اليوم هو الخامس والثلاثون من أيام الحجر الصحي، والثاني على فرض حظر التجوال في بعض المناطق من مدن الضفة الغربية. نواجه تصاعداً في الإجراءات بسبب الزيادة الملحوظة في عدد الإصابات بفيروس كورونا، للحيلولة دون انتشار المرض على نطاق أوسع. هذا ما تقوله وزارة الصحة والجهات الرسمية على الأقل. لكن الأمور تحت السيطرة، فيما لجنة الطوارئ المعنية بمكافحة الوباء تقول: في حال الضرورة ستتخذ مزيداً من الإجراءات حسب تتبعها لمسار الخارطة الوبائية في البلاد.
رغم الحظر، خرجت عند المساء لأتمشى قليلاً في محيط الحي الذي أسكنه، هدوء تام يخيم على المكان، الناس ملتزمون في بيوتهم، شوارع خالية من المارة، وحدي أنا الآن في شارع أبو العلاء المعري، حرصت هذه المرة ألا أبتعد كثيراً عن البيت، تجنباً للمشاكل. يبدو أنني لم أتابع الأخبار جيداً، أو أن لدي نقص معلومات، ولم أكن أرغب، على أية حال، في سماع المزيد من التفسيرات من رجال الشرطة في حال أوقفوني بالصدفة، ولن يفيدني حينها أن أشرح لهم موقفي من الإجراءات، أو بماذا أفكر عن الحياة، وعن الفيروس في هذه اللحظة.
أنا المواطن المجرد من تفكيري الآن، وهم السلطات التي تعطينا التعليمات، في الوضع الطبيعي لم أكن لأهتم لتدابيرهم. كنت سأكون مشغولاً الآن بأمر ما، أقلها عدم الاستماع إلى توجيهات الحكومة. وبالكاد أستطيع توفير بعض الوقت للمشي مع أحد الأصدقاء، أو أن أذهب بمفردي للنادي، أو كنت ربما لأذهب إلى مرسمي في شارع «بطن الهوا» لأقوم بإنجاز بعض الأعمال، لا بد أن عليّ الكثير من الأشياء غير المكتملة. كنت لأكون في لقاء مع أحد الأصدقاء أو في اجتماع ما، أو أن أذهب إلى زيارة الحجة ربما. أي شيء غير هذا الشعور بأنني متسلل بلا هدف محدد.
لم أكن أنا الذي يسير في الشارع الآن، كان الولد الذي كنته أيام حظر التجوال الذي كانت تفرضه سلطات الاحتلال على الفلسطينيين كعقاب لهم، ومن أجل السيطرة على حياتهم. كنت الولد الذي يراقب حركة الدوريات من فوق الدور قبل أن ينزل إلى الشارع كنوع من الرفض ومحاولة لممارسة الحرية المسروقة واحتجاج على ما يخطط لنا كبشر. هذه المرة الأمور تختلف بالتأكيد.
قلت في نفسي: بلا ولدنة، لماذا لا أعود أدراجي إلى البيت؟ وأتمشى في الحديقة دون أن أرتدي الكمامة على الأقل، ويمكن أن أقتل الوقت الفائض عن حاجتي بتقليم بعض النباتات. ألم أكن أنا من يحتاج إلى الوقت لفعل ذلك؟
جعلتي كلمة حظر تجوال أعود إلى الماضي، وصرت أتخيل دورية مباغتة للاحتلال عند زاوية الشارع، صارت أنفاسي أسرع عند هذه الخيالات الغريبة من وراء الكمامة الزرقاء السماوية. لم تكن المدينة خالية بهذا الشكل منذ وقت طويل، لا أحد يؤنسني في هذه اللحظات، وغالباً الناس على حق.
وأنا أحث الخطى باتجاه البيت، وإذ بدورية شرطة تنعطف يميناً من جهة المسجد باتجاه الشارع الذي أسير فيه، يا لسوء حظي ويا لهذا الإحراج. سأقول لهم فقط إنني أستنشق بعض الهواء، وإنني ملتزم بالتعليمات، لم توقفني الدورية ولم تأبه بي أصلاً، وكأنني غير موجود في الشارع وأخترق الآن حظر التجوال بلا مبرر كافٍ، لم تمنعني حواجز المحبة كما سمّاها المتحدث الرسمي من المسير وكأنها محبة أو حواجز غير موجودة إلا في رأسي الذي يبدأ باستعادة الذكريات عند الأزمات.
إنه اللهو الخفي.
أستعير ويدي على قلبي هذا المصطلح من الثقافة الشعبية المصرية في الغالب، مصطلح غامض بعض الشيء أو هو يحيل إلى المجهول أو الطرف الثالث عندما يلبس العدو طاقية الإخفاء. لكن، والحال هكذا، الآن يبدو أن المصطلح مناسب أكثر لوصف الحالة مع فيروس كورونا. عندما استخدمه أحمد زكي وسعيد صالح في مسرحية «العيال كبرت» لحبك قصة اختطاف شقيقهما يونس شلبي، كانت العصابة المزعومة مجرد مزحة، أما الآن فيبدو أن الأمور جدية. المطارات أغلقت، وشوارع العالم خالية، والمستشفيات تعج بالمرضى. هذا الفيروس مش مزحة، تعطلت الحياة بالكامل في أصقاع الأرض كلها. ولكن حتى تمر هذه الصورة القاتمة التي يعيشها العالم هذه الأيام، لا بد من التسلح بأشياء أخرى غير العزلة والشك والخوف من كل شيء حولنا.
غير معقول أن تكون العزلة هي السلاح الوحيد المقترح في مواجهة الفيروس. وسط إغلاق كل شيء حولنا حتى مناطق السلوى والطمأنينة للإنسان، كالمساجد، والكنائس، والمتاحف، والمقاهي، والبارات، أغلقت.
أين الدراويش، والمؤمنون، ومحبو الفن، والاجتماعيون وصيادو الفرص؟ أين أنتم يا عباد الله الطيبين؟ أقول لنفسي سأكتب ذلك عندما أعود إلى البيت.
قضيت معظم الوقت أثناء الحجر المنزلي مع ابني عمرو الذي توقفت دراسته في كلية دار الكلمة مع انتشار الوباء أولاً في مدينة بيت لحم، وعاد أدراجه إلى بيت العائلة كما يفعل جميع الناس في الأزمات، وكان ذلك، بالنسبة لي، أمراً حسناً، عاد ومعه آلته الموسيقية الجديدة الساكسفون، ومعه فائض الوقت ليتدرب عليها، وليقوم أيضاً بالمشاركة في إعداد موسيقى لراديو على الإنترنت، كنت أطرب معه وأنا استمع لخياراته الموسيقية من الصالة المجاورة، كان هو الفنان بامتياز غير العزف، يقترح علي مشاهدة هذا الفيلم أو ذاك، فيلم يقدمه لي كضرورة لا بد من مشاهدته، وأنا الطباخ أو البستنجي في هذا البيت، كنت كلما أبحث عن الفنان الذي فيّ يخرج عامل الصيانة.
اليوم السابع والأربعون من أيام الحجر الصحي، وعلى الرغم من معرفة ذلك، فإنني لا أعرف ما هو اليوم بالضبط، وفي الحقيقة لا أسعى إلى ذلك، جمعة مباركة أو أحد حزين، أو يوم سبت، أكتب ذلك الآن دون أن أعي اليوم أو التاريخ بالضبط. من الناحية التقنية سيكون ذلك ممكناً بالطبع وبكل سهولة أن تنظر إلى الهاتف، أو إلى التلفزيون، أو إلى جهاز الكمبيوتر لتعرف اليوم. لكنه شيء آخر الآن يتعلق باختلال الساعة البيولوجية، وحضور اللاجدوى واللاطمأنينة.
على غير عادة الأوبئة السابقة أو الفيروسات التي أصابت البشرية، أحدث هذا الفيروس تغيرات كبيرة، ولا يزال، على سلوك الناس وأنا منهم، تغيرت عاداتي وعلاقتي مع الأشياء والأفكار والناس، إحساسي بالمكان الذي هو البيت في هذه الحالة، وإحساسي بالزمان تغير أيضاً. علاقتي مع المغسلة والجِل المعقم والكمامة، بعد الصدمة جاء الإحساس بالضجر أو عدمه، جاء الإحساس بالخدر، لم يعد الفن وممارسة الرسم أو الكتابة لتساعدني كما في السابق. أحسست أن الوقت يسير الآن بشكل دوار، وليس في خط مستقيم إلى الأمام، لا مشاريع ملزمة، لا مهام أو واجبات ضرورية أو شغل بمواعيد نهائية، كل شيء توقف مع تطور الفيروس، وتطورت معه الأعذار بدون وخزة ضمير. حررتنا الكورونا من الالتزامات، وتوقف الركض والهرولة، أصبحت الحياة «سلو موشين» عيشاً بطيئاً على أقل من المهل، أو كما يقول المثل الشعبي (أكل ومرعى وقلة صنعة) العمل الذي يمكن أن تنجزه بساعات أصبحت تمطه على الأيام، زراعة شتلات وزعتها البلدية تستغرق ثلاثة أيام، وتقليم الدالية في اليوم الذي يلي ذلك، الصعود إلى السطح لإصلاح الخزان يوم الخميس، طوي الغسيل يوم الأحد، وهكذا أصبح جدول المواعيد رخواً وبيتوتياً إلى أبعد حد. أصبح المنزل هو الجغرافيا التي يمضي بها التاريخ، هو المسرح الذي تسير عليه الأحداث. الزيارات أصبحت معدومة في البداية، ثم محدودة جداً فقط لبعض المقربين، نجلس متباعدين في الحديقة. نتبادل الحديث والنقاشات بالقضايا العالقة ونتبادل الابتسامات ونحن لا نصدق الأخبار، أو نسخر من تصديقنا المبهم. هذا الوقت الذي سرعان ما تحس به بالرغبة في العودة إلى الكهف، إلى وحدتك. يبدو أن النقاش خلط عليك الأمور، أو أن ابتعاد الناس عن بعضهم البعض أصبح مألوفاً نوعاً ما، وضرورياً ليس للوقاية من الفيروسات فحسب، وإنما لراحة النفس من الآخر ربما، وليس كما يقول إحسان عبد القدوس «إن الراحة الحقيقة، هي أن ترتاح من نفسك). تقول وتسمع الأفكار والآراء نفسها التي بثت على الفيسبوك، أنت وهم تعرفون آراءكم جيداً، وحجم سوء الفهم أو التوافق على حاله، لا جديد إذن ونحن نرسل أفكارنا بالبث المباشر عبر وسائل التواصل إلى بعضنا البعض، فما الفائدة من الكلام المباشر من خلف الكمامة، ولكن بالعين المجردة؟
نواجه هذا الوباء كبشر دون أي خبرات سابقة تذكر للأسف، ولا أدلة أو معلومات كافية عن الذي يحدث، ولا معرفة بالغد والمصير، عماء قد يلجأ كل واحد منا فيه إلى متابعة التقارير والأخبار والتحليلات حتى تلك المتناقضة منها، لكنه يعود في النهاية إلى رأسه هو وعزلته هو، يعود إلى حواره الذاتي إلى مصيره المبهم. التفكير الجماعي لم يعد يسعف أو يجيب عن الأسئلة المعلقة.
في مواجهة الذات، يبدأ الإنسان بالتذكر ويبدأ الماضي بالحضور. ماذا على الإنسان أن يفعل في هذه اللحظات؟ هل يفكر في الآن أم في الماضي؟ وماذا عن المستقبل؟
حياة جديدة يقترحها الفيروس، فمن الصعب أن تبقى طبيعياً إن لم يكن لديك ما تفعله.
عندما يكون الإنسان في السجن مثلاً، فإنه ينتظر لحظة الإفراج عنه بفارغ الصبر، يتطلع إلى معانقة الحرية، ويصبح كياناً يسير بهذا الاتجاه، أو تكون بلاد ما في حالة حرب أو تحت احتلال، فإنها تتطلع إلى النصر أو إلى حل ما. باختصار شديد، عندما تتأزم منطقة ما، أو مكان ما، فإن الأمل يصبح معقوداً على أماكن أخرى كمناطق ليست في الورطة نفسها لتكون عاملاً مساعداً أو مكاناً للهرب في أسوأ الأحوال، أما أن تكون الأزمة والحرب في كل مكان، فعندها تضيق الجغرافيا مثلما يضيق الزمان.
كانت مشاهد حيوان الكانغرو من بين أشياء التي قامت ببثها وكالات التلفزة العالمية وهي تركض جماعات هاربة في صحراء أستراليا بسبب الحرائق كفيلة بإشعال أضواء الخطر الذي يداهم الحياة على الأرض، لقد أرسل الكون العديد من الإشارات قبل ذلك بأن الخطر على الأبواب بسبب سلوك البشر غير المتوازن تجاه الطبيعة والحياة بشكل عام، لم ننتبه لكل تلك الإشارات والحرائق للأسف.
من المؤسف أنه بعد غزو الفضاء، والتقدم العلمي الهائل، وفك شيفرة الآدمي، وتعديل الجينات وخلافه من العلوم المبهرة، يأتي العلم في مواجهة هذا الفيروس ليقول فقط «غسل يديك، وخليك بالبيت»، إلى أن يقضي الله أمراً كان مقضياً، شيء مقلق فعلاً أن يقترح العالم إلى الآن العديد من وسائل الوقاية، ولا علاج واحد فقط.
في أحيان أخرى كنا نرى العالم بطريقة مختلفة، ونحن ننظر إلى الحياة من زوايا متعددة، وهذا من طبيعة الأشياء. الآن أصبحنا وكأننا ننظر من الزاوية نفسها، نرتدي العدسات نفسها، ولكننا لم نعد نرى الشيء نفسه.
سواء تطور فيروس كورنا في الطبيعة، باختلاط فيروسين أو أكثر، وتطوره في جسم كائن حي واحد أو أكثر في تلك البلد أو ذاك، أو ورد ذكره في الكتب وأفلام نهاية العالم والخيال العلمي، الفيروس ابن نواميس هذا الكون، والداء موجود كجوهر مثلما الدواء موجود كجوهر أيضاً، في مكان ما هناك، حتى لو لم يتعرف عليه العلماء والأخصائيون بعد.
ما أن بدأت تنقشع تدريجياً غيمة الكورونا السوداء في بعض المناطق، وتخف الإجراءات الصارمة، حتى بدأت نذر عودة نشاط الفيروس من جديد. وقد أصبحت الإصابات والوفيات للأسف الشديد في يوم واحد أكثر بكثير من الإصابات على مدار الأشهر الثلاثة الأولى. لكنها الآن أعداد بدون ضجة، وبدون حجم الفزع الذي كان مسيطراً وبلا حظر للتجول. في شهر آب، كنت أستمع إلى الأخبار وأنا في سيارتي، قالت المذيعة: في فلسطين 7 حالات وفاة، وأكثر من 678 إصابة حصيلة يوم واحد. في المحافظات الجنوبية والشمالية كان هذا الرقم سيكون مفزعاً في الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الفيروس. الآن وكأن شيئاً لم يكن. وكأن السباق قد أصبح فقط على اللقاح، وليس على الفيروس المستجد.