المدخلُ الذي فكّرت به لهذا الحوار، هو ملاحظتي لوجود ما هو مشترك بينك وبابلو بيكاسو، فلو كان لي وصفك، سأقول: وريث بيكاسو..
برماليون مُقاطعًا: بدايةً، من المزعج على المستوى الشخصي تشبيه الفنان بآخر، مهما بلغ مستوى هذا الآخر من الشهرة والتمكّن الفنيين، وحتى لو كان الاسم الأشهر بين فناني القرن العشرين. لكن الأكثر إزعاجًا بالنسبة لي هو اختصار مذهب التصوير التشكيلي المسمّى بالتكعيبية – والذي تجاوز كونه مجرد مدرسة فنية أو اتجاه فنّي ليكون له عوالمه في العِمارة والنحت وغيرها – في شخص بيكاسو، حتّى أصبح بيكاسو والتكعيبية في الثقافة العامة يُمثلان الشيء ذاته، حتى ليغيبُ مثلًا ذكر الفنان الفرنسي جورج براك (1882-1963)، شريك بيكاسو في تأسيس هذه المدرسة، ناهيك عمّن جاء بعده. لا أعني بالطبع أي تقليل من بيكاسو الظاهرة الفنية الطاغية، ومن بمستطاعه أن ينكر فنانًا بهذه العبقرية، وهذه الغزارة في الإنتاج، حيث أنتجَ حوالي 26 ألف عملًا، وعاشَ مشهورًا لأكثر من ثلاثة أرباع القرن منذ ذهابه إلى باريس في أوائل القرن العشرين وحتى وفاته عام 1973. عندما أقول طغيان، فأنا أقصده بالمعنى الفني الجمالي، فبتجريبه على مستوياتٍ عدّة، منحَ بيكاسو أفقًا واسعًا للمدرسة مقارنةً بأي فنانٍ آخر.
عندما يدخلُ فنانٌ ما مثلي مُتأخرًا إلى بوابة التكعيبية، وتكتسي أعماله بهذه الخطوط المميزة للتكوين التكعيبي، تبدأُ الأصوات عفويًا باستدعاء «بيكاسو» لتضعني في جملة إجبارية معه قد أبدو لا شيء مقارنةً به، ولو كان التشبيه على سبيل المزاح، يبقى مزعجًا أيضًا. لهذا أقول دائمًا: دعونا نهرب من بيكاسو لنتأمل روح التكعيبية ومكنونها العميق، بدلًا من ملاحقة بابلو. هذه التكعيبية تُمثّل التصوّر الجمالي الأكثر تلميحًا لحالة تشظّي الإنسان، واقتسام كل مكوّن للهيمنة – من الدولة إلى نُظمها وحتى المجتمع – قطعةً من هذا الإنسان. هذه النُظم الواقعة في أشكالٍ هندسية (مربعات ومثلثات ودوائر ومكعبات)، تظهرُ كأنها تُحاصرُ الإنسان لتُعيد تشكيله وتنميطه، ليصبح مُكوّنًا طيعًا فيها، وزاوية ضمن زواياها التي لا تنتهي. عندما شاهدَ الناقد لويس فوكسيل (1870-1943) عملًا يعتمدُ على التبسيط والأشكال المُكعبيّة في صالون الفنانين المستقلين عام 1906، قال: «إني أرى غرائب مُكعبة». هذه المكعبات الغريبة في عينِ فوكسيل ليست إلا الإنسان، الذي عاينه في هذه اللحظة المُفعمة بإرهاصات حرب عُظمى (الحرب العالمية الأولى)، فالعالمُ كان يقفُ على عتبةِ هذا الجحيم، يستصرخ الفنانين والمثقفين للبحث عن مخرجٍ جمالي من هذا الجحيم، ولا مخرج أو علاج إلا ويبدأ بوصف الحالة. الأمر عينه تكرّر معي في لحظة الربيع العربي، جاء ليقول أنّ الإنسان العربي مفتت ومُتذرر لا يقوى على جمعِ شتات نفسه، لهذا حضرت في أعمالي الأقنعة والأشكال التكعيبية والوجوه المُتفجّرة. هكذا مثلت التكعيبية القالب الأنسب لاحتواء فكرتي، فالتزمتُ بها، وإن راوحت بين أشكال أخرى كالسريالية والتعبيرية والتجريد، وبالمناسبة حتّى براك وبيكاسو عَبروا هذا المسار، ما بين التكعيبية وتقاليد تشكيلية أخرى، كون باب المدرسة مفتوحٌ.
لكن، ألا تجد ثمّة علاقة بين أسلوبكَ الفني وبيكاسو؟
نظّمَ قصر الفنون في باريس معرضًا بعنوان «بيكاسو والأساتذة» عام 2008، وكانت فكرته تقوم على عرض أعمال بيكاسو إلى جانب الأعمال الأصلية التي اقتبس منها. لقد وصفَ أحد النقّاد بيكاسو على أنه «الروح الأوروبية»، فهو قادر على استيعاب الفن الأوربي المتنوع ذهنيًا وجماليًا وإعادة إنتاجه بروح حديثة، وهكذا نرى العديد من عمليات التأثّر، إلى درجة شيوع أن هنري ماتيس (1869-1954) كان يخشى من زيارة بيكاسو لمرسمه. لماذا أسردُ هذا؟ لأقول إن عملية الإلهام لا تعني أنك تنقل الأعمال السابقة بل تهضمها لتنتج تصورك أنت. ولذلك لا تجد علاقة مباشرة بيني وبيكاسو، فعندما تنظرُ إلى لوحتي لا تجد أنني أستعيرُ من بيكاسو، إلّا أنه علامة في ذهني، فأنا أتتبع الجماليات التي تتبعها بيكاسو لأنها من العمقِ بمكان. فعندما أتأمل لوحات غوستاف كليمت (1862-1918) أو إيغون شيلي (1890-1918) أو رامبرانت (1606-1669) أو ميكيلانجيلو (1475-1564) أو كارافاجيو (1571-1610)، سرعان ما تتبادرُ إلى ذهني التكعيبية التي من خلالها ألمسُ ذاتيتي وأترجمها إلى تصوّر جمالي، كأنني أخذتُ من هؤلاء الفنانين الحروف المُجردة، ومنها خلقتُ مُفردتي الخاصة، ناهيك عن جملتي ونصّي.
لو أردنا أن نُمرحل مسيرة برماليون الفنية كيف تَصفها؟ وهل جئت إلى تخوم التكعيبية سيرًا متمهلًا أم هبطت بمظلة؟
بدأتُ الرسم طفلًا، أذكرُ أنني أقمتُ معرضًا في قصر الثقافة بحيِّ شُبرا عن عيد العمّال، عندما كُنتُ طفلًا في التعليم الأساسي، وكأغلب البدايات بدأت بالرسم الواقعي، وبعد فترة ليست بالقصيرة، شعرتُ بمحدودية ما أسعى نحوه إن كان الرسمُ سيقف دومًا عاجزًا أن يحاكي ما تفعله الكاميرا، على خلافِ ما هو واضح في إظهار الموهبة، فأسهل طريقة يُمكن أن يعتمدها الفنان لجلبِ مديح الناس هو أن يؤدي ما يتوقعونه. لعلك تلاحظ كيف يغلب على الثقافة الشعبية تفضيل عمل فني طبقًا لمعيار المماثلة الذي يصب دومًا لصالح تسيّد التقليد الأكاديمي الأوروبي ومحددات المدرسة الواقعية: أن تُحاكي وأن تُماثل. لقد حمل الطليعيون معول هدم هذا التقليد ومنظوره، وجاء الفن المُعاصر لينفي سمو المماثلة. هؤلاء الذين رأوا أن العالم لا يتجسّد في أبعاد الطول والعرض والارتفاع، بل يُمكن أن يأخذ أشكالًا مُغايرة هم من أنتجوا الدهشة الجديدة، الأسماء كثيرة أميز منها على وجه الخصوص بول سيزان (1839-1906) وماتيس، لقد طرق هؤلاء أبواب القرن العشرين وأيديهم مغبرة ببقايا صنم المماثلة الذي عمّر طويل، وبفضلهم أصبحنا إزاء عالم آخر. لا أدري كيف أدركت هذا في طفولتي الفنية، فقط أتذكر أنني لم أعد قادرًا على رؤية المنظور التقليدي في رسوماتي من قبل الجامعة، وزهدت في الرسم رغم إجادتي التقاليد الأكاديمية. أعتقدُ أنّ دور هذه التقاليد يقتصر على مُجرد التدريب، ولم تعد مساحة للإبداع، رغم ما نُلاحظه من موجة عالمية تستعيدُ للواقعية مساحةً مهولة، وتغذيها شعبوية وسائل التواصل الاجتماعي، حتى بتنا نرى الترويج للفنانين وهم يؤدون حيلهم الأكروباتية أمام الكاميرا في رسم بورتريه أو مشهد طبيعي؛ إنها حالة بهلوانية فقيرة فيما تطرحه من قيمة جمالية، حالة تتناسى أن الكاميرا قد حسمت مبكرًا معركة المماثلة، وأنّ تطورات تكنولوجيا الجرافيكس الرقمية جاءت لتقطع الطريق تمامًا أمام هذا الادعاء. الفن إمّا أن يخلق قيمة مُضافة وإلا فلا يكون فنًّا، لكن وسط صخب الميديا لا أحد يسمع.
من هذه النقطة.. حتّى الفن المعاصر وتأويلاته ينطوي على شيء من الواقع، رغم ابتعاده الظاهر.. هل ثمّة دور للفن التشكيلي بوجهة نظرك؛ أن يكون مرآة للواقع مثلًا؟ أم أنك تختزل الفن في المسألة الفنية الجمالية؟
المرآة بحدِّ ذاتها باتت أبعد عن الحقيقة. وتعجز عن تَصويرنا. لربما يستيقظُ المرء وينظرُ إلى المرآة سائلًا نفسه: من أنت؟ لقد أصبح لدينا الكثير من الانفصامات بسبب تلك الحالة التي نعيشها، وقوامها التخلي عن قطعة من الذات وحريتها لقاء الحصول على علامة أو شهادة بأنك متوافق (compatible) مع النظام؛ بدءًا بنُظم العمل إلى نظم الدراسة إلى السياسة والعلاقات الاجتماعية. النظم تُنمّط الإنسان، وهو بدوره يستمرُ في إعادة تشكيل وجهه/ شخصيته/ هويته ليتلاءم مع هذه النظم. لهذا، عندما أعملُ على لوحاتي التكعيبية أشعرُ أنني أستعيد حقيقة الوجه بنزع الغلالة الواقعية عنه؛ فوجوهنا التي نراها في المرآة والصور تُثيرُ الحيرة لدينا، وفي هذا العصر الرقمي ولكثرة صورنا، أصبحنا لا نقوى على تمييز أيٍ منها يُمثل وجهنا الحقيقي. والتمييز هنا بتعريف الجمال على أنه النفاذ إلى عُمق الحقيقة.
في كتابه «عن القبح» (2007) – الذي بدأتُ بترجمته ثمّ فشلتُ في إكمال المشروع مثلما فشلتُ في الكثير من الأعمال – يدهشنا أومبرتو إكو (1932-2016) بزعم أن القبح ليس نقيضًا للجمال، وليست بضدها تتميز الأشياء كما نقول. بل لهذا القبح غرض قائم بذاته وله غاياته الاستطيقية المستقلة تمامًا. القبح ليس معنيًا بمناقضة الجمال، هكذا يكون للقبح أو الموت أو العنف أو الخوف داخل الفن حضورًا مستقلًا، فإذا كان الفن يساوي الإنسانية، فهذه الأشياء كلها على ما تسببه لنا من توتر وامتعاض هي من الإنسانية. لا أعني أن الفن غايته نشر القبح وملامحه، فغاية الفن دائمًا إيجابية تجاه الجمال، ويرمي إلى القيم النبيلة، لكن ليُحقق ذلك يجب أن يدور في العوالم الأوسع. وليست وظيفة الفن تجميل العالم، رغم أنه قام بذلك تاريخيًا. الفن هو حضور جدالي داخل هذا العالم المضطرب؛ هو حالة نقاش مستمرة. حين تدلف إلى الفن، فأنت لا تترجل في حديقة تتنعمَ بما فيا من المسرات المُشاهدة، بل تدخل إلى أتون مظاهرة أو جلسة نقاش حادة. بالتأكيد يُمكن للمرء أن يجد حديقته المنشودة في الفن، لكن ليس له أن ينزعج إن لم يجدها ويهتف كالملدوغ: هذا ليس فنًّا!
قبل أيام مثلًا، وقفت طفلة أمام لوحة «القربان» في المعرض، وقالت لي: أشعرُ أنها مُخيفة! فأجبتها معتذرًا: هي كذلك.. لقد وصفت اللوحة بكل براءة، وأمسكت بالمعنى تمامًا. أنا قصدتُ أن تكون كذلك. كدتُ أهمس في تلك البريئة: ليست وظيفتي أيتها الصغيرة أن أخلقَ لكِ لوحة تُجمّل واقعًا لن ترينه. كما كنتُ أودُّ لو رسمتُ شيئًا يُسعدك، لكنني أرسمُ ما أعلمه وأشعر به وأراه، وألقيه كأطروحة بصرية بدلًا من الثرثرة حوله.
صحيحٌ أنّ الأصالة هي العُنصر الأهم في الفن، لكن هناك نوع من المحاورات التي يقيمها الفنان أو الشاعر أو الروائي مع أعمال سابقة، لا تُفقدُ العمل الجديد أصالته، بل يُمكن أن يكون نقدًا لها حتّى!
أتفقُ معك في ذلك، من لوحاتي الأخيرة عمل بعنوان «دردشة قصيرة مع باسكييه»، ويُظهر فيها بوضوح نوع من هذه المحاورة مع أعمال الفنان جان ميشيل باسكيه (1960-1988). ويذكرني الأمر بطرفة، فمن المعروف عن المُلحن والممثل المصري منير مراد (1922-1981) أنّه صاحب شخصية ساخرة ولا يجيد أن يُقلّد أصوات الفنانين فحسب، بل كان يُقدم فقرةً هزلية لألحان كبار الملحنين. لقد تخيّل مرةً لو أنّ محمد القصبجي (1892-1966) ومحمد فوزي (1918-1966) وفريد الأطرش (1910-1974) ومحمد عبد الوهاب (1902-1991) وزكريا أحمد (1896-1961)، اتفقوا على تلحين وغناء أغنية عبد الوهاب الشهيرة «أنا والعذاب وهواك» التي كتبها عبد المنعم السباعي (1918-1978)، فكيف سيؤديها كلٌ منهم؟ في هذا الاسكتش الساخر لمراد إجابةً على سؤال البصمة الفنية: هل هي هوية الفنان أم أسلوبه أم توقيعه؟ أم هي حبّة الفاصوليا الصغيرة في أعمال سلفادور دالي (1904-1989) التي فسّرها النقّاد على أنها إشارة إلى الحرافيش (الطبقة المتدنية من الناس) في إسبانيا؟ أعتقدُ أن البصمة – استنادًا إلى مثال مراد السابق الذي أعتبره مُلهمًا – هي مجموعة الأشياء التي تُنتج الشخصية الفنية، فلكل فنان شخصية مُتفردة حتّى لو حاورَ أو تناص أو تعارضَ مع فنان آخر، فهو بذلك يحاول التفاعل مع حالة/ تجربة شعورية لدى فنان زميل، وليست حالة تقليد. ربما تستغرب أنه قبل القرن السادس عشر كانت مسألة التواقيع نادرة جدًا، فلا يُمكننا التعرّف على الفنان صاحب العمل، مثل الأعمال الفنية المصرية القديمة التي لا نعرفُ من هو الفنان العظيم الذي نحتَ تمثال أبو الهول، ولا من أنجز تمثال الملك خفرع المنحوت على حجر الديوريت الصلب بكل هذه الكفاءة. بوجود هذه المجهولية ستتحاور كفنان لا مع أسماء بل مع حالة قائمة بصريًا، وهذا يحدثُ كثيرًا عندما تتجولُ في المتاحف ولا تنتبه لأسماء الفنانين وتفوتها عامدًا لكي تتفاعل مع الحالة البصرية التي أمامك.
حاصرتني في معرض «ملحمة الوجه» الوجوه/ الكائنات الّتي لا تنفكُّ عن التحديق والسؤال عن معنى الوجود؛ وجودها هي في الأصل، حتّى شعرتُ بالغربة خلال تنقلي بين لوحات هذه العائلة.. حدثني عن «مقهى الأقنعة» و«رعاياك» و«ياسمين»، فهي أعمال ضخمة تستقبلُ الزائر لمعرضك بحالة درامية هائلة، وكأنها مخزون من الحكايات.
هل تعرف مقهى زهرة البستان بوسط البلد في القاهرة؟ هناك قضيتُ فترة من عمري بصحبة فنانين ومثقفين وأدباء وصعاليك.. السيدة البارزة في اللوحة هي امرأة شريدة يصفونها بالمجنونة، لا أتذكر أي عام حدث هذا، قبل عقد أو أكثر، حين أطلق مدير مستشفى العباسية للصحة النفسية العديد من نزلاء المستشفى، فباتت ميادين القاهرة وشوارعها الرئيسية تعجُّ بهؤلاء المرضى النفسيين. ولك أن تتخيل المشهد. كانت هذه السيدة واحدة منهم، تظلُ تتردّدُ على المقهى وتطلبُ من الناس أن يُحضروا لها مشروبها المفضل؛ شايًا بالحليب. وبمجرد أن تُمسكُ يدها بالكوب ترتعشُ لينسكب السائل على الأرض، الأمر الذي يُزعج الزبائن. كان راعيها هو صديقي الراحل الروائي مكاوي سعيد (1956-2017). وهذا على خلاف عادته، إذ كان لا يروقه هؤلاء المشردين، لكنه ظلَّ يتعاملُ مع هذه السيدة بخصوصية، مُصرًا على دفع فتيان المقهى على منحها ما تطلبهُ. الأمر الذي أزعجني يومًا، وقلت له أنها ستكرر الأمر، فأجابني بحدّة بالعاميّة المصرية: «بَطَّل غباوة!» وهو ردٌ قاسي وغريب آلمني، وظلَّ عالقًا ببالي، وإن تسامحت ومكاوي فيه. لكنني بتُّ أراقبُ هذه السيدة كلما عبرتُ الشارع نحو المقهى. وفي يوم لاحظت أمرًا مدهشًا، فمنطقة وسط البلد لا تعرفُ الحمام أو أي من الطيور، بسبب ما فيها من معدلات عالية جدًا للضوضاء والعوادم.. لكن مع هذه السيدة لمحتُ ثلاث حماماتٍ يتبعنها، وعندما تُغادر يختفين، كأنها تأخذهن معها. وفي مرّة من المرّات، قدمتُ لها علبة مشروب، فجلست قبالة المقهى وأخذت تسكبه على الأرض، ولانعدام قدرتي على فهم ما يَحدث، أرجأتُ «الغباوة»، ولجأت إلى كراستي وأخذتُ أرسم المشهد لأجد في الرسمة تفسيرًا سكنَ اللوحة بهذه الهيئة.
أمّا لوحة «رعاياك» فترتبطُ بالواقعة التي حدثت مع الفنان التشكيلي المصري عبد الهادي الجزار (1925-1966)، فقد سُجن صديقه عام 1950 إثر كتابته مقالًا يذكر فيه أن مصر بلد فقير وقرابة 1٪ فقط من المصريين من يعيشُ في رخاء، وكان الجزار في هذه الأثناء يُقيم أول معرض فنّي له، فرسمَ لوحة «الجوع» (1948) التي تُظهر بؤس حياة المُهمّشين وتفضحُ النظام الملكي، وعَرضها في معرضه مُرفقًا معها جملة «هؤلاء هم رعاياك يا مولاي»، فصادرت السُلطات اللوحة وأغلقت المعرض واعتقلتْ الجزار، لتُفرجَ عنه بعد تدخّل الفنانين التشكيليين محمود سعيد (1897-1964) ومحمد ناجي (1888-1956). وبعد فترة رسمَ الجزار لوحةً أخرى وعنونها بالجملة ذاتها. وعندما بدأتُ بمشروع هذا المعرض بتشجيع من صديقي حميد دباشي (1951-) بعدما زارني في منزلي ورأى أعمالي، راودتني فكرة استدعاء لوحة الجوع. في لوحة الجزار المرسومة عام 1948 تظهرُ الأطباق الفارغة أمام النساء، أحببت تأمل كيف كثّف الجزار معنى البؤس عبر هذه التنويعة من النسوة. لماذا الفقر مؤنث في بلادنا؟ وسألت نفسي عندما قامت الثورة عام 2011 هل كنّا نبحثُ عن كفافنا فحسب؟ صحيحٌ أن واحدًا من شعارات الثورة الرئيسية كان «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، لكن قمع الذات أو الفردانية الذي تُمارسه الأنظمة القمعية، جعلنا نفقدُ وجوهنا وذواتنا، لهذا بدّلتُ الصحون بالأقنعة لأستدعي معنى البحث عن هوية الفرد وحريته.
و«ياسمين» هي عازفة عود شابة، اختطُفت من ميدان التحرير وتعرّضت لعنف جنسي مهول. عندما قابلتها وسألتها عن الأمر لحظة اختطفوها، أجابت: «شعرتُ أنني مُتُّ».. وفقط عندما وصلت إلى منزلي بعدما جرى شعرتُ بالألم يضرب جسدي ووجهي. لهذا كما ترى رسمت وجهًا محايدًا، ليس لأن ياسمين تقبّلت الألم، بل لأنه فاق قُدرتها على الصراخ حتّى. وألقيت بالمصباح المُضيء في أعلى اللوحة بمكان مُهيمن، لأشير إلى ديمومة فكرة الحق والتّحرر، رغم الضحايا وياسمين ومن يليها ممن سيهتفُ بنداء الحرية للنساء. أمّا التفاحة فهي الرغبة، والتي لا أجد لها ارتباطًا بالعنف الذي كانت ياسمين ضحية له، فما وقعَ لم يحفزه الإعجاب ولا الاشتهاء، بل ضِعة الرغبة في السيطرة على الأجساد، وفي الهيمنة والعنف.
عبده موسى البرماوي (برماليون) فنان تشكيلي وباحث مصري، اتّخذ من الأسطورة الإغريقية «بيجماليون» اسمًا له بدمجها مع اسم عائلته «البرماوي»، وهي أسطورة إغريقية عن نحّاتٍ وقعَ في حبِّ تمثالٍ صنعه على هيئة امرأة جميلة، أحيتهُ له إلهة الحب فينوس في عيدها. وقد بدأ باستخدام اسم برماليون كتوقيعٍ فني في جداريات غرافيتي رسمها في شارع محمد محمود بالقاهرة في الفترة (2011-2013). تخرّج من جامعة القاهرة،وتعلّم الرسم ذاتيًا،وأقام العديد من المعارض الفنية في القاهرة ونيويورك ودبي والدوحة. وإضافةً إلى ذلك،فهو باحث له العديد من المقالات والدراسات في مجال الفن التشكيلي والنقد الثقافي.