الهدف من القراءة، أن تؤمن بأن ما تقرأه سيقودك إلى الفعل الجذري نحو واقع أفضل، فالقراءة يجب أن تكون النواة الأولى في مسيرة التغيير في المجتمعات، لا أن تقتصر على المعرفة، فإما أن تكون الحافز للفعل الحقيقي الإيجابي، وإما فلا فائدة منها ولا تصلح لأن تكون سوى من المظاهر الزائفة.
مدفوعين بعملية القراءة كفعل، رسمت مجموعة شبابية من مخيم المغازي هدفها في تجديد الثقافة العامة كمدخل مساهم في بناء وإثراء التجربة الفلسطينية والوعي نحو تكريس النضال الفلسطيني من جديد. وخلقت من العدمية مكتبة عريقة اسمها «مكتبة الشهيد باسل الأعرج» كنواة وحجر أساس في استنهاض الوعي الجمعي في المخيم، ومن ثمَ اقتحام الحدود الجغرافية بالثقافة.
وجل الشباب القائمين على أعمال المكتبة لم تتعدَّ أعمارهم الـ 30 عاماً، ويقطنون في أصغر مخيم في فلسطين، وقاموا بإعادة إعمار وإحياء مكتبة تابعة لنادي خدمات المغازي، لم تعمل منذ أكثر من عقد، وتم إقفالها في حقبة الانقسام الفلسطيني، وفي ظل تأزم وضع الشباب ما بين سياسات الاحتلال وسياسات الخلافات بين فتح وحماس وانعكاساتهم عليها.
نجحت المكتبة إلى الآن في العمل على تنفيذ أكثر من عشرة أنشطة خلال عامها الأول بميزانية لا تتعدى «الصفر»، واستهدفت معظم الشباب المراهقين والأطفال من سكان المغازي.
تحتوي المكتبة على أكثر من 2000 كتاب معظمها يعالج القضية الفلسطينية ومراحل كفاح الشعب الفلسطيني ونضاله. فقد التزم الطاقم العامل بالمكتبة بتقنية ابتدعوها تسمى «التكلفة الصفرية»، واستثمار المعطيات كافة المتواجدة في المخيم.
ولشدة دهشتنا كمجموعة، أن هذه التقنية نجحت على الصعيد الفعلي والمستمر، وعملوا على بلورة أهداف المكتبة في ترسيم خطة مبنية على أهمية المكتبة في المخيم، ودورها في إحداث الانتقال الثقافي التدريجي نحو وعي حقيقي، بعيداً عن الزائف، وفتح الباب لإمكانية نشوء مساهمات جديدة تُكرّس العمل القيمي في النضال والكفاح الفلسطيني، مستلهمين في ذلك مسيرة الشهيد باسل الأعرج.
لم يكن أبداً إطلاق اسم الشهيد باسل الأعرج على المكتبة ومنهجها على سبيل تقديس شخصيةً باسل، إنما كان استلهاماً جذرياً في عقول وقلوب الطاقم العامل بالنهج الذي كان يعمل به الشهيد باسل، والذي عزز لنا التصور القيمي نحو التحرر. فالثقافة ليست حلاً جذرياً فحسب، بل إنها المناخ والوسط الذي يرسخ العقلانية أيضاً، ويسمح بمناقشة القضايا كافة تمهيداً للكفاح وللبناء معاً، وهي الصيغة التي تخلق توازناً تفرضه الحاجة والضرورة دون إلغاء جزء واحد من فلسطين. ففكرة المثقف المشتبك هي ما يجب أن يفهمه الجميع بوضوح، وإن لم يفهمه أحد فسوف يكون الثمن غالياً، ومن الممكن أن يتمثل في موتنا كفلسطينيين وموت ثقافتنا كلها، وهذه هي الفاجعة التي نسعى إلى الحد منها، وعدم إتيانها كهمس في أفكارنا فحسب، وهذا ما يبرهن منطقياً أن المكتبة ما هي ألا الالتقاء الفكري العقلاني في قراءتنا لعقل الشهيد باسل الأعرج ومنظومته.
ففي جلسة عصف ذهني لدى الطاقم العامل بالمكتبة في المخيم، تحديداً في بداية عملنا ومشاهدتنا لما يجري من أحداث في سياقنا الفلسطيني المعاصر، برزت فكرة تشاركية صنعت لنا مناخاً رسخ العمل التواصلي في سبل الاستمرار بالعمل في المكتبة، وتمثلت في نظرية ومبدأ قائم على اعتبار المخيم محطة انتظار للاجئين الفلسطينيين حتى عودتهم إلى الديار التي هجروا منها، والوطن ككل، فبالتالي فكرة المخيم قائمة على أسس سياسية وليست إنسانية، مؤقتة، وليست دائمة، إضافة إلى أهمية الثقافة في ظل الوجود السياسي، وهو واجب وطني ونداء للنضال من أجل هذه الثقافة. هناك بعض من الأنشطة قمنا بها كطاقم المكتبة، ومنها زيارات صنعت لنا واقعاً عبر جمع المعلومات من قبل أجدادنا في المخيم، وتحديداً من كبار السن الذين عايشوا مرحلة النكبة وما قبلها، والاستفاضة والتحليل وزيادة هذه المعلومات من قبل المراجع المتواجدة في كتب المكتبة.
هنا، تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن بمقدورنا المبادرة إلـى هذ الفعل المعرفي، لولا دور نادي خدمات المغازي في تبنى فكرة المكتبة. كانت مؤسسة نادي خدمات المغازي منذ تأسيسها العام 1952، وما زالت، المؤسسة الوحيدة الجامعة لكل اللاجئين في المخيم، كما أنها النواة والحاضنة الحقيقية للفعل النضالي عبر الأجيال، في خضم النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني، على الرغم من كل المحاولات التي تعرض ويتعرض لها نادي الخدمات لإنهاء دوره الريادي. وهكذا رحب القائمون على إدارة النادي بالفكرة الشبابية ودعموها بما يستطيعون من توفير المكان والبيئة، وبالدعم المادي إن وجد على الرغم من الحالة السيئة ماديا داخل النادي في الوقت الحالي.
إلا أنه في رحلة سريعة في التاريخ، تحديداً قبل 12 عاماً، لو دخلت نادي خدمات المغازي من البوابة الرئيسية سيقابلك مبنى بديع الشكل باللون الأبيض اسمه «مبنى الطفل»، يقودك الصوت المنبعث منه إلى خلايا عمل وأنشطة ثقافية وتربوية وتراثية ورياضية ومسرحية، في طبقات المبنى الثلاث، للأعمار من 9 – 20 عاماً على مدار عشر ساعات متواصلة. كانت تلك دائرة نشاط الفتيان التي خرجت المناضلين الشباب الذين أصبحوا قادة في مجتمعهم، كلٌّ في مجاله. الآن عدنا كفريق مكتبة الشهيد باسل الأعرج لنحاول إعادة إحياء الدائرة مرة أخرى، لإيماننا بأن مهمتنا ليست فقط أدبية تنحصر في المكتبة، بل كمثقفين عضويين في مجتمعهم. عملُنا بالأساس انطلق كفعل نقدي يدعو إلى مراجعة حقبة سيئة، تخللها الخمول واليأس، وبالتالي أدت إلى كثير من الأزمات الاجتماعية وغياب منظم وعشوائي للقيم الوطنية داخل المخيم. فخلال عقد ونيف منذ العام 2006 وحتى 2017، تم إيقاف الأنشطة الثقافية كافة التابعة لنادي خدمات المغازي، ما أدى إلى إحداث فجوة عظيمة وكبيرة في صفوف أبناء المخيم، نتج عنها تراجع في الوعي الوطني والثقافي والقيمي الذي كانت تساهم دائرة نشاط الفتيان في بنائه.
خلال العام الأول من عملنا كفريق، استطعنا، وبتكاليف مادية تكاد تكون معدمة، لكن بدعم من الأهالي والشخصيات المؤمنة بعمل الشباب، إنجاز ثلاثة مخيمات صيفية لـ200 ناشئ وناشئة من الأعمار 9-16، كما تم تنظيم سلسلة أمسيات ثقافية على مدار شهر رمضان للعام 2017، وعقد أكثر من 10 ورش عمل بالتعاون مع مؤسسات عدة، تمحورت حول تثقيف صحي، ومشاركة المرأة السياسية في الانتخابات، ومرور قرن لوعد بلفور، وتغيير المنهاج الدراسي في مدارس أونروا، إضافة إلى قضايا أخرى تهم أهل المخيم. كذلك تم افتتاح العام 2018 بأول مخيم شتوي في تاريخ نادي خدمات المغازي منذ تأسيسه، والأول من نوعه من حيث استهدافه لفئة الناشئين الرياضيين في النادي بأربع فرق رياضية جماعية، هدف إلى البناء الثقافي والفكر الوطني والتربوي، جنبا إلى جنب مع العمل الجسدي.
يعلمنا التاريخ دوماً أن هناك منتصراً ومهزوماً، ويقول لنا في كل حقبة، هناك السلطات والدول التي تأتي وتذهب، لكن ما هو ثابت هو الأرض والشعوب الحية التي تقاوم الذوبان في ثقافة المستعمر والمسيطر. ليس مهماً كم تلبث في الهزيمة، بقدر ما يهم كم تبقى محافظاً على وعيك وهويتك الأصيلة بعيداً عن المسيطرين على الشأن الثقافي بحكم القوة. يقول فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض «لا بد لكل جيل أن يكتشف رسالته وسط الظلام؛ فإما أن يحققها وإما أن يخونها» وهو ما يدعونا، كشعب يقبع تحت الاحتلال، إلى أن نحقق أفكارنا وثقافتنا الحرة بعيداً عن تبدلات السلطات السياسية، وبعيداً عن الحروب النفسية التي يبثها فينا المحتل، من انهزامية واستحالة الوصول إلى ثورة حقيقية ينتصر فيها الشعب على مضطهديه.