هاجسنا المشترك ككتّاب هو البقاء، أن تظل ذاكرة الأجيال تمررُ أسماءنا كمخلدين. حسين البرغوثي عبّر عن هذا الهاجس حين قال: «أنا لا أكتبُ الجميل.. أكتبُ الّذي لا يُنسى»، أعطانا اللغز وحلّه، ذاكرة ولغة مثل حسين، لن تُنسى أبدًا. بدأت رحلتي الثالثة مع حسين بالعنوان «الفراغ الّذي رأى التفاصيل»، وكيف جمع بين مفردتين متناقضتين؛ الفراغ الّذي يعني اللاشيء، والتفاصيل الّتي تعني كلّ شيء، أمسكت بيّ الدهشة من البداية، وأدركتُ أنّني لا بدّ أن أكون فارغة تمامًا لأرى هذه التفاصيل، وعرفتُ كيف يُمكن أن نُعبئ فراغ الذاكرة بطريقة سليمة، وكيف نبحثُ فيما وراء الأشياء، حوار حسين مع ذاته هو بوح، كان يريد بهِ أن نكون له ندًا أو صديقًا أو تلميذًا، كان يعرفُ أنّنا سنعود مرّات كثيرة، لنقرأ ونبحث فيما كتب.
الكتاب مُقسّم لخمس أبواب، كل باب داخله عالم من السحر، من التساؤلات، المكان هو محور فلسفة حسين، بدايةً من الفراغ، ثم الانتقال إلى الأنا والمكان، ثم المكان المنقرض، انتهاءً بشبح المكان «وهم البداية»، كتأصيل لفكرة المكان، الّذي من خلاله نتأمل التفاصيل، ونغرقُ بها، فنعرفها.
فقدتُ الإدراك لرسائل حسين في مواضع كثيرة، عمق الفلسفة في الاغتراب عن المكان، وعدم معرفته، عندما قال: «إنّني أبحثُ عن المألوف في اللامألوف، عن الذاكرة القديمة في الجديدة»، كان يبحثُ عن بيتهِ الّذي يعرفه، ويعرف تفاصيله، في المدينة الّتي بات لا يعرفها، وكيف استحضرَ من طريق عودته إلى البيت مدينة غائبة تمامًا في اللاوعي، وكيف أصبحت طريق العودة غريبة، بينما المدينة الغائبة مألوفة، المكان مرّة أخرى، هو الطريقة لنُبحر في تفاصيل ذاكرة حسين.
في بابِ المكان المُنقرض، يتحدّث حسين عن الأبنية، وكيف كانت أشكالها منذ زمن الاستعمار البريطاني، ويُحلّل طريقة البناء والأسطح القرميدية، بطريقة تجعلك تتساءل، ماذا يُريد أن يشرح لنا حسين هنا عن المكان؟ الإجابة متوقعة، يُريدنا أن نعرف كيف يُعبّر المكان -سواء كان قصرًا أم بناءً عشوائي- عن مالكيه؛ «فلسطينيين أم مستوطنين».
ينهي حسين فراغه مع وهم المكان؛ الفصل الأخير، الّذي يُعطي إشاراتٍ كثيرة إلى ضرورة التأمّل بالبدايات. يروي حسين الكثير من الأساطير، سواء عن المسيح، أم الجنة ونزول آدم وحواء، يُشير إلى أنّ القصص واحدة، وإنّما الاختلاف في الأسماء، يجبُ أن نعود دائمًا للبداية، كي نقفُ وقفتنا الذاتية.
أن تقرأ حسين، يعني أنّك أمام تساؤلاتك، وتأملاتك الّتي لا تستطيع التعبير عنها، وأنّك تملك من الجنون ما يجعلك تفكر كلّ لحظة، بأن تُعيد قراءته لأنّك تركتَ شيئًا صغيرًا يستحقُ أن تفهمه.