كان من المدهش أنّ ما قمت بتقديمه من منحوتاتٍ في معرضي، قد تمّ حجزه للبيع، وقد كدتُ لا أصدّق حين أبلغني مريد أنّ علينا التواصل مع جمهورك، لبحث آلية تسليم شخص.. ما أعجبه من الأعمال، هذه الكيفية التي يعملُ بها الإنسان، يشتري دائمًا ما ينقصه من الشكل الذي كان ينبغي أن يتلبّسه، وخشيت أنّني بذلك قد أكون في طورِ تمزيق نفسي وترتيبها، من أجل بيعها، إنها رحلة بيع المشاعر والأفكار التي تولد، لتقتات عليها البقية التي ما زالت قيد التشكل، مثلما تفعل الحياة تمامًا، تبعثنا، نتسرب في كل الطرقات، كي نجدَ فكرنا الموزع بين الأشياء، وحين نلمس الوعي، نكون شارفنا على مرحلة التحزيم، تمهيدًا للنثر في الهواء المختلط في التراب المعتم، هناك تحت الأرض نقدم هذا الوعي، لما خلف السر العظيم، قربانًا لحقيقة الموت، هذا ما يحيلني إليه هاجسي، ولطالما يؤكّد لي، أنّي لن أرى السرَّ الكامل إلا في العتمة. كان ذلك دافعًا يجرّدني من كل الموجود حولي، حيث أنني أقدمتُ على ممارسة عملي، وتركيع هيبة الغموض، من خلال نحت كافّة أعمالي وسط العتمة الخالصة، وهو ما قادني لخلق تفاصيل لم أرها بتلك الدقة في النور. في بيتي المنزوي عن المألوف في الطبيعة، قمت بنحتِ عينٍ في سقف كل غرفة في منزلي، حاولت في أكثر من مرة تكسيرها، ومحوها من وجودي، لكنّي كنت دائمًا أضعف من أن أفعل ذلك، ففي منامي لم أشاهد إلا ذلك الحلم الذي يخبرني، إياك أن تخلع تلكَ العين من منزلك، فهي عين الله، وأيقنت سر الخوف الدائم من ممارسة ذاتي الغريزية، بسبب تواجد تلك العين التي صنعتها من تلقاء ذاتي.
على كل حائطٍ في غرفِ منزلي قمتُ بنحت جزء بشري. الحائط الغربي من منزلي، تطلُّ منه يدٌ مغلولة، كنت أمسك بها حين أفقد شخصًا أثّر في حياتي، وأنا أصافحها كنت أبكي، وأخبرها أنّ العالم خذلني إلى حد أنه قطع يديّ العاطفة لدي التي كنت أحتفظ بها في جسد ذلك الشخص الراحل. على حائط منزلي الشمالي، يطلّ أنف وفم بشريين، كنت أجسد فيهما علاقتي مع الأشياء التي لطالما قمت بسن قناعاتي عنها، وعلاقتها في ذاكرتي، لكن في كل مرةٍ أعود للأنف والفم، وأصارحهما بخيبتي: لقد نسيتُ شيئًا يا صديقاي، لقد تغيّر إحساسي بكلّ شيء، هل لأنّني أنا الذي يتغيّر، أم أن تلك القناعة بقيت كما هي، وذهبت للشيء بنفس الإحساس، لكنها لم تجده؟ فيا أنف، أنت الذي تشتم الرائحة وتتسرب من مبارك الأوهام، برائحتها الأولى، لكن سرعان ما نبحث في داخلنا عن تلك الرائحة فلا نجدها، ويا فم، أنت الذي تنسى أطعم الأشياء، وحين نمررها مرة أخرى إلى الذات لنختبرها، نجد أنّنا ابتلعنا السراب، ويا لها من قاسية تلك الخيبة، كم عوّدتنا على التكرار.
على الحائط الجنوبي قمتُ بنحت أطرافٍ بشرية، تلك البوارز التي غاب جسدها، وتجسّد في الحائط المركون، لا اليدان كانتا قادرتين على نشلي، ولا الرجلان قدّمتا ذلك الحائط خطوةً، كنت أحاور اليدين كالثرثار عن كمِّ القناعات التي شكّلتها عن العالم، لربما لأبعث الدفء لذاكرتي، وأفاجأ بعد حين أنّ كلّ يد امتدت على جسدي ممن حولي، سرقت مني شيئًا، أما القدمان، فقد كنت أصرخ أمامهما: لقد مشى الوعي بأقدامي إلى التيه، لم أعد أعرف أين أنا، ونسيت أين كنت، ولا أعرف أين سيسوقني هذا المتغير في مستقبلي الداكن.
الحائط الشرقي لمنزلي كان مشرحةً للأجساد، وبما يحتويه من لعثمةٍ كنت أنطقها بحواسي، وضعت عليه الفوضى في عمري منحوتة من الصخر، كان الحائط الأكثر صلابة وأنا الهش اللعين أمامه، أرقص كلّما قابلته، الحائط الشرقي امتلأ بالأعضاء التناسلية للمرأة منوعة وبأحجام مختلفة، وما يعلوها في كل مساحة من صدور النساء المتمايزة في الحجم والملمس، فلا أذكر أنّني رأيت صدر امرأة إلا وصار مقيمًا شرق بيتي، لعل فكرة الرقص جاءت أمام ذلك الحائط، كما ابتدأ العالم في ممارسة الرقص، فعند الفراعنة كانوا يعتبرون الرقص من أهم طقوس الصلاة، وما يقوم به الراقصون من حركات هي من أجل التقرب إلى الآلهة، وكرموز تعبيرية تدل على الانسجام بين العقل والروح، وقد أدت النساء الفرعونيات الرقص، بأجساد عارية، أمام التماثيل، من أجل جلب الخير والخصوبة لهن، وإن ما أقدم عليه الإغريق كان مغايرًا من حيث الشكل، فبكى الإغريق تضرعًا لآلهتهم وتقربًا إليها، ولا أعرف، فإن طقوس العبادة في الصلاة حاليًا، هل تكون غير حركاتٍ قام بها الفراعنة بالرقص، وبكاء قام به الإغريق لإرضاء الآلهة؟
اليوم لقائي مع ماريا، المرأة التي تعيدني دائمًا إلى أصلي، حيث أرجعُ إلى السنوات التي كنت أرى فيها الأعين لأول مرة، كمرحلة اكتشاف، حيث كان يتوارى الشغف في ذاكرتي، ويدخل في مختبر معتم ليعاد تكريره، ويخرج من بعدها كانطباع جمالي، أحصر فيه كل التراكيب المتعلقة بالعين، وتبرز من بعد كل ذلك نظرتي الدقيقة لنسب الجمال في عين الإنسان، عيون ماريا فيها كل احتمالات الغرق، أمامها أتحوّل لكومة من الأسئلة، وليس بالضروري أن يكون لكل سؤال إجابة، لكن كومة أسئلة قد يكون لها إجابة واحدة، ماريا بعيونها تغيّر مصيري، وتلقي ثعبانها في الفراغ، أراه يخرج من العينين سويًا وفي نفس الوقت، لكني لا ألمس منه شيئًا مهما حاولت. عيون ماريا ممتدة كنهرٍ على طول مدينة غزة، يفيض بماء دافئ دائمًا، نتيجة رؤيته أو لمسه حتمًا الأُنس في الغرق. اتفقنا على أن تزورني ماريا في بيتي، لكثرة شغفها في اقتناء ملامحه، كنت أحاول منع رغبتي في ذلك، من خلال رفضي، لأنّني أعرف كيف سأتكسر جرّاء تراطمُ طيني بماء نهرها. تدخل ماريا مدينة الأشياء الغريبة، رأسها إلى كل الجهات ينظر، تُسلّم عليّ وكأن يدها إزميل مُهيء للعمل، لم أقص الخيط الذي تواصل السير عليه، وهي تغوص في التفاصيل حولها، رأيتها تحسّس على العين في السقف، بنظراتها، وتمنع نفسها من بلع ريقها، كي لا تحسّ باقتراب زوال طعم الدهشة، إنها فنّانة تشكيليّة لكنّها تندهش بطريقة الطفل، لا تتراكب الأشياء في ذهنها بسرعة، تنسى الجبل الذي دلّها عليه وعيها سريعًا، وتتذكر دميةً كانت أهدتها إياها أمها قبل وفاتها مع جميع عائلتها في حرب 2008. بعد دقائق أحسست أنّها دخلت مرحلة الخطر، فزاد معدل أنفاسها، وبدت لي تنهج، وتتألم، لربما حين رأت تمثال أمي، كنت قد أقدمت على نحتِ خطوات أمي وجسدها، من باب غرفتي حتى سريري، في قناعتي كان تحريك الميت ليس بالأمر الصعب، لكن جعله يفكر، أمرٌ يحتاج معجزة.
مرّرت يديّ على كتفها وقمت بسحبها برفقٍ، كانت دموعها تسيرُ دون خوف، كأن كل شيء في منزلي منحها الأمان، أو عدم القدرة على السيطرة، قمتُ بمدِّ يديّ إلى خدّيها، مسحت الماء وكأنني بلمساتي، أعيد نحتها. استمرت في البكاء، وأخبرتني أنّها لم تجد مساحة لتكون حرّة مثل هذه اللحظات، وأنّ بيتي هو مجموع الجنون الذي تخفيه في داخلها، لكنّها تحزن أنّها لا تستطيع سرده بأيّة حال. ابتلّت أصابعي بأول سائل من ماريا، صرت أتلمسه، وأفرده بيت أصابعي، وكلّما انغمسَ بين مسامات جلدي، أمدُّ يدي مرةً أخرى لأنحت وجهها، وهي تتأمل عيوني البارقة من أجلها، قمت بمدِّ أصابعي المبتلة بدموعها، كنت بذلك لربما أختبر حساسيتي الداخلية لأول عينة عضوية من ماريا، مددتُ أصابعي المبتلّة بماء ماريا، وأخذتُ أتذوقهُ بفمي هذه المرة، ضحكت ماريا لذلك، وقالت:
– مجنون، ماذا تقصد بذلك؟
– إنني أتذوق ماء حزنك، لأعرف كيف أعالجه، وكم مرة أخبرتك: ما من ماءٍ يختلطُ بماءٍ إلا ويُغيّر صورته.
– أنت تتذوق دموعي، لتختبر عطر جسدي.
– العطر في الطين لا في السوائل.
– هل لك شيء في عينيَّ؟ إنّك لا تتوقف عن السير فيهما!
– غريب، هل تسمعين صراخي؟
– إنك بعقل يحمل إزميله الخاص يا رام.
– لا تلومي عقلًا يرى نمو النبتة من طور البذرة، لطور الثمرة، في نفس اللحظة.
– أنت لا تفكر، أنت تُمسّد بيديك على مصيري.
– إنني ملسوعٌ بحوافِ جسدك، وأعصابي لا تتوقف عن البكاء، هل لي أن أطلب طلبًا؟
– لا تطلب، افعل.
– أريدُ احتضان عينيكِ.
– وكيف ذلك؟
– دعيني أُجرب أن أنحت جسدي صغيرًا وأعلّقه فيهما، كسفينةٍ لا بلاد لها.
– أنت تسافر بي دون حركة.. ماذا لو كنت تتحرك؟
– سأقتلع عينيكِ، لعلها الشيء الوحيد الذي يُثبّت وجودي.
______________________________________________
* مقطع من رواية إزميل رام (رام الله: دار الرعاة، 2020).