لم تكن فكرتي أن أكتب عن تلك التجربة الرائعة التي سرقتني على مدى الأعوام السابقة، حتى استكتبتني مجلة 28. كنت أظنها تجربة خاصة مررت بها، وحدي إلى أن قرأت مقدمة ديوان المبدع زكريا محمد المعنون بـ ” كشتبان”، والذي يقر فيه بما يشبه الدهشة أن كل قصائد الديوان إنما كتبت مباشرة على شاشة الكمبيوتر، ونشرت مباشرة على صفحته الفيس بوك. حينها صرخت: يا الله! فلقد كنت قد أتممت إنجاز ديواني الرابع، والذي بصدد الطباعة قريباً: ما لم أقله لي، كنت قد أنجزته تماماً بذات الطريقة. أن أفتح شاشة الجهاز وصفحة الوورد وأترك أصابعي ترقص على لوحة المفاتيح في لحظات التداعي الحر. في البداية كانت الإنتاج صغيراً فيما يحاذي حافة السطرين أو الثلاثة، لكن شيئاً فشيئاً تغيرت طريقة عمل الدماغ في لحظات الإبداع تلك، لتتدفق القصائد والنصوص لدرجة أنني كنت أخجل وأنا أقول لنفسي: كيف يمكن إيقاف هذا الهدير؟
كان المشي منفرداً لمسافات طويلة هو المحفز لوصول هبة الشعر الضنينة في صباي وبدايات الكتابة، وكم قطعت من الكيلومترات من أجل سطر واحد جميل! ثم صارت مرحلة القراءة المكثفة هي المحفز الذهني تالياً، لدرجة أنني كنت أكرر: الكتابة ما هي إلا إفراز لشجرة القراءة. تلتها مراحل أخرى عمل فيها الدماغ بآليات متعددة في النوم والهذيان، إلى أن صادفته غواية الإنترنت التي قلبت معايير كل شيء.
كنت أقول: إن أردت أن تكتب شيئاً مختلفاً، فيجب أن تفكر بطريقة مختلفة.
أن ترى الحياة بشكل مختلف ومن زاوية أخرى، غير نظرتك للأشياء، للآخرين، للقواعد التي سيرت حياتك السابقة، حتى لو استطعت تغيير طريقة مشيتك في الشارع. وهكذا ظننت أن الكلمات الجديدة والرؤى الجديدة تتخلق من محاولتي لتغيير أفكاري عن العالم والحياة، لكن ما حدث لي في الكتابة المباشرة على الفيس بوك أعاد ترتيب كل هذا الهراء، فلقد كان هذا العالم انفصالاً عن الواقع بشكل ما، حيث تتوقف علاقتك بالزمان والمكان والمشاعر المصاحبة الأخرى. يتوقف الزمان عن الدوران -لا أتكلم هنا عن موضوع الكهرباء- فطالما أنت موجود فهناك آخرون موجودون مستعدون لقراءة كلماتك فوراً والتعليق عليها. لا صباح يهم ولا مساء يهم هنا، لا أوقات ممنوعة للكتابة، لا حاجة بك لانتظار إرسال كتابتك إلى المجلة أو الصحيفة، وانتظار ردود الفعل التي غالباً لا تصل. الفيس بوك منصة الشاعر الدائمة وجمهوره الدائم. الانفصال أيضاً عن المكان، فأينما كتبت، في السرير، في غرفة المعيشة، لا يهم، اكتب فقط. لا حاجة بك أيضاً أن تكون يقظاً أو منتبهاً، كل هذا المشاعر لا تهم، كن كسولاً، متعباً، مغبراً، معطراً، منتشياً، ملولاً، لا يهم، اكتب فقط. هذا الانفصال المادي والمعنوي عن العالم هو برأيي سر تدفق الكتابات على هذه الشاشة السحرية الصغيرة. أعود لحكاية المشي منفرداً لاستجلاب الكتابة، ألم تكن نوعاً من الانفصال عن الآخرين والأحاديث الروتينية اليومية؟ ألم تكن القراءة والاندماج في عالم الشخوص وأبطال الروايات وأحداثها انفصالاً من نوع آخر عن رواية الواقع المعاش؟ ثم، ألم تكن الكتابة في لحظات النوم والهذيان واللاوعي انفصالاً آخر عن ضجيج الحياة وألوانها الصاخبة ومؤثراتها المزعجة؟ فهل جاء الفيس بوك ليكون من أنجح آليات الانفصال؟ هل أسهم في طرح هذا الكم الهائل من التجارب الشعرية والكتابات الفورية؟ الجيدة منها والرديئة؟ لا أحاكم الجودة هنا، فهذا موضوع آخر يتعلق بمخزون الثقافة وحدة الموهبة وجدية الأطروحات.
لا سحراً ولا شعوذةً كانت الكتابة الفورية على الفيس بوك، كانت مجرد طريقة أخرى للانفصال الذهني والجسدي عن الواقع والخروج من أسر اليوميات والتحليق في فضاء الأفكار والمعاني الجديدة. فحينما تهرب قطرة الماء من أسر النهر وتتحرر عالياً، فإنها تفقد علاقات الجريان والسيولة، تنفصل عن قوانين الضفاف والظلال وتصبح حرة تتبع حرية الطيران والرحابة، وتنتمي لفضاء الغيم وجنون الرياح، حينها ترقص قطرة الماء رقصة أخرى تماماً، وتقول حكاية أخرى تماماً.
الآن يمكنني القول بثقة تامة: إذا أردت أن تغير تفكيرك، فاكتب بطريقة مختلفة.
اليوم أفكر أن كل الطرق التي جربتها في الكتابة كي أكتب نصاً مختلفاً على الدوام كانت مجرد تفسيرات لقانون واحد، ألا وهو الانفصال قدر الممكن والمستطاع عن هذا العالم الممل.