بالنسبة لشخصٍ ليس من السكان الأصليين ولا من الفلسطينيين، فإنّ حضور مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكّان الأصليين: مواجهة القوميات الاستعمارية» (6-8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019)، ساعدني على مواجهة الفوضى[1] المحيطة بتاريخ دول الاستعمار الاستيطاني. وفّر لي المؤتمر أيضًا مساحة لتذكّر أبطال مناهضة الاستعمار الّذين شجعونا على أن نستمد أفعالنا وسياساتنا المناهضة للاستعمار من الحاضر، وتعقبها في الماضي. وهو ما يُمكِّننا من بدء مسار إنهاء الاستعمار باستخدام التضامن العابر للحدود. أتناول في هذا المقال بعض تأملاتي وملاحظاتي حول المؤتمر.
كشف المؤتمر عن «رؤية مستقبلية لا تُقاوم» حَلم بها وبتحقيقها مقاتلو الحرية، والثوّار من قبلنا. وتتطلب هذه الرؤية الربط بين ماضينا المناهض للاستعمار ومستقبلنا الساعي لإنهاء الاستعمار[2]. ينبغي علينا تجاوز «تصوُّراتنا الضامرة»[3]، الّتي تكافح لتُحقِّق عالمًا بلا حدود ولا سجون ودون احتجاز للّاجئين، وبلا عنف يلحق بالجسد البشري وغير البشري، وبلا عنف يلحقُ بالأرض[4]. علينا الربط بين كيفية تعامل الإمبراطوريات الاستعمارية مع الشعوب الأصلية وأراضيهم في جميع أنحاء العالم، من خلال دراسة كيف سيطرت الأمم المستوطِنة على مجتمعات السكان الأصليين، عن طريق الوصول إلى الممرات المائية والجوية والبرية والموارد الّتي توفرها[5].
عزّز حديث نادية بن يوسف عن مؤتمر باندونغ (1955)[6]، والتهديد الّذي شكله للإمبراطورية، فكرة أنّ إنهاء الاستعمار في المستقبل يتعلق ببناء علاقات تدريجية ومدروسة[7]. إنّ التعرُّف على تواريخ بعضنا البعض والشخصيات البطولية فيها، يخلق إمكانياتٍ للتضامن العابر للحدود، ويُعلّي الأصوات المناهضة للاستعمار، ويُعزز المقاومة الموجودة في جميع الأراضي المستعمرة.
أخذني حديث نادية حول التجمع التاريخي في مؤتمر باندونغ، إلى لحظة اجتمعتْ فيها تسعة وعشرون دولة حديثة الاستقلال، انخرطت في نقاشات مناهضة للاستعمار «شكّلت تهديدًا وجوديًّا للإمبراطورية»[8]. وحضرتْ كذلك إلى المؤتمر، دولٌ ما زالت تناضل من أجل التحرر لتطلب تضامن الدول حديثة الاستقلال معها. لقد مثلت مطالب التضامن وإمكانياته المنبثقة عن هذا المؤتمر «رفضًا لفكرة أنّك بحاجة إلى المطالبة بحقوقك من الأقوياء»[9]، مفضلةً تضامن هؤلاء الّذين يقومون بفعل المقاومة كاستراتيجية لتفكيك الإمبراطورية[10].
وُلدتُ في الهند المستقلة، وبعد 47 سنة على الاستقلال في 1947، والّذي جاء عقب انتفاضات مُلتهبة ومُتفرّقة استمرت لمئات السنين ضد الاستعمار في جنوب آسيا. لقد وُلِدتُ في عالم ما بعد استعماريّ، وكان عالمًا مليئًا بآثار وذكريات الإمبراطورية البريطانية، والّتي توسّعت لتقوم بالمراقبة والاحتواء والتجريم والازدراء والتجزئة والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية[11]. إنّ المناضلين والمحاربين من أجل الحرية في الهند، والّذين صاروا أعلام المشاعر المناهضة لبريطانيا، بالكاد دخلوا الكتب المدرسية الّتي نجحت في تضمين التاريخ الاستعماري. وبين حين وآخر، يُمكن إيجاد تاريخ هذه المقاومة بمشاهدة فيلم Rang De Basanti [12]، أو التشكيك في المناهج الدراسية. لقد أعاد الاحتفاء السينمائي ببهجت سينغ Bhagat Singh، وفيلمه الصادر عام 2006، إشعالَ روح المشاعر المناهضة لبريطانيا عند شباب معظمهم من الطبقة المتوسطة، دون إرباك الذاكرات الجماعية كثيرًا مثل «أمة عدوانية ما زالت تتخلّص من مخلفات الاستعمار»[13].
أعيش الآن على أراضي الوروندجيري والبونوورنغ من أمم الكولين وأكتبُ عنها. هُنا، أرى أنّ التضامن بين السكان الأصليين أساسيٌ من أجل تفكيك الأنظمة الخبيثة للدولة القومية الاستعمارية. تتحكم هذه الأنظمة بالظلم وتخلقه، بينما تعمل بشكلٍ فعّال على تبييض تاريخ الإبادة الجماعية الّتي تأسست عليها هذه الدولة القومية. إنّ 232 عامًا من إنكار هذا التاريخ، والاستعمار المستمر على هذه الأراضي، يعني أنّنا بحاجة إلى الإصرار على التحرر، وأن نقوم بعملٍ نُموضع فيه أنفسنا بنشاطٍ هنا، بينما نتخيل التضامن العابر للحدود عابرًا للمحيطات أيضًا.
وصفت نادية أفعال إنهاء الاستعمار في أستراليا على أنه مترابطة: «لقد شربت نضالاتنا من الكأس نفسها، وهي مترابطة ببعضها البعض. ما تفعلونه هنا من أجل نضالات السكان الأصليين هو انتصارٌ لنا. قوموا بعملكم هنا. اروو قصصنا حتى نتعرف على بعضنا البعض ونرى كم نحن كثيرون»[14]. جعلني هذا أتأمل أيضًا في أفكاري وأفعالي المناهضة للاستعمار، لفهم أنّه ثمّة «علاقات تدريجية ومدروسة بين النضالات»[15]، والّتي كانت موجودة أصلًا وتستمر في الوجود والتشكّل من أجل المطالبة بالتحرر، ليس فقط من هياكل السلطة التقليدية الّتي أسستها الإمبراطورية، بل من النضالات العديدة أيضًا، من أجل تحقيق العدالة.
كيف يمكننا البدء بتخيل رؤية مُستقبلية لا تُقاوم، دون الرجوع أولًا لفهم أين تمّ تخيُّل وجودنا المناهض للاستعمار أول مرة؟ كيف يمكننا موضعة أنفسنا في لحظةٍ كان فيها ذلك التخيُّل رؤية مستقبلية للثوار السابقين؟ كانت أساليب العنف الّتي تقوم عليها الإمبراطورية مهدَّدَة، وفي بعض الأحيان فُكِّكَت في لحظات المقاومة المناهضة للاستعمار، وباستخدام الطرائق الّتي نتمكّن بها من الاحتفاظ بالذكريات الجماعية لهذا الأمر. يتعيّن علينا التعرف على هذه اللحظات وحملها في فهمنا، لأنّها أساس العمل المناهض للاستعمار الذي نقوم به، وما زال علينا القيام به. كما أنّه يخلقُ مساحات لنا لنتعلم تدريجيًّا وبشكلٍ مدروس، عن تاريخ الأبطال المناهضين للاستعمار، وأن نتبنى هذه الذكريات الجماعية حتى نتمكن من التصدّي بشكلٍ فعّال للازدراء الاستعماري الاستيطاني عبر الحدود في مستقبلنا المُتخيَّل.
وتبقى أساليب الإمبراطورية في الاحتواء والتجريم والمراقبة والازدراء والتجزئة والإبادة الجماعية، جزءًا من مقاومتنا الجماعية، من خلال استعادة النضالات من أجل التحرر[16]. لقد تخيَّل الأبطال المناهضون للاستعمار مستقبلًا يُمكننا فيه الإصرار على التحرّر في مكانٍ ما، والشعور بالانتصارات في جميع أنحاء العالم[17]. وتعكس شبكات التضامن العابرة للحدود واستراتيجيات المقاومة كم أنّ حجمنا كبير[18].
