابه من الأصلاني نحو «الاستشراقي»، من خلال اقترابه من هيئة المُستعمِرين السابقين الذي يظنُّ أنّه بذلك يُصبح أكثر تحضّرًا[4] وأقدر من نظرائه الأصلانيين في معرفة مصلحتهم[5]. وهو عندما يُعبّر عن «تضامنه» يحاول استخدام لغة وسطية «مُعتدلة» تدعو إلى التعايش والمصالحة، الأمر الذي يخدمُ الخطاب الاستعماري بتكريس الوضع القائم، أكثر مما يدعمُ السردية الأصلانية، بحيث يُبنى الخطاب هنا على لغة المواساة لا التضامن.
يُقارب عبّاد يحيى المسألة من منظور سيكولوجي، إذ يرى أنّ «معضلة التضامن، اليوم، أن غايته وأثره متصل بالمتضامن نفسه، وليس مع المتضامَن معهم، أو القضية المقصودة بالتضامن. هنا التضامن حاجة نفسية بالدرجة الأولى لمعالجة هواجس ضميرية ونفسية، قد تباغت المتضامن، حين يتعرض لسيل الصور والأخبار والمواقف، ويجد نفسه تحت ضغط الإعلام والعامة، مطالبًا بفعل شيء»[6].
أمّا المستوى الثالث من التمييز، فيتمثلُ في التفرقة بين العصبية والتضامن، فالتضامن بين السكان الأصليين يبني شبكة العلاقات بناءً على حالة مُتماثلة من التاريخ والنضال، بقصد التحرّر وتحقيق السيادة. إذا لا يهتمُّ التضامن بين السكان الأصليين بالدين أو العرق أو القومية، إنما بالهدف المشترك. أمّا العصبية فتقومُ على الانتماء والولاء بالأساس، وعليه لا يصحُّ القول إن فلسطينيًا يتضامن مع فلسطيني يعيشُ في مكان آخر، إذ إنّ قضيتهم واحدة، وهو عندما يناصرها، إنما يدافع عن حقه.
تنبعُ أهمية التمييز في المستويات الثلاثة السابقة، من كون اللغة تلعبُ دورًا محوريًا في التضامن، بوصفها حيّز التعبير وبناء السرديات. ففي الكثير من الأحيان، يتضامن المُتضامِن مع المُتضامَن معه وفق طريقته هو، وكأنه ينفي عنه صوته، ويظهره بالطريقة التي يريدها، ويدّعي أنّه يعرفه أكثر منه، مما ينفي عن الممارسة صفة التضامن. وهل أنقذَ الرجال البيض النساء الملوّنات من بيت النار (الساتي)[7] الذي اخترن السكون فيه مع أزواجهن؟ جوابي: بالتأكيد لا. وبالمثل، لا يُمكن نصرة الشعوب الأصلية والتضامن معها دون سماعها تتكلّم. وعليه، إن التضامن ليس مجرد خطاب/ بيان أكاديمي، بل هو في جوهره حوار حقيقي.
إن تضامن الشعوب الأصلية مع بعضها، يتطلّبُ منها إبراز خطابها وسرديتها، ومناصرة بعضها، ليس من خلال إسقاط تجربة إحداها على الأخرى، بل من خلال لعبها دور المرآة لبعضها البعض. حيث إنّ نضال أي شخص من أجل الإنسانية والتحرّر، يجعله بالضرورة يدعم نظرائه في مكانٍ آخر في العالم، سواء كان في فلسطين أو هونغ كونغ أو كندا أو أستراليا.
بعد تمييز التضامن، ينبثقُ سؤال: إلى مَن نوجّه خطاب التضامن؟ قد تبدو الإجابة بدهية، إلّا أنها ليست كذلك عند الممارسة، حيث إنّ جزءًا كبيرًا من خطاب الشعوب الأصلية موجّه إلى ما يُسمى «المجتمع الدولي»، ويسعى إلى استقطاب أصوات جديدة – المُستعمِرين غالبًا – بذريعة أنّ ذلك يجعله أكثر تأثيرًا. ونظريًا يبدو ذلك فعّالًا، وهو كذلك في سياقٍ آخر غير قضية السكّان الأصليين، كون مسألتهم تعني تغيير الوضع القائم لا تحسينه، وهذا أمرٌ لا يصلحُ أن يكون المُحاوَر المقصود فيه هو المُستعمِر. فما يتوقعه الاستعمار الاستيطاني من الشعوب الأصلية، هو الاختفاء فقط؛ أن يستيقظ المستعمرون في صباحٍ مُشمس، دون أن يجدَوا أصلانيًا يشوّش عليهم الاستمتاع بمستعمرتهم الجميلة، تمامًا كما صوّرت ذلك ابتسام عازم في روايتها الذكية سفر الاختفاء[8].
لذلك، فإنّ تمييز التضامن، ومن ثمّ تغيير المُحاوَر ليكون هو الأصلاني ذاته، هو ما يفتحُ للتضامن أُفقًا ويمنحه الراهنية، فكما يقولُ حميد دباشي: «تغيير المُحاوَر واستيعاب الممكنات المتاحة على مستوى العالم لمعالجة القضايا الأساسية في زمننا الراهن والمتعلقة بأولئك المستهدفين من دعوات الحرب الإمبراطورية على التوازي، مع اتخاذنا القرار في تحديد الطرف الذي تتوجّب مخاطبته، هي اللبنات الأساسية في تخليق وتدعيم الفعل التاريخي الذاتي للناقد ما بعد الكولنيالي»[9].
الأصلانية في الخطاب الفلسطيني
هل الفلسطينيون أصلانيون أصلًا؟ ربما يتبادرُ هذا السؤال عند قراءة العنوان، إثر المحاولات الإسرائيلية التي عملتُ لأكثر من قرنٍ على أن تكون الإجابة «لا»، فإلى جانب سعيه إلى محو السكان الفلسطينيين، وإعادة تكراره للحدث النّكبوي عام 1948 على كل واحدة من الجماعات الفلسطينية في شتّى أماكن تواجدها[10]، يعملُ المشروع على إخراج الفلسطينيين من التاريخ، وتجريدهم من أصلانيتهم بادعائه أن هذه الأرض تعودُ لما يصفه بشعب إسرائيل[11]. وعلى عكس السردية الصهيونية التي تحاولُ إظهار الفلسطينيين القدماء شعبًا هندو-أوروبيًا غريبًا عن أرضه، فإنّ الفلسطينيين شعب عربي سامي أصيل، كما أنّه واحد من أقدم شعوب العالم تمدنًا بحضارة عمرها أكثر من 12 ألف عام بدأت في تليلات الغسول شمال أريحا[12].
بوصفهم أصلانيين، هل يوظّف الفلسطينيون الأصلانية في نضالهم التحرّري؟ لاحظَ أحمد أمارة ويارا هواري أنّ العديد من الباحثين الفلسطينيين قد أدرجَوا مفهوم الأصلانية في أعمالهم بعد النكبة عام 1948، إلّا أنّ استخدامه ما زال محدودًا على المستوى السياسي[13]. ويرفضُ الفلسطينيون على نحوٍ ما قبول مقارنة أنفسهم بالسكّان الأصليين، ويعود ذلك – بحسب ليلى أبو لغد – إلى أنّ ممارسة طقوس الاعتراف والمُطالبة بالحقوق تبدو غريبة بالنسبة لشعبٍ بنى لغته السياسية على مفردات التحرير الوطني المناهض للاستعمار، التي تغيبُ عن إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية (2007). إضافةً إلى أنّ الفلسطينيين لا يشعرون أنّ ثقافتهم مهددة بالانقراض، على عكس باقي السكّان الأصليين، فالتهديد يمسُّ حياتهم وتطلعاتهم السياسية. كما أنّ غالبية الفلسطينيين يعيشون حاليًا خارج فلسطين التاريخية، بعد أن طُردوا وأصبحوا لاجئين ومنفيين[14].
مع ذلك، يعود الحوار بين السكان الأصليين والفلسطينيين إلى ما لا يقل عن نصف قرن. حيث حدث أول تواصل جوهري خلال ذروة حركة الهنود الأمريكيين American Indian Movement، عندما نظر النشطاء الأصليون مثل أقرانهم من الفهود السود Black Panther، إلى نضالات التحرر العالمية من أجل الإلهام والتضامن[15]. إضافةً إلى وجود ترابط بين الفلسطينيين وحركات التحرر ومن ضمنها الأممية السوداء، إذ يجمعها نضال مشترك مع الفلسطينيين ضدّ الإمبريالية منذ ستينيات القرن الماضي، سواءً على المستوى الشعبي أو التنظيمي، الذي يُدلل عليه العلاقات التي جمعت بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع رابطة العمّال الثوريين السود وحزب الفهود السود[16].
وإلى جانب ضعف توظيف الأصلانية، لم يعُد للتضامن حضورًا في الخطاب السياسي الفلسطيني، فمع ذهاب منظمة التحرير الفلسطينية نحو مشروع السلطة الوطنية الفلسطينية إثر توقيع اتفاقيات أوسلو (1993)، تحوّل الخطاب المؤسسي الرسمي الفلسطيني من سردية التضامن الأممي مع فلسطين إلى الإغاثة الدولية للفلسطينيين. وبعد أن كانت الشعوب تتضامن مع الفلسطينيين بوصفهم مناضلين في مشروع تحررهم، أصبح المجتمع الدولي يتبرّع من خلال برامجه الإغاثية للفلسطينيين بوصفهم حالات إنسانية.
قبل وفاته بوقت قصير، صرّح ياسر عرفات – ربما دون وعيٍ منه بالوجوه الأخرى لحديثه – بأنّ الفلسطينيين ليسوا هنودًا حمر، إذ فشلت إسرائيل في القضاء عليهم، وقد جعلوا من القضية الفلسطينية أكبر مشكلة في العالم[17]، الأمر الذي يقرأه جوزيف مسعد على أنه تأكيد على ارتباط الفلسطينيين بالهنود الحمر، ليس بمفارقة الهزيمة، بل كون النضال الفلسطيني لا يختلفُ عن النضالات الجارية في جزيرة السلحفاة أو جنوب أفريقيا، حتى لو اختلفت طرائقها وأشكالها[18]، الأمر الذي دفعَ روبرت لوفليسRobert Lovelace (الرئيس السابق لمنظمة Ardoch Algonquin First Nations ) لوصف غزّة على أنّها “أكبر محمية هندية في العالم”[19].
على الفلسطينيين إدراك أنّ السكان الأصليين ليسوا مؤشرًا على التجريد الوشيك للفلسطينيين من وطنهم، إنّما هُم أصوات مُعاصرة تُخبرنا بشكلٍ مُباشِر عن الحال الفلسطيني، تمامًا كما يُخبر الفلسطينيون مُباشرةً عن حال أراضي الهنود الحمر، وما شبكات التضامن التي تشكّلت بين الفلسطينيين والسكّان الأصليين، إلا دليلًا على استحالة هزيمة السكّان الأصليين، فالاعتراف بوجودهم المادي يعني أنّهم لم يُهزموا[20].
إنّ المهمة في السياق الفلسطيني أصعب من نظيرتها لدى السكّان الأصليين في مناطق أخرى من العالم، فكما قال محمود درويش: «نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل هي عدونا، لأنها تحظى بمؤيدين لا حد لهم في العالم. ونحن أيضًا محظوظون لأن تكون اسرائيل عدوّنا، لأن اليهود هم مركز اهتمام العالم. لذلك ألحقتم بنا الهزيمة وأعطيتمونا الشهرة»[21]. حيث يعملُ جهاز إسرائيل الدعائي بلا كللٍ على خلق جسور تواصل بين اليهود والسكان الأصليين، بزعم أنّ اليهود الذي يحتلّون فلسطين هم أصلانيين أيضًا![22] إضافةً إلى وجود صراع أكاديمي بين الدراسات الصهيونية ودراسات السكان الأصليين، حيث تحاول الأولى الاستناد على «سرديات تاريخية» وتكتيكات خطابية، لا تدافع عن «إسرائيل» فحسب، بل وتقفُ ضدّ إنهاء الاستعمار في أمريكا الشمالية، وتدّعي أنها الأحق بدعم الأصلانيين. إن الاستعمار الاستيطاني في جوهره ينطوي على جعلِ المُستعمِر أصلانيًا أكثر من الشعب الأصلي.
الفلسطينيون في الخطاب الأصلاني
على الضفّة الأخرى من مسألة التضامن بين الفلسطينيين والسكّان الأصليين، نجدُ أيضًا ارتباكًا في الخطاب الأصلاني تجاه الفلسطينيين، يُشير إلى ذلك ستيفن سلايطة: «ثمّة لازمة أسمعها أحيانًا من هؤلاء العاملين في حقل دراسات الهنود الأمريكيين أو دراسات السكان الأصليين، وهي أن فلسطين قضية جديرة بالاهتمام، لكنها خارجة عن اهتماماتهم»[23]. وعلى السكّان الأصليين في هذا السياق، عدم السماح لـ «إسرائيل» باختراق خطاب الأصلانية[24]، وإدراك أنّ «البنية الاستعمارية في فلسطين، لا تخصُّ فلسطين وحدها بمعزلٍ عن العالم؛ وإنما بنية استعمارية جزئية تنتمي إلى منظومة أكبر»[25]. وعليه، يكون التضامن مع الفلسطينيين في نضالهم، خطوةً في تحرّر الشعوب الأصلية الأخرى، كما عبّر عن ذلك ببلاغة نيلسون مانديلاNelson Mandela بقوله: «حريتنا منقوصة دون حرية الفلسطينيين».
والتضامن مع فلسطين يعني العمل الملتزم على نحوٍ ما بالتحرّر الفلسطيني، دون أن يشمل ذلك بالضرورة على إلقاء خطابات حول ذلك أو تنظيم تظاهرات، حيث يُمكن أن يكون مساهمة أكاديمية أو تربوية، فالتضامن إحدى سمات حقل الدراسات الفلسطينية[26]. خاصةً أنّ الفلسطينيين والسكّان الأصليين يعيشون في موقع بائس في الأكاديميا، مما يجعلهم عرضةً لافتراضات جوهرانية ونظرة عُنصرية، فالعنصرية الأكاديمية تَسبق وتُثبّت الدور الرقابي الذي يمنحه الصهاينة لأنفسهم فيما يتعلق بديموغرافيا المُستعمرة[27].
ختامًا، في حين أدركَ أسلاف كولومبوس البيض متأخرًا أنّ السكان الأصليين ليسوا حيوانات بريّة بل بشر، من الضروري ألّا يرتهن السكّان الأصليين إلى خطواتٍ من «المجتمع الدولي» للاعتراف بأنّ من حقّهم التنفس، والبديل هو تحوّلهم من التضامن الرمزي إلى تضامن يتّخذ من العمل المشترك الشامل (داخل المؤسسة القائمة وخارجها) أساسًا له، وذلك يتطلّب أولًا تمييز التضامن وتغيير المُحاوَر. وعلى السكّان الأصليين (ومن ضمنهم الفلسطينيين)، العمل ليس فقط على دعوة الآخرين إلى التضامن، بل توريط الجميع في نضالهم، كما يدعو إلى ذلك المثقف المُشتبك فرانز فانون: «يجب أن نورط جميع الناس في المعركة حتى نضمن السلامة العامة والخلاص العام. ليس هناك أيدٍ نقية، ليس هناك أبرياء، ليس هناك متفرجون […] كلُّ متفرج جبان أو خائن»[28].
[1] حميد دباشي، ما بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب، ترجمة باسل عبد الله وطفه، مراجعة وتدقيق حسام الدين محمد (ميلانو: منشورات المتوسط، 2015)، ص 345.
[2] Gayatri Chakravorty Spivak, “Can the Subaltern Speak?,” in: Patrick Williams & Laura Chrisman (eds.), Colonial Discourse and Post-colonial Theory: A Reader (London: Macat International Limited, 2016), pp. 66 - 111.
[3] Kent Mathewson, “Drugs, Moral Geographies, and Indigenous Peoples: Some Initial Mappings and Central Issues,” in: Michael K. Steinberg, Joseph Hobbs & Kent Mathewson, Dangerous Harvest: Drug Plants and the Transformation of Indigenous Landscapes (Oxford: Oxford University Press, 2004), p. 13
[4] يُمكننا أن نستذكر هنا الدور الذي جسّده صامويل جاكسون في فيلم Django Unchained (2012)، إذ جسّد دور كبير الخدم الأسود الذي يضطهد أبناء جلدته أكثر من سادته البيض، للشعور بالتحضّر من جهة ولإثبات الولاء من جهةٍ أخرى.
[5] ناقش هذا الموضوع في سياق ما بات يُعرف بدراسات ما بعد الكولنيالية فرانز فانون وجلين شون كولتهارد وحميد دباشي. يُنظر:
Frantz Fanon, Black Skin, White Masks, Charles Lam Markmann (trans.), Homi K. Bhabha & Ziauddin Sardar (foreword) (Sidmouth: Pluto Press, 2008 [1952]); Glen Sean Coulthard, Red Skin, White Masks: Rejecting the Colonial Politics of Recognition, Taiaiake Alfred (foreword) (Minneapolis and London: University of Minnesota Press, 2014); Hamid Dabashi, Brown Skin, White Masks, (Sidmouth: Pluto Press, 2011).
[6] عبّاد يحيى، «عن التضامن والباندا»، العربي الجديد، 5/7/2015، شوهد في 13/3/2021، في:
[7] طقس ديني عند بعض الهندوسيين، تُقدم فيه المرأة التي مات زوجها على حرق نفسها مع جثة زوجها. وفي عام 1829، بات هذا الطقس غير قانوني.
[8] ابتسام عازم، سفر الاختفاء (بيروت/ بغداد: منشورات الجمل: 2014).
[9] دباشي، ص 344 - 345.
[10] إسماعيل ناشف، صور موت الفلسطيني (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
[11] يُنظر: الفصل الرابع من الكتاب لروبرت واريور، الذي يشرح فيه محاولات الربط بين جغرافيا فلسطين والقصص التوراتية.
[12] يُنظر: علاء محمود أبو عامر، الفلسطينيون-الكنعانيون القدماء: الحقائق، الألغاز، الأساطير (حيفا: مكتبة كل شيء، 2017).
[13] أحمد أمارة ويارا هواري، «توظيف الأصلانية في النضال التحرّري الفلسطيني»، الشبكة، 8/8/2019، شوهد في 21/3/2021، في:
[14] Lila Abu-Lughod, “Imagining Palestine’s Alter-Natives: Settler Colonialism and Museum Politics,” Critical Inquiry, vol. 47, no. 1 (2020), pp. 8 - 13.
[15] Steven Salaita, “Zionism and Native American Studies,” Abolition Journal, 6/6/2017, accessed on 12/3/2021, at:
[16] ديريك آييد، «الفهود وفلسطين: الأمميّة السوداء والثورة الفلسطينية»، ترجمة سماح إدريس، الآداب، 14/6/2020، شوهد في 7/3/2021، في:
[17] Graham Usher, “We are not Red Indians,” Al-Ahram Weekly Online, no. 715 (2004).
[18] Joseph Massad, “Against Self-Determination,” Humanity, vol. 9, no. 2 (2018), p. 162.
[19] “Bob Lovelace, Canadian Delegate to Freedom Flotilla III,” Beit Zatoun, 14/6/2015, accessed on 14/3/2021, at:
[20] Steven Salaita, “American Indian Studies and Palestine Solidarity: The Importance of Impetuous Definitions,” Decolonization: Indigeneity, Education & Society, vol. 6, no. 1 (2017), pp. 21-22.
[21] «محمود درويش في «موسيقانا»: «إن شعبًا بلا شِعر هو شعب مهزوم»»، بدايات، العدد 5 (2013).
[22] كمثال على ذلك، يُنظر نشاط الكونغرس اليهودي الكندي CJC في الدمج بين سكّان كندا الأصليين واليهود الإسرائيليين:
Mike Krebs & Dana M. Olwan, “‘From Jerusalem to the Grand River, Our Struggles are One’: Challenging Canadian and Israeli Settler Colonialism,” Settler Colonial Studies, vol. 2, no. 2 (2012), pp. 138-139.
[23] Salaita, “American Indian Studies and Palestine Solidarity,” p. 8
[24] لمثال عملي على ذلك، يُنظر مقال ميكايلا سحّار حول حملة سيناء وفلسطين في: الفصل الخامس.
[25] مجد أبو عامر (حوار)، «إسماعيل ناشف: علينا التّحديق في النّكبة لا الهرب منها»، مجلة 28، العدد 15 (2020)، ص 23.
[26] Salaita, “American Indian Studies and Palestine Solidarity,” p. 2.
[27] Salaita, “Zionism and Native American Studies.”
[28] فرانز فانون، معذبو الأرض، ترجمة سامي دروبي وجمال الأتاسي، ط 2 (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015)، ص 162.