السؤال: المكان.
لا إجابة.
أجلس في مصبنة الشيخ عمرو عرفات الآن. في بلدة نابلس القديمة. رجعٌ قويّ للصدى بين جدران عمارةٍ شُيّدت قبل 140 عاماً. رجعٌ يحوّل الإصغاء لنقاشٍ يدور حول «الحداثة السائلة» إلى مهمّة ثقيلة. «انتقام البداوة» – يقول سيغمونت باومان في كتابه ذاك. «إننا نشهد انتقام البداوةِ من مبدأ الاستقرار والوجود القطريّ». عند مدخل الغرفة الحجريّة، يقفُ مدير المركز الثقافي ويُشير بحياءٍ إلى ساعة اليد لنُنهي النقاش، فالمكان سيُغلق أبوابه بعد دقائق قليلة.
على مدخل المصبنة، حين خرجنا، حاول الرجلُ أن يشرح لنا عن عشرات الأبواب الخشبيّة المصفوفةِ عند مدخل العمارة: «جمعناها من البيوت العتيقة المدمّرة، بعد الاجتياح»، إلا أننا لم نتمكّن من معاينة الأبواب. السماء تُمطرُ، وعلينا أن نهرول مسرعين باتجاه مقهى الشيخ قاسم –أقدم مقاهي المدينة- لنواصل حلقة النقاش هناك: «فالانتقال بخفّةٍ هو الآن مغنم السلطةِ وذخرها، وليس التقيّد بالأشياء التي تعزّ على الإنسان لصلابتها وإمكانيّة الركون إليها…» – يكتب باومان، ونناقشه بين جدران تأسرنا بـ200 عام من الصلابة، نقاشاً يتردُد مشدوهاً بعربدة الحنين الساحرة. إلى جانبي، يجلسُ شابٌ نابلسيّ عَرِفَ أنّي آتٍ من حيفا، يتجاهل النقاش ويهمس لي كم كان سعيداً حين عمل في حيفا وسكن فيها بضعة شهور. يتلو أسماء الشوارع التي يتذكّرها، والمقاهي والشخوص. أتململ اشتياقاً إلى مكانٍ لم أنقطع عنه إلا لأربعة أيام، وهو يشتم ربّ التصاريح. انتقمت البداوة، باومان، لكنّ البدو ما زالوا يتقلّبون على جمر هزيمتهم: لا يستطيعون عبور حاجزٍ، ولا رؤية البحر، ولا السفر للعلاج الطبيّ أو التعلّم، ولا الزواج من مقدسيّ/ةٍ، أما الطبيعة، وهي مجالنا الحيويّ الطبيعيّ الأزليّ، فمُنع التنقّل فيها وقطف الزاد البريّ، ومُنع رعي المواشي، وصارت الجبال متحفاً ميّتاً تُديره «السلطة الإسرائيليّة للحفاظ على الطبيعة»… إن لم تُصبح معسكراً.
كان سؤال المكان يندسّ بيننا، على مدار أسبوعٍ، بأخبث الأشكال الممكنة: ينكشف ويختبئ، تتسع رقعته ثم تنقبض. تنفضح جوهريّته لحظةً، ويُذكر كتفصيلٍ هامشيّ في لحظةٍ أخرى. ويتقنّع أحياناً بأسئلةٍ أخرى، مثل أجندة المؤسسات التي تُدير المساحة العامّة، إن كانت مسرحاً أو صالة فنيّة، أو شروط التمويل لبناء مقرٍ لجمعيّة ما، أو تحوّل المكان إلى مركزٍ يُصمم، بدوره، الهوامش المنبوذة. لكنّ أدهى ما فيه أنّه يشغلنا كلنا حدّ الهوس، ويبقى في الوقت ذاته متمنعاً محصّناً من الحلّ. فهو من جهة واحدة هاجسٌ يستلمنا جميعاً: نساء كفر مالك يحتفلن بمبنى شيّدنه بقواهنّ الذاتيّة. مسرح خشبة في حيفا «يحلم» بامتلاك قاعة المسرح عوض استئجارها. النابلسيّون مهووسون بقِدَم المباني. وفي القدس يرفضون ملايين الدولارات لمغادرة غرفةٍ صغيرة في السوق. وأبو عُدي يُقاتل مصنعاً وجداراً يخنقان مزرعته. فيليب رزق لم يستطع أن يصوّر فيلمه –«برّة في الشارع»- برّة في الشارع، وشخوص فيلمه تُنازع لامتلاك المصنع الذي قضت فيه حياتها. وجيجي أرجيروبولو تتكلّم بغزارةٍ عن التنظّم لاحتلال المباني العامّة المهجورة في اليونان، وأنا مثل طفلٍ سخيف أعدّ اللحظات لأعود إلى حيفا الصغيرة، وغير ذلك أمثلة كثيرة لكائنات –كلّها- تقاتلُ في وغى المكان.
في الوقت ذاته؛ فإن هذا النسيج الإنسانيّ الذي نجرّب حياكته -بين طولكرم والهند والسنغال وحيفا وألمانيا وكفر مالك وتشيلي وغزّة- يربط خيوطاً متعددةً لا يُشبه أيٌ منها الآخر في علاقته بمكانه هو نفسه. كل واحدةٍ منّا لها قصة مختلفة تماماً مع مكانها المختلف من حيث شكله، موقعه، مبناه، أساليب امتلاكه وطرق تداوله، حُبّه وكُرهه، ضيقه ووسعه، عُمره وتفاصيل ناسه. فالمكان هنا فكرةٌ مجرّدةٌ تختلف فحواها عند كلّ واحد وواحدةٍ منّا. وطرحها بموضوعيّة، بعلاقتها بالسياسة والمجتمع والاقتصاد، بسيطرة المؤسسات ومركزيّة الدولة وقمعيّة المجتمع، هي كلّها مزهريّات فكريّة تنكسر عند أوّل ذاكرةٍ لنا عن غُرفتنا أو ساحة بيتنا، عن أوّل تحرّرٍ في البار، أو أوّل تلصّصٍ إلى ديوانٍ مُغلقٍ –عن المكان الأوّل الذي اكتشف فيه كلّ واحد/ة منّا «من أكون أنا بالعلاقة مع الآخرين».
إن العامل الفارق والجوهريّ في سؤال المكان هو عامل العلاقة مع السلطة. وهو شاغلٌ مركزيّ بالنسبة لمعظم «خيوط» هذا «النسيج». سلطة الاستعمار، لو كنّا نتحدّث عن سرقة الأملاك وهدم البيوت ومصادرات الأراضي ومنع البناء (وغير ذلك مما لا يُحصى). السُلطة الاجتماعيّة، لو كنّا نسأل عن إتاحة الحيّز العام وانغلاق الحيّز الخاص. عن السلطة «الوطنيّة»، لو كنّا نسأل عن الأصرحة العامّة و«مباني الدولة» وإدارتها الزبائنيّة وإملاءاتها الأيديولوجيّة في الضفّة الغربيّة وغزّة. والسلطة الدوليّة/الأجنبيّة، لو كنّا نسأل عن التمويل المشروط والاقتصاد الريعيّ، وحتّى عن سياسات الأونروا في مخيّمات غزّة والضفّة وغيرها. في كلّ سؤال عن «المكان»، يندفع إلى المقدمة الصدام مع هذه السُلطات، إلى درجةٍ يولد فيها الوهم بأنّ المكان دائم الارتباط بالسلطة والخضوع لها، وأنّ محاولة العيش والتصرّف والإنتاج في حيّز ما تنطوي دائماً على مساومةٍ أو تواطؤ مع السلطة المهيمنة على المكان، وتنازل في الرؤية التحرّرية. وفي فَلك هذا «الوهم»، تظهر القدرة على استبدال الأمكنة كقدرة تحرّريّة، والترحال بدل المكوث يُصبح مقولةً ضدّ «المركزيّة». (هناك في فلسطين من يؤدلج الوهم باستحضار أمثلة حرب الغوار!) بيد أن المكان، في الحقيقة، هو الضحيّة الأولى للقمع، والتمسّك به، ومزاحمة السلطة فيه ومناطحتها عليه، هي الوظيفة الأولى للعمل السياسيّ في فلسطين – فالمكان، الشرط الماديّ الأوّل لوجودنا الإنسانيّ، مستهدفٌ باعتباره جسد الجماعة المُراد إبادتها (إبادتها سياسياً، على الأقل).