لقد غيّر هذا المؤتمر موقفي من المستوطنين والمهاجرين على أراضي الوروندجيري والبونوورنغ غير المتنازل عنها، كما عزّز هذا التضامن العابر للحدود موقفي المناهض للاستعمار، وجعله معقولًا. لقد أكّد المؤتمر الحاجة إلى مواصلة هذا التضامن، من خلال الإصرار على تعلّم التاريخ النضالي لبعضنا البعض، مع الاستمرار في الإصرار على التحرر. كما جعلني أعترف وأتذكر وأقدم احترامي لڤيلو ناتشيار Velu Nachiyar، ولاكشمي باي Lakshmi Bai، والعديد من الثوار المناهضين لبريطانيا، والّذين ناضلوا لدخول ذاكرتنا الجماعية، وكذلك للأسلاف والأجداد المُسنّين على أراضي السكان الأصليين المسروقة، والّتي أكتبُ من فوقها، وللنشطاء المناهضين للاستعمار، في الأراضي الّتي شاركتُ في حملاتهم وسأستمر في المُشاركة فيها، من خلال سعيي للتضامن مع النضالات.
ما زلت أحاول تجاوز هذه الفوضى في خطابنا، وجمع التواريخ والأبطال المناهضين للاستعمار وإعادة تخيُّل شكل العمل التضامني على هذه الأرض. ونظرًا لأنّ نقاشات نادية تتقاطع مع أفكاري، فإنّ ما قالته بأنّ «إنهاء الاستعمار يجب أن يحدث في كل مكان، وأنّ التضامن يجب أن يكون عابرًا للحدود الوطنية»[19]، يُذكرني بأنّ التضامن هو تطبيق عملي، وأنّ العمل الّذي أُنجِزَ يجب تذكره. وذكرتني نادية كذلك بالعمل الّذي لا يزال مطلوبًا، لتخيُّل وبناء نظام عالمي جديد.
[1] استخدمت كلمة Dismemory، الّتي سمعتها للمرة الأولى من خطاب نادية بن يوسف، والتي جعلتني أُفكر وأشكك بطريقة إنشاء الخطاب، وفي الطريقة الّتي يؤثر فيها هذا الخطاب على الذاكرة الجمعية المرتبطة بالمكان.
[2] Nadia Ben-Youssef, “Slouching Towards Bandung: Rooting our Decolonised Future in our Anti-Colonial Past,” paper presented at the Black-Palestinian Solidarity: Contesting Settler Nationalisms Conference, University of Melbourne, Melbourne, 6-8/11/2019.
[3] Ibid.
[4] Tony Birch, “Inside the Conflict Zone: Global Colonialism and the Destruction of Country,” paper presented at the Black-Palestinian Solidarity: Contesting Settler Nationalisms Conference, University of Melbourne, Melbourne, 6-8/11/2019.
[5] Ibid.
[6] عقد «مؤتمر باندونغ» في مدينة باندونغ بأندونيسيا، وحضرته وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية. استمر المؤتمر لمدة ستة أيام، وكان النواةَ الأولى لنشأة حركة عدم الانحياز. شارك فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، بالإضافة إلى رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السوداني إسماعيل الأزهري، وجبهة التحرير الوطني كمراقب. تبنى المؤتمر مجموعة من القرارات لصالح القضايا العربية ومناهضة للاستعمار.
[7] Léopold Lambert, “Spreading the Decolonial Spirit of Bandung from Tunisia to Turtle Island: Recorded in Naarm (Melbourne) with Nadia Ben Youssef on November 8, 2019,” The Funambulist, no.131, accessed on 23/2/2021, at: http://bit.ly/37FPckc
[8] Ibid.
[9] Ibid.
[10] Ibid.
[11] Ben-Youssef.
[12] ويعني «إطلها بالزعفران». هو فيلم دراما هندي صدر عام 2006. الفيلم من إخراج وإنتاج وسيناريو راكيش أمبراكاش ميهرا، ومن بطولة عامر خان وسيدهارث نارايانو سهى علي خان وكونال كابور وشرمان جوشي ومادهافان وأتول كولكارني، والممثلة البريطانية أليس پاتن.
[13] Sunil Khilnani, “Forgotten Heroes: the True Story of India,” The Guardian,19/2/2016, accessed on 1/5/2021, at:: https://bit.ly/3dc231g
[14] Ben-Youssef.
[15] Lambert.
[16] Ben-Youssef.
[17] Ibid.
[18] Lambert.
[19] Ibid.