المعرفة والثقافة والمنهج: تأملات حول الاستعمار وإنهاء الاستعمار

وقعتْ الكثير من الأحداث منذ مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكّان الأصليين: مواجهة القوميات الاستعمارية» (6-8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019)، بدءًا باندلاع جائحة عالمية، سلّطت الضوء على الطبيعة التمييزية إلى حدٍّ كبير، المُتعلِّقة بتخصيص الدولة للموارد، وصولًا إلى تأثيرات من يحكُم، وكيف تُحكَم الشعوب المُختلفة. في وقتٍ يشهد ضغوطًا عالمية غير مسبوقة، تجسّد هذا السؤال في حادثة مقتل جورج فلويد George Floyd يوم 25 أيار/ مايو 2020، الأمر الّذي أعاد تنشيط حركة حياة السود مُهمّة Black Lives Matter، ما أدى إلى إجراء مقارنات بين حالات وفاة السود في الحجز في أستراليا ومقتل إياد الحلاق في القدس بعدها بأسبوع.

أظهرت الشهور الأولى من عام 2020 قوة الثقافة في تعزيز الدولة، وكذلك في معارضتها. تُمثّل النقاشات الحالية حول التماثيل والنصب التذكارية الاستعمارية، أفضل الأمثلة على قوة الثقافة والطرق التي يُعبّأ فيها الوعي العام لصالح الدولة أو ضدها. وفي فهمنا للسياق السياسي المعاصر، غالبًا ما يتمّ تجاهل العلاقة المُتداخلة بين مشاريع الحداثة والهياكل الفعّالة والمترابطة للاستعمار الاستيطاني.

أدّت موروثات عصر التنوير الساعية لفهم العالم الّذي نعيش فيه، إلى خلق أنماط جديدة لإنتاج المعرفة الاستعمارية. وليس من قبيل المصادفة أن يسافر جوزيف بانكس Joseph Banks (1743-1820) بهدف مواصلة حياته المهنية العلمية كعالم نبات، على متن سفينة إنديفور في أول رحلة علمية للكابتن جيمس كوك James Cook (1768-1771)، والّتي رُسِمَ فيها الساحل الشرقي لما بات يُطلَق عليه منذ ذلك الحين «أستراليا». وكذلك، شكّلت حملة نابليون على مصر (1798-1801)، بداية اهتمام استعماري أوروبي متجدد في الشرق الأوسط، إذ أخذ نابليون معه 167 باحثًا وعالمًا كجزء من مساعيه. لقد خلق إنتاج المعرفة نماذج جديدة لطريقة فهم الأوروبي للعالم، فطُبقّت سرديّة «الاكتشاف» على المعرفة، تمامًا كما طُبقّت على الأرض.

عند النظر في تداعيات عمل بانكس النباتي وفريق علماء نابليون، نجد أنّ كلاهما أنتج في النهاية أشكالًا متعددة من المعرفة. تغلغلت المعرفة العلمية لـ «المُكتشَفات الجديدة» في الدوائر الأكاديمية الراسخة في سرديات التنوير، ممّا أدى إلى الكثير من الجدل. كانت هذه المعرفة ذات قيمة أيضًا بالنسبة للدول الّتي تحمّلت تكاليف هذه الحملات، سواء على مُستوى التجارة (في المحاولات المبكرة لبناء قناة السويس)، أو لتطوير المستعمرات العقابية (الّتي قدمت حلولًا للمشاكل المحلية داخل المملكة المتحدة والناشئة عن التصنيع والانغلاق والخلافات المحلّية وفقدان الأراضي الاستعمارية في أمريكا الشمالية)[2]. كان لمثل هذه المعرفة أيضًا، تأثير أوسع على الشعوب في داخل أوروبا، ما أدى إلى خلق ثقافة المخيالات الشعبية لهذه الأماكن «البعيدة».

لقد سُلِّطَ الضوء على مصفوفة المعرفة هذه من نواحٍ كثيرة في مجالاتٍ مثل التصوير الفوتوغرافي في فلسطين وعن فلسطين، والّتي تُلاحظ في الكثير من الخطاباتِ الأكاديمية والجمع الحكومي للمعلومات والمخيالات الشعبية، وهو نمط متكرر في الحياة العملية للمصورين مثل تشارلز ويلسون من المهندسين البريطانيين الملكيين، أو أنتونين جاوسن من المدرسة التوراتية أو جون وايتينج من المُستعمرة الأمريكية. يُظهِر ذلك المستويات المتعددة الّتي تعمل فيها الثقافة. ولكن يُظهِر أيضًا اختبار العلاقات الوثيقة والطويلة الأمد مع المُجتمعات العربية بالنسبةِ للمثالين الأخيرين، والطرق التي قد يؤدّي بها إنتاج المعرفة الغربية المُتعاطفة في النهاية إلى الإضرار بالمُجتمعات الأصلية التي كان من المفترض أن تساهم فيها هذه المعرفة.

كان التوريت[3] من المفاهيم المهمة، وهو ينطوي على عملية عُرفت فيما له علاقة بالتصوير الفوتوغرافي في فلسطين، حيث ركّز التصوير على التاريخ التوراتي القديم مع محو الحداثة الفلسطينية. وبينما طُبّق هذا في فلسطين، إلّا أنّ آثاره العابرة للحدود تجاوزت ذلك بكثير.

كان اكتشاف موقع سدوم التوراتي المفترض على يد عالم الآثار الفرنسي لويس فيليسين كينيارت دي سولسي Louis Felicien Caignart de Saulcy في عام 1851 أحد الأمثلة على ذلك. فرغم إثبات الاّدعاء الكاذب بالاكتشاف لاحقًا، إلّا أنّ أثر ذلك كان خطيرًا. كان جون فروست John Frost ميثاقيًّا[4]، ونُقل إلى مستعمرة أرض فان ديمن العقابية لدوره في حركة الطبقة العاملة التحرُّرية في نيوبورت عام 1839، وعاد إلى بريطانيا بحماسة جديدة. وبحلول عام 1856، كان قد حضر خطاباته عبر شمال إنجلترا ما يصل إلى 20 ألف شخص، فأصبح هدفه إلغاء نقل المحكوم عليهم إلى المُستعمرات العقابية، بحجة أنّ سدوم جديدة قد بُنيت في الأراضي البِكر[5].

تؤكد صياغة النقد السياسي مرّةً أخرى، بمصطلحاتٍ توراتية على موضوعات الثقافة، وهو ما يُضفي الشرعية على النقد الطبقي داخل النموذج الثقافي البريطاني المُهيمن. كان التزاوج الناجح بين المعرفة العلمية والأخلاق الغربية المسيحية، تداعياتٍ كبيرة على الطرق الّتي استُصلِحَتْ فيها هذه الهوامش الاستعمارية، لتخدم بمُفرداتٍ ثقافية المراكز الاستعمارية في أوروبا.

هُناك مثال آخر وثيق الصلة بالموضوع، وهو خصوصية مصطلح الأراضي البِكر، حيث يُشير إلى منظور ثقافي مُعيّن، وهو تدمير الخيال الأوّلي حول حديقة عدن. تُظهر مثل هذه المصطلحات انعدامًا أساسيًّا في الفهم الثقافي لجوهر الاستعمار، حتى في سياق الخلاف السياسي. فعند استحضار عدن، ينشأ افتراض ضمنيّ بأنّ الأمم الأصلية كانت تعيشُ مثل أولئك الّذين عاشوا في حالة من الجهل الساذج، في عالم يُشبه عالم ما قبل أكل آدم وحواء من شجرة المعرفة، وإن كان ذلك في مواجهة بريطانيا الصناعية ومعرفتها الاستعمارية، الّتي أنتجت سدوم الجديدة.

كان مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين» بالنسبة للجيل الجديد، هو المرة الأولى الّتي يربط فيها منتدى رسميًّا بين نضالين من أجل سيادة السكان الأصليين المنفصلين، لكن متوازيين في الوقت نفسه. وتربط أُطُر الشبكات الإمبراطورية البريطانية وآثار الاستعمار البريطاني بطريقةٍ واقعية جدًا، وأستراليا المعاصرة بفلسطين التاريخية. لقد خلقت التجربة المشتركة للاستعمار الاستيطاني خسارات مماثلة للأرض والمعرفة والثقافة، ممّا أوجدَ مؤتمر فيه مساحة من التعاطف والتضامن.

يُعد سؤال المنهج مُهمًا للأكاديميين، فهي تتحكم في كيفية إجراء البحث وجمع البيانات وتحليلها، وكيف تُنتَج المعرفة ولمن، وذلك بوضع الأسئلة المُتعلِّقة باللُّغات الّتي تُنتَج بها هذه المعرفة جانبًا. ونظرًا للطبيعة الأكاديمية للمؤتمرات والإشكاليات المرتبطة بالثقافة الأكاديمية الموضحة أعلاه، كانت إحدى نقاط القوة في المؤتمر هي منهجيته متعددة التخصصات، والمنتدى الذي أُنشئ للأكاديميين والفنانين والناشطين. عند النظر في نماذج الثقافة، خلقت هذه المنهجية مساحة لمُشاركة أنماط متعددة من المعرفة.

في عصر يُهيمن فيه النقاش حول الحروب الثقافية ومسألة إنهاء الاستعمار على النقاش العام، فإنّ أهمية معالجة الجوانب المختلفة للثقافة أمر أساسي. وقد أُكِّد النقاش الدولي حول التماثيل والنصب التذكارية الاستعمارية على سبيل المثال، من خلال أسئلة حيوية، بما في ذلك عودة المسروقات الاستعمارية والتواريخ التابعة وإحياء معارف السكان الأصليين وإضفاء الشرعية عليها، ومسائل التعويض الاستعماري. وهذا يتطلب تحوّلًا أساسيًّا وواسع النطاق في المخيال الشعبي لبدء سيرورات إنهاء الاستعمار. لقد أدت السيرورات التكافلية للتوريت، وسيرورات الحداثة والاستعمار الاستيطاني إلى تطبيع إنتاج المعرفة الاستعمارية، ونحن بحاجة إلى مناهج متقاطعة وتوفيقية لمُعالجة سيرورة إنهاء الاستعمار الهائلة.

سمحت بنية مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين» إلى تثليث جديد للفن والنشاط والأكاديميا، التي عكست قطاعًا عريضًا من الصناعات الّتي تتحمل عبء التعامل مع ثقافةٍ ما، بدءًا من إنتاجها وحتى النزاع عليها، وصولًا إلى تبنّيها. هذا المزيج ضروري لمواجهة تاريخ إنتاج المعرفة الاستعمارية، سواء أكان أكاديميًّا، أو جمع معلومات حكوميًا، أو متخيلًا شعبيًّا. أعطى نموذج المؤتمر أدوارًا متساوية لهذه الحقول الثلاثة، والّتي منحت الشرعية فعليًّا لأصواتٍ وأنماطِ معرفة مختلفة.

إنّ هذا الموقف غير الهرمي تجاه الإنتاج الثقافي أتاح للناشطين والفنانين والأكاديميين فرصة الاجتماع في المساحة نفسها، ولكن أيضًا للعمل في مجالات إنتاجهم الثقافي الخاصّة. بالنسبة للمهمشين ثقافيًّا، كان لهذه البيئة أيضًا تأثير جانبي في استخدام إحدى أشكال المعرفة، لإضفاء الشرعية على الآخر، مثلما جرى عندما دمج فروست بين المعرفة الأكاديمية والدين.


[1] أود أن أشكُر بشكلٍ خاص كريسولا ليونيس على مساهماتها القيّمة وتعليقاتها على هذه الورقة، وكذلك أشكر سوزانا هينتي وغاري فولي لدعوتي إلى المشاركة في مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين».

[2] مستوطنة نائية (غالبًا ما تكون جزيرة أو مستعمرة بعيدة)، تستخدم في نفي السجناء وعزلهم عن بقية المواطنين في مجتمع من المساجين، يشرف عليه آمر أو حاكم ذو سلطة مطلقة. كانت المستعمرات العقابية فيما مضى تُستخدم لاستغلال السجناء في الأشغال الشاقة العقابية في جزء من البلاد (هو في الأغلب مستعمرة) لم يتطور اقتصاديًّا بعد، وعلى نطاق أوسع من مجرد مزرعة سجن. وقد استخدمت بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الإمبراطوريات الاستعمارية مناطق من أمريكا الشمالية وأستراليا وكاليدونيا الجديدة وغيرها كمستعمرات عقابية، حيث لم تكن أوضاع السجناء فيها أفضل كثيرًا من الأوضاع في مجتمعات العبيد.

[3] استخدمتُ كلمة التوريت مقابلًا للكلمة الإنجليزية Biblification، أي بمعنى جعل الشيء توراتيًّا أو التركيز على الجانب التوراتي في صورة ما، وتناسي ومحو أيّ أثر باقي لا يرتبط بالسياق التوراتي.

[4] الميثاقية هي حركة عمالية إنجليزية نشطت في القرن التاسع عشر ميلادي على أساس المبادئ الّتي اشتمل عليها «ميثاق الشعب People’s Charter»، الّذي وضعه الزعيم الراديكالي اللّندني وليم لوفيت William Lovett عام 1838م. ومن أبرز هذه المبادئ الاقتراع السري، وإلغاء شروط الملكية المفروضة على المرشحين لعضوية البرلمان، وجعل ولاية البرلمان عامًا واحدًا.

[5] مصطلح يُستخدم للإشارة إلى الأراضي غير المُستغلة بعد، ولم يسكنها بشر.


[1] أود أن أشكُر بشكلٍ خاص كريسولا ليونيس على مساهماتها القيّمة وتعليقاتها على هذه الورقة، وكذلك أشكر سوزانا هينتي وغاري فولي لدعوتي إلى المشاركة في مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين».

[1] أود أن أشكُر بشكلٍ خاص كريسولا ليونيس على مساهماتها القيّمة وتعليقاتها على هذه الورقة، وكذلك أشكر سوزانا هينتي وغاري فولي لدعوتي إلى المشاركة في مؤتمر «التضامن بين الفلسطينيين والسكان الأصليين».

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx