يسافرُ الفردُ عادةً ليس بحثًا عن الحرية، وإنما بحثًا عن الحياة. ويحمل المسافر في العادة حقيبة عاديّة بما تحتويه مِن ملابس، زوجاً من الأحذية، زجاجة عطر.. وخلافه. ويستطيعُ الفردُ –في الوضع الطبيعي- أن يحملَ هذه الحقيبة، ويتجهَ إلى وجهته مطمئنًا. وعلى ثقلِ هذه الحقيبة، تكون خفيفة، أي من الممكن حملها أو جرّها بسهولة. أما المُسافر الفلسطيني فعليه دائمًا أن يحمل حقيبةً مِن نوعٍ خاص، حقيبةٌ تحتوي على ذكرياتِه، وعلى الأمنيات التي لم يحققها، وعلى الحُريّة!
الحرية ليست سفرًا وليست حقيبة
وقفتُ على الحاجز الأول بعدَ معبر رفح. كنتُ أنظرُ إلى غزّةَ التي صارت خلفي، إلى ملامح البيوت التي تظهرُ مِن خلفِ الجدار، وإلى يدي التي صارتْ ثقيلةً مِن حقيبةٍ خفيةٍ أحمِلُها. جلستُ بجانب باص الترحيلات، منتظرًا أن يفتحَ الحاجزُ؛ لأكملَ طريقي إلى مطارِ القاهرة. فكرتُ في مَعنى أن أكونَ حُرًا للمرّةِ الأولى، أن أتنفسَ هواءً غير هواءِ غزّة، وأن أقفَ فوق أرضٍ ليست فلسطينيّة.
لسنواتٍ طويلة، اعتقدتُ أن السّفرَ هو الطريق الأول للحرية، واعتقدتُ أيضًا، أنني لن أحصلَ على حريتي أبدًا ما دمتُ لم أخرج من غزّة. هذا الشعورُ كانَ مؤذيًا إلى درجةِ أنه لا يُكتب، وثقيلاً إلى درجةِ أنه لا يُحمل.
وقفتُ متأملًا تلكَ البيوتِ وأنا أحاولُ صياغةَ تعريفٍ مناسبٍ للحرية، وقلتُ فجأةً: هل أنا حُرٌّ الآن؟ هذا سؤالٌ صعب، وكاَن عليّ أن أجيب، ولكنني خفت، خفتُ أن يخونني الكلامُ مثلما تخونني يدي الثقيلة، نظرتُ إلى يدي ورحتُ أحركها يمنةً ويُسرى، وكانت لا تتحرك إلا بصعوبة، وضعتها على حافةِ شباكِ الباص الضيّق، وسألتها سؤالًا واضحًا: لماذا تفعلين بي هكذا؟ كانَ عليكِ أن ترحميني. فجأةً ظهرت الذكريات كلّها في وجهي، والأماكن التي أحبها، مثلا شارع جلال وبعض الأصدقاء الجيدين. حينها كانَ عليّ أن أعي أن حقيبتي ليست تلكَ التي وضعها السائقُ فوقَ الباص، ولا تحتوي على أشياءٍ بسيطة يمكن لأي فردٍ أن يضعها، ولكنها كانت في يدي، يدي التي كانت تحملها دون أن أدري.
في تلكَ اللحظة، شعرتُ أن الحرية نكتة سمجة، ليسَ لها معنٍ. إذ هل أكون حرًا حين أُسافر؟ في القرن الواحد والعشرين، تبدو هذه نكتة سخيفة فعلًا. ولكنّ شعوري الدائم أنني أعيش في سجنٍ كبير سمّوه غزة، جعلني أصدّق فعلًا أنني حُرٌّ تمامًا وأستطيع فعلَ ما أريد. وفي اللحظة التي كدتُ أصدّق فيها هذا القول، كانت يدي تؤلمني، كنتُ أحمل هذا السجن الكبير في يدي، كنتُ أحبه، وكان مؤنسًا لي في رحلة سفري.
وجه مزيف للحرية
عشتُ في غزّة أربع وعشرين سنة كاملات، لم أعرف فيها لمرّةٍ واحدةٍ، كيف يُمكِنُ للعالم الخارجي أن يكون. وكنتُ أطرحُ أسئلةً مِن قَبيل: هل هناكَ بلادٌ أخرى كما يقولون؟ وهل ما أراه في الأفلام الأمريكية حقيقة؟ أم مجرّد عوالم خفية صنعها مُخرجٌ غبي؟ وكنتُ كلّما ذهبتُ إلى البحرِ أقول: الآن أشعر بالحرية. ثمّ أصرخ بصوتٍ عالٍ؛ لأثبتَ لنفسي أنني أستطيعُ فعل ما أريد. وبمجرّدِ وصولي مرةً أخرى إلى البيت، أو جلوسي مع الأصدقاء المعدودين، أو كتابتي لنصٍ جديد، تتبلّورُ في ذهني فكرةَ السجن الكبير، السجنُ الّذي يستحيل أن أخرجَ منه يومًا.
لم تكن غزة سجنًا على المُستوى المَكاني فقط بالنسبة إليّ، فهذا يُمكِنُ تجاوزه بالسَفر الّذي أعتبره وجهًا مزيفًا للحرية؛ ولكنها سجنٌ من نواحٍ عديدة قد لا تكون منطقيّة بالنسبةِ للبعض، ولهذا كانَ القلقُ يُساورني قبل سفري، إن كنتُ فعلًا سَأحصلُ على الحرية حينَ أسافر أم لا؟. وكنتُ دائمًا حريصًا على ألا أُقِدمَ على حريتي احتراماً لحق الآخرين بالتدخل فيها، حيثُ كانَ على الناس أن تتدخل في حريتي بصفةٍ خاصة.
لهذا يُمكنني أن أقسّمَ الحريةَ في غزّة إلى ثلاثةِ أقسام: قسمٌ مكاني، وقسم شعوري، وقسم مُعاش. بالنسبة للقسم المكاني، فهذا كانَ على مستوى شعوري بالقيد في التنقل والسفر والانخراط مع الثقافات الأخرى. والقسم الشعوري، ذلك المُتعلّقُ بأفكاري وما كنتُ أكتمه من شعورٍ لأربعٍ وعشرين سنة، تنازلًا أو احترامًا أو خوفًا. أما القسم الثالث فكنتُ أعيشه، وكانَ يتمحوّرُ حول العامة، أي أنني كنتُ أشاركهم تلك الأهداف العامة في الحرية. ولقد اعتقدتُ لسنواتٍ طويلة، أنه بإمكاني الشعور بالحرية تمامًا في الخارج، وأن أضربَ ثلاثة أقسامٍ بحريةٍ واحدة، ولكن هذا لم يحدث أبدًا.
نسيت أقدامي في شارع جلال
رغمَ أنني لم أحمل سوى حقيبةً واحدة في السفر، إلا أنني كنