لم أكن مولعاً باستخدام شرفة شقتي المطلة على وادي ترفيديا، أو وادي أرض الإخلاص، مع أن مقومات المشهد منها قد سحرت الكثير من زوار البيت. فهناك عمائر مدينة بيتونيا التي تقبع على هضاب الجبل المقابل. يقولون إنها تشبه علب السردين أو الكبريت. ولكني لا آبه كثيراً بهذه التشابيه، لأني أعتقد أن شقتي في عمارة شبيهة جداً لعمائر الكبريت، ولكنها في حي الطيرة «الراقي»، فيخجل الكثيرون من الذين يحاولون التشبث في «رقي» الحي من ذم العمائر وأشياء أخرى فيه. سحر المشهد لا يكمن في عمائر بيتونيا إلا في الليل، حيث تختفي خزانات المياه السوداء البلاستيكية من فوق أسطح المباني، وتتحول مصفوفات ثقوب الشبابيك السوداء واللانهائية إلى طيف من أضواء بيضاء وصفراء وبرتقالية متلألئة مثلها مثل أضواء مدينة تل أبيب على الساحل، التي يمكن، أيضاً، التمتع «بجمالها» من شرفتي. كانت شرفتي الملاذ الوحيد لي مع العالم الخارجي خلال جائحة الكورونا، لذلك، وعلى غير العادة، قمت بفتح أباجورها الكبير بشكل دائم. ورأيت منها فصل الربيع في وادي ترفيديا يمر بخضاره ولونه الأصفر وعبقه بسرعة جداً. ومللت غروب الشمس خلف خط البحر الأبيض المتوسط البرتقالي بغض النظر عن ألوانه وأشكاله.
وفي خضم الحجر، وخلال العمل من المنزل عبر برامج التواصل الرقمي، كان السؤال المؤرق لنا دوماً في المؤسسة، ماذا علينا أن نفعل لو استمر انتشار المرض والحجر الجمعي للسنة القادمة؟ كيف سنتناول السياق الحالي لجائحة الكورونا وندمجه في برامجنا وفي عمل المؤسسة في السنين القادمة؟ كانت هذه الأسئلة نابعة من إدراكنا جميعا أن الجائحة ستترك ندوباً اجتماعية عميقة واغتراباً عما كان حميمياً ومألوفاً لدينا، وأيقنا تأثيرها الحتمي على مستقبلنا، إلا أنها، وبعكس تاريخ الأوبئة في فلسطين، فقد تزامنت مع خطة إسرائيل بضم الضفة الغربية، وتسارعِ خطوات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وبخاصة تقلص المساعدات والمنح الدولية لفلسطين، وأخيراً إخفاق المشروع السياسي الفلسطيني.
كباقي المحجورين في العام، كان لدي الفضول كيف يتعامل أصدقائي حول العالم مع منظومة تفشي المرض الجديدة، وكيف تتأقلم الدول المختلفة بتطويع أجهزتها من مراقبة وعسكرة ونظام الصحة والرفاه الاجتماعي … إلخ تحت هذه الحالة الصحية الطارئة. من خلال العديد من جلسات الـ(Zoom)، والسماع إلى الكثير من الحوارات والنقاشات، تبين لي استمرار التناقض الأزلي بين منظور دول الجنوب والمنظور الأوروبي في تعريف مفهوم «الأزمة»، وربطها بجائحة الكورونا، وكيفية التعامل معها من خلال الحقل الثقافي. كلما أصغيت أكثر لعاملين ثقافيين من أوروبا والولايات المتحدة، أيقنت الانحسار المعرفي في الثقافة الغربية حول الأزمة التي تكمن خارجها، حيث أضافت جائحة الكورونا طبقة أخرى إلى الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة والمزمنة في التاريخ المعاصر لشعوب الجنوب بشكل عام. فعلاقة «الأزمة» بشعوب الجنوب ليست بجديدة. فمثلاً، أضاف الانفجار العارم لشحنة نترات الأمونيا في مرفأ بيروت في 4 آب المنصرم إلى الجائحة المستمرة للوباء، وإلى أزمة الفساد السياسي والطائفي والنظم الأبوية الهرمة الحاكمة في لبنان، كما أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية المستمرة.
أما بالنسبة لنا هنا في فلسطين، فإن خطة الضم الإسرائيلية الحالية هي حلقة أخرى من سلسلة طويلة من طغيان استعماري مستمر على الفلسطينيين، مرتبط باقتصاد متهلهل يعتمد على الهِبات وأموال الدول المانحة، ومجتمع فلسطيني منقسم بين بانتوستانات جغرافية وبدون رؤى وآفاق سياسية، إضافة إلى تجذر للفصائل السياسية الأبوية الهرمة، وتزايد الأصولية والقبلية كطريقة للحياة، وأخيراً تفشي الثقافة الاستهلاكية والفردية النيوليبرالية.
ومن مطالعة أدبيات الكورونا منذ بداية الوباء، تبين لي أن العديد من المفكرين والفنانين والأكاديميين قاموا بوضع تصورات وتكهنات لدور قطاع الثقافة والفن ومؤسساته في ظل الأزمة العالمية الراهنة.
فهناك من تناول أزمة الوباء؛ سواء تم تصنيفها على أنها «طبيعية» أو «مفتعلة»، من زاوية تسليط الضوء على التوزيع غير المتكافئ للسلطة وتفرد الدولة بالقرار السياسي بمعزل عن الشعب، وإبراز هيمنة واستبداد الدولة والشَرِكات الاستثمارية من جهة، وبين الحراك المجتمعي المضاض والمطالب بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية من جهة أخرى. لقد توقع عدد كبير من أتباع الـ ما بعد-بنيوية سيناريوهات لمجتمعات أكثر انقساماً، حيث تسعى الدول بموجبها إلى تحصين حدودها على أمل حماية نفسها من الخارج. ويتم التنبؤ بزيادة عنف الدولة الداخلي الممنهج، حيث تظهر طرائق ذكية جديدة في توجيهه ضد الحراك المجتمعي المضاض، وثم تقويضه وإخفائه.
ونظر آخرون إلى سيناريوهات أقرب للخيال العلمي قريبة من كتابات جورج أورويل، حيث تنبأوا بمستقبل خلف الشاشات وفي مجتمعات مسورة، حيث تُحرر جائحة الكورونا البشرية من قشرتها البيولوجية، وتُحول الكينونة البشرية إلى معيشة رقمية بامتياز. مجموعة أخرى تتناول أزمة الوباء من منظور «الأنثروبوسين» والتأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الأيكولوجية، ويرون الرأسمالية كمشروع يعتدي على بيولوجيا الإنسان وجسده، والهواء الذي نتنفّسه في رئتينا، والتغذية التي تدخل أجسادنا.
في أثناء ذلك كله، دعا آخرون إلى الهروب والخروج من الدائرة المفرغة للاقتصاد الثقافي التي تم تسكينها بعلاقة تمويلية تبعية ما بين الجهات المانحة؛ سواء أكانت الدولة أم جهات أخرى، وبين المؤسسات الثقافية، والفنانين أو الفاعلين الثقافيين عبر البرامج المؤسساتية، ما يفرض أجندات تؤطر العمل الثقافي، وترسخ التبعيات وتعوّد الفنانين على عدم القدرة على العمل خارج منظومة هذه العلاقة.
ومن هذا كله جاءت فكرة استكتاب مجموعة من الكتّاب الشباب من مختلف الجغرافيات الفلسطينية لسرد تأثير الجائحة على حياتهم اليومية، واستقراء مستقبلهم ومستقبل البشرية المجهول، كلٌّ من منظوره الخاص.