فاتسلاف هافيل
رئيس جمهورية التشيك الأسبق
مقدمة المترجم: مثقف، مُثقف سُلطة، ومُثقف الصومعة
لا تقلُّ مدى إشكالية العلاقة بين المُثقّف والسياسة عن تلك المُصاحبة لتعريفات المُثقّف، فغالبًا ما يتمحور وصف هذه العلاقة إلى دور المُثقّف في التغيير أو عدم التغيير الاجتماعي والسياسي؛ بأن يكون المُثقّف داعمًا للنظام السياسي ومُثبِّطًا لمُحاولات التغيير الاجتماعي وشريكًا في استمرارية الوضع الراهن، وبذلك يتبنّاهُ النظام ويستثمر فيه مُراهنًا على تأثيره في استقطاب دعم الجماهير، وبالتالي يكون مُثقفَ سُلطة. وإمّا يذهب الحديث عن شكلٍ آخر للمُثقفين، الذين يقفون مع المُعارضة أو الثورة ويلتزمون بدورهم في التغيير الاجتماعي، ويتبنّون مطالب الناس وحُرّيتهم، وهؤلاء هم أكثر ما يخشاه النظام السياسي. أمّا عن الرأي الأكثر شيوعًا فهو أنّ المُثقّف يُنظّر عن القضايا بينما يجلسُ مُنفصلًا عن الواقع في برجه العاجي، وبعيدًا كُلّ البُعد عن خشونة هموم العامّة وصعوبة حلّها، فينحصر دوره في التأمُّل المُجرّد، وهؤلاء هم من يترك لهم النظام السياسي هامشًا من حُرّية الفكر والتعبير، طالما أنّ ثقافتهم لا تشتبكُ مع السياسة ولا تُهدِّدها، وهذا هو مُثقف الصومعة. وفي الحقيقة، ينتمي مُعظم «المُثقّفين» إلى هذه الفئة الأخيرة، الّتي تنأى عن خط التماس مع أيّ سُلطة سياسية، مخافة قمع حُرّيتهم و/ أو انتزاع شرعية طرحهم للثقافة الّتي يُمثّلونها.
وعليه، لا تزالُ إشكالية المثقف والسياسي قائمةً ومؤثرة. لكن، من بين أنماط المثقفين هذه، يبقى السؤال عن إمكانية انخراط المُثقّف ذاته في العمل السياسي، أي عن مُساهمة المُثقّف في السُلطة بوصفه رجل سياسة. وعلى الرغم من أنّ اجتماع المُثقّف والسياسي في شخصيةٍ واحدةٍ هو أمرٌ نادر الحدوث، إلّا أنّ تحقُّقه غير مُستحيل.
يُجسّد فاتسلاف هافيل (1936-2011) هذه الحالة من الدمج بين الثقافة والسياسة، وهو كاتب ومعارض تشيكي ساعد انشقاقه عن الحُكم الشيوعي في تدمير هذا الحُكم خِلال الثورات الّتي أسقطت في نهاية المطاف جدار برلين، ومهّدت الطريق أمام هافيل لدخول السلطة، بعد أن كان مُعارضًا يُدافع باستماتة عن مُثُلِ المُجتمع المدني، كما ساعد في تأسيس ميثاق 77، وهو أطول حركة لحُقوق الإنسان في الكُتلة السوفيتيّة السابقة. لقد صاغ فاتسلاف علاقةً جديدة بين الإبداع الفكري والمسؤولية السياسية، والّتي يجب أن تُلهم ليس فقط السياسيين والمُثقّفين الآخرين، لكن المُهتمّين أيضًا بأن يصُبّ الإنجاز الفكري في الصالح العام. وضع هافيل الأسئلة الأخلاقية الأساسية لعصرنا على قمّة أجندة العمل السياسي، وهي صفات المُثقّف السياسي الّذي يشعرُ بمسؤوليّة عالمية جمّة، ويعكسُ التزامًا بقِيَمِ المُجتمع المدني وحقوق الإنسان.
المُثقّف والسياسة
إذا كان ما يسعى المُثقف إليه هو تجاوز سطحية الأشياء، فهم العلاقات والأسباب والتأثيرات، مُلاحظة الأجزاء في كيانها الأكبر، واكتساب وعي أعمق ومسؤولية تجاه العالم، فهل يُمكن القول بأنّ المُثقّف ينتمي إلى السياسة؟ قد يظن البعض أنّني أعتبر الانخراط في السياسة واجبًا على كُلّ مُثقّف. لكن هذا ليس صحيحًا، فالسياسة تتطلّب أيضًا بعض من المؤهّلات الخاصّة. وبينما يستوفي بعض الأشخاص هذه المؤهّلات، فإنّ آخرين لا يستوفونها، بصرفِ النظر عمّا إذا كانوا مُثقّفين أم لا.
أمّا قناعتي التامّة، فتتمثّل في أنّ العالم يحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى مُثقّفين وسياسيين مُستنيرين يتمتّعون بجرأةٍ وسِعة اُفُقٍ كافيين للتمعُّن في المسائل الّتي تقع خارج تأثيرهم المكانيّ والزمانيّ. نحنُ بحاجةٍ إلى سياسيين مُستعدّين وقادرين على تجاوز مصالحهم الخاصّة، أو مصالح أحزابهم وبلدانهم، والتصرُّف وفقَ المصالح الإنسانية الراهنة والمُلحّة؛ أي أن يتصرّفوا بالطريقة الّتي يجب على الجميع أن يتصرّف بها، رغم أنّ مُعظمهم قد يفشل في ذلك.
لم يسبق أن خضعت السياسة إلى اللّحظة من قبل، أو إلى المزاج المُتغيّر لعامّة الناس أو الإعلام، كما لم يسبق أن اضطّر السياسيون إلى السعي وراء لحظةٍ عابرة أو قصيرة. لكن، يتبدّى لي أنّ حياة العديد من السياسيين باتت تبدأ مع نشرات الأخبار المسائية في ليلةٍ من الّليالي، وتمتدُّ إلى استطلاع رأي في صباح اليوم التالي، لتصلَ إلى صورهم على شاشات التلفاز في المساء الّذي يليه. ولستُ مُتأكِّدًا ما إذا كان عصر الإعلام الحالي يُشجّع على ظهور وازدياد عدد السياسيين ممّن يتمتّعون بمكانةٍ كالّتي تمتّع بها ونستون تشرشل (1874-1965) مثلًا، على الرغم من احتمالية وجود استثناءات دائمًا.
باختصار؛ كُلّما قلّ تفضيل السياسيين الّذين يتمعّنون طويلًا، ازدادت الحاجة إلى هؤلاء السياسيين. وبالتالي ينبغي إخراط المزيد من المُثقّفين في السياسة، أي أولئك الّذين ينطبق عليهم تعريفي للمُثقّف على الأقل. ومن بين الجميع، يُمكن أن يأتي مثل هذا الدعم من أولئك الّذين لا يدخلون السياسة بأنفسهم لأيّ سببٍ كان، إنّما يعقدون اتفاقاتٍ مع بعض السياسيين أو على الأقل يُشاركونهم الشرعية الأخلاقية لمُمارساتهم.
أسمعُ اعتراضاتٍ من قبيل؛ يجبُ انتخاب السياسيين، فالناس يصوّتون لأولئك الّذين يُشبهونهم من حيث طريقة التفكير. حقيقيةً، إذا أراد شخصٌ ما أن يُحرِزَ انتصاراتٍ في السياسة، عليه الاهتمام بالمزاج العام؛ أي أن يحترم وجهة نظر الناخب «العادي». وشاء أم أبى، يجبُ أن يكون السياسي مرآةً، بحيث لا يتجرأ على المُناداةِ بأُمورٍ لا تحظى بتأييدٍ شعبي، أو تلك التي لا يعتبرُ مُعظم الناخبين أنّها تُحقّق مصالحهم المُباشرة أو يعتبرونها تتضارب مع مصالحهم، رغم أنّها قد تكون في مصلحة البشرية.
بحسب قناعتي، لا يتمثّل هدف السياسة في تحقيقِ الرغبات القصيرة المدى، فالسياسي يجب أن يسعى أيضًا إلى إقناع الناس بأفكاره الخاصّة، حتّى عندما لا يحظى بأيّ شعبية. يجبُ أن تنطوي السياسة على إقناعِ الناخبين بأنّ السياسي يُلاحظ بعض الأشياء أو يفهمها أفضل ممّا يفعلون، ولهذا السبب يجب أن يصوّتوا له. وبالتالي يُمكن للناس أن يوكلوا إلى رجل السياسة بعض القضايا التي – لأسبابٍ مُتنوّعة – لا يشعرون بمسؤوليةٍ تجاهها أو لا يُريدون القلقَ بشأنها، إنّما يتعيّنُ على شخصٍ ما مُعالجتها بالإنابةِ عنهم.
ومن نافل القول إنّ كل من حاولَ إغواء الجماهير، والطغاة والمستبدين المُحتملين، قد استخدموا هذه الحجّة للدفاع عن رأيهم. لقد فعل الشيوعيون الشيء نفسه عندما ادّعوا أنّهم أكثر استنارةً من الآخرين، وبسبب هذا الزعم بالتنوير، ادّعوا حقّهم في الحُكم تعسُّفًا.
إنّ فنّ السياسة الحقيقي هو فن كسب دعم الناس في سبيل قضيةٍ عادلة، حتّى عندما يتعارض السعي وراء هذه القضية مع مصالحهم اللّحظية الخاصّة. يجبُ أن يحدث هذا دون إعاقة أيٍّ من الطُرُق المُختلفة الّتي تُمكنُنا من التحقُّق من عدالة القضية، وبالتالي ضمان عدم دفع المواطنين الواثقين إلى دعم كذبة والمُعاناة من أزمة، نتيجةً لبحثٍ وهميٍّ عن مُستقبلٍ مُزدهر.
لا بُدَّ من القول إنّ ثمّة مُثقّفين يملكون قُدرةً خاصّة جدًا على ارتكاب هذا الشر. إنّهم يترفّعون بثقافتهم فوق أيّ ثقافة أُخرى، ويترفّعون بأنفُسهم فوق كُلّ البشر. إنّهم يُخبرون مواطنيهم أنّهم إذا لم يفهموا عبقريّة المشروع الفكري المُقدّم لهم، فذلك لأنّهم سُذّج ولم يصعدوا بعد إلى المُرتفعات الّتي يسكنها مؤيّدو هذا المشروع. الأمر ليس عصيًّا لإدراك مدى خطورة هذا الموقف الفكري، أو بالأحرى شبه الفكري، بعد كل ما مررنا به في القرن العشرين. لكن، لنضع نُصب أعيننا كمَّ المُثقفين الّذين ساهموا في خلق ديكتاتوريات حديثة!
على السياسي الجيّد أن يكون قادرًا على الشرحِ دون مُحاولة الإغواء؛ أن يبحث بتواضُعٍ عن حقيقة هذا العالم دون أن يدّعي امتلاكها؛ وعليه توعية الناس بصفاتهم الجيّدة، بما في ذلك الإحساس بالقِيَم والمصالح الّتي تتخطّى ما هو شخصي، دون أن يتملّكه الاستعلاء، ودون أن يفرض شيئًا على الناس العاديين. لا ينبغي له أن يخضع لإملاءاتِ مزاج العامّة من الناس أو وسائلِ الإعلام، وفي الوقت ذاته، لا يتوانى عن مُحاسبة أفعاله باستمرار.
في عالمٍ توجد فيه مثل هذه السياسة، ينبغي على المُثقّفين إثبات حُضورهم بإحدى الطريقتين المُمكنتين. يُمكنهم القبول بمنصبٍ سياسي – دون أن يجدوا ذلك مُخزيًا أو مُهينًا – وأن يستخدموا هذا المنصب للقيامِ بما يجدونه صحيحًا، وليس لمُجرّد التمسُّك بالسُلطة. يُمكنهم كذلك لعب دور المرآة لمن يشغلَون السُلطة، للتأكّد من خدمتهم للصالح العام، وأنهم غير ذاهبين تجاه استخدام كلمات مُنمّقة كستارٍ لغاياتٍ شريرة، كما حدث للعديدِ من المُثقّفين في المجال السياسي خلال القرون الماضية.
- نُشرَ هذا المقال في الأصل في: Al Jazeera, 19/ 12 / 2011, at: https://Bit.ly/3ih6UNF