في ذاك المقهى النابلسيّ، طُرح سؤالٌ حول فيلم فيليب رزق «برة في الشارع»؛ هل يُمكن الوصول إلى صيغةٍ يؤمم فيها المصنع ويصبح ملكاً للدولة دون أن يُدار بالفساد والمركزيّة والقمعيّة؟ نناهض سيطرة رأس المال طبعاً، إنما هل يكون الحل في استحواذ الدولة القمعيّة على المصنع؟ كان هذا سؤالاً مركزياً، لأنّه يعرض التناقض الذي نعيشه بين تجربة السلطة التقليديّة والدولة المركزيّة القمعيّة، مقابل هيمنة الشركات والطغمة الماليّة. تناقضٌ صاغه ميخائيل بكونين بمثاليّة: «إنّ الحريّة دون اشتراكية هي امتيازٌ، وغبنٌ؛ والاشتراكية دون حريّة هي عبوديّة ووحشيّة» (1867). لكنّ هذا السؤال الذي طُرح يكشف، في الوقت ذاته، عُمق إيماننا بلا-جدوى البحث عن السلطة العادلة، عمق تسليمنا بأن لا دولة تقدر على أن توفّر نظاماً قانونياً يُتيح للعمّال امتلاك وسائل الإنتاج دون المساس بحرّيّة الناس، يكشف اعتزالنا الحركة السياسيّة التي تسعى إلى استبدال أنماط الحكم القمعيّ (كانت استعماراً أم ثيوقراطيا، أم حكم العسكر، أو حكم المهرّجين في بلادنا، الذين لم تتطوّر، حتّى اللحظة، أي نظريّة علميّة قادرة على تفسير غبائهم).. وبكلمات باومان: «إننا نشعر (…) أن السلطة (أي القدرة على فعل الأشياء) انفصلت عن السياسة (أيّ القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها …). وهكذا، فإننا نعاني ارتباكاً لأننا لا نعلم ماذا نفعل».
قد يصحُ هذا الوصف لكلّ دولةٍ في العالم، فقد استفادت الحكومات التوسّعية من العولمة ليس بتوسيع أسواقها وبسط سيطرتها وسرق الموارد وتشويه المجتمعات فحسب، إنما بخلق فضاءات متخيّلة للعمل «الكونيّ»، و«الدوليّ» معدوم التأصّل بماديّة الأوطان المتغيّرة، فيُصبح هذا الفضاء الذي يبدو واسعاً ومترامياً وغير محدود الإمكانيّات، سجناً غير مرئيّ يحبس الملايين ويعزلهم، بينما تُنهب بلادهم وتُدمَّر. وتصل هذه الحالة ذروة بشاعتها حين لا يعود الإنسان بحاجةٍ للخروج من بلده كي ينفصل عنها، فتعبّد التكنولوجيا طريقاً وردياً، نشطاً، وحتى ثورياً، نحو جحيم الاغتراب.
إن سؤال المكان ليس سؤالاً حول «الصمود والبقاء» بالمعنى المثاليّ والشعاراتيّ للكلمة، فهذه بطولات مستهلكة لا ضمان لها ولا قياس، وهو، أيضاً، ليس سؤالاً أركيولوجياً يستخدم التاريخ ليُثبت أسطورةً تنافس أسطورةً أخرى. وليس الترحال والبداوة، من جهةٍ أخرى، موقفاً ثوريّاً بحدّ ذاته، فاعتزال «المكان» هزيمةٌ حين يكون التهجير القسريّ نمط حياةٍ يوميّاً يفرضه الاستعمار. لكن قصّة فلسطين، بجوهريّة التهجير فيها، تحوّل سؤال المكان إلى بحثٍ عن العدالة المعدومة المُغتالة: من الذي يستطيع الترحال؟ من الذي يقدر على البقاء؟ لمن يحقّ البناء؟ من الذي يهدم لمن؟ وجدلاً بلغة باومان الذي تحدّث عن حداثةٍ تُذيب المواد الصلبة التي «تتشبّث بالبقاء على مرّ الزمان»: فمن يمتلك الصلابة التقليديّة؟ ولمن الحقّ بإذابتها؟ وبأي حقٍ يدعونا الغزاة لنمضي في الحداثة السائلة؟.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx