على أطراف البلدة، يقف بيتنا وحيدًا وبعيدًا عن بقية البيوت. وأن يكون بيتك أبعد البيوت، فهو حكمًا أبعد ما يمكن عن قاطنيها، وأقلّ ارتباطًا ومعرفةً بما يحدث داخلها، ما يجعل إمكانية العيش في نطاق البيوت وبينها أقرب إلى الاستحالة، مقارنةً مع إمكانية العيش في البرية، الّتي تحيط بك من كل صوب، في رحاب التلال وحول الوادي الهزيل.

كنتُ أتّجه إلى البلدة للذهاب إلى المدرسة فقط، حيث أستمرُّ في الجلوس فوق المقعد ذاته طيلة النهار يوميًّا، بانتظار الاستراحات بين الحصص المدرسية، ثم انتهاء اليوم الدراسي أخيرًا، لأتّجه عائدةً فوق طريق تتلاشى البيوت من عليه تدريجيًّا، وتبتعدُ حياة البلدة التي يسودها نوعٌ من النظام والإجبار، إلى أن أصل إلى بيتي على جهة اليسار. وبينما تقفُ البرية على اليمين بكل ما تحويه من عزلة وحرية، وبالتحديد في أسفل التلة حيث يجري الوادي، توجد على ضفته الأخرى قطعة أرض صغيرة مثلثة الشكل، تضمُّ أكثر اللّحظات حميميةً وسعادةً عشتها في طفولتي، قبل أن تختفي فجأة وبالكامل.

في ذلك المثلث الصغير، عرفتُ أول تعبير عن الحب بين والديّ، حيث يحرثون أرضهم سويةً، ليزرعا بعض الخضرة الّتي تشربُ من مياه الوادي، بينما أتقافزُ قريبًا منهم مع الضفادع الّتي تنتشر على امتداد ضفة الوادي. ثم بعد فترة وجيزة، طُرد والديّ من هذا المثلث الصغير. تبدو هذه الحادثة أقلّ وضوحًا بالنسبة لي، ولا أعرف إن كنتُ قد شهدتها فعلًا، أم أنّني سمعتُ بها فحسب، أو تخيّلتها بينما لم تحدث البتّة. دوريات حماية الطبيعة الإسرائيلية ستظهر فجأة وتقلع ما زرع والديّ من خضرة، ثم ستدفعهما خارج المثلث بالقوة. سيُقاوم والداي، ويقولان بأنّ هذه أرضنا أبًا عن جد، لكنّ أفراد الدورية سيستمرون بدفعهما خارجًا، ولن يعودا بعد ذلك إلى المثلث الصغير للاعتناء به، ولا سننعم بعدها بالحميمية والسكينة الّتي كنا نشعر بها ثلاثتنا آنذاك، لأسبابٍ لا تتعلق به البتة ربما.

بدوري لن أوافق، ولن أنصاع إلى الأوامر. سأعودُ يومًا إلى ذلك المثلث الصغير، وأُحاول جنيَ ثمار الخضرة الّتي اقتُلِعَت منذ فترة طويلة، وسأزرعُ أخرى بقدر ما أستطيع التخيُّل. كما سأعتني بالعشب البري الكثيف وأتأمّله، ثم أرتِّبُ حجارة كثيرة كل يوم من جديد، في خطوط وأشكال هندسية مُختلفة. سأُقسِّم أرض المثلث إلى غرفٍ في بيتي في البرية، حيث سأجلس داخله وحيدةً، وأنظر إلى بيت والديّ والبيوت الأخرى، وحتى المدرسة، حيث تقف جميعها في خط طويل على خاصرة الجبل المُنتصب قريبًا مني جدًا.

من هناك؛ من داخل مثلث العزلة الصغير ذاك، ستنمو علاقتي ببقية الأماكن الّتي سأسكنها، والناس الّذين سأحيا بينهم ومعهم، على أُسُس يحكمها الخيال، وإن حدث وتسرّب إليها ما هو واقعي، سأعملُ جاهدةً على تحريفه ولو قليلًا، فلا يمكن لأحدٍ طردك ممّا هو خيالي وغير خاضع لشروطِ الواقع.

ثم بعد أربعة عقود، تأتي أخيرًا شروط الخيال، لتفرض نفسها على الواقع. وعلى مدار ثلاثة أيام من خريف عام 2019، يقوم مناضل عظيم يُدعى مروندو، ما برح يُقاوم استيلاء السلطات الأسترالية على أرضه، بالاستماعِ إلى سلسلة الطرد الأبدية الّتي يحياها كل فلسطيني. وهكذا في نهاية اليوم الثالث، يفتح مروندو بوابة أرضه الّتي تمتد على شكل مثلث واسع في الجنوب-الغربي من أستراليا،ويدعو الفلسطينيين إلى البقاء فيها، بعيدًا عن أيّ تهديد بالاقتلاع.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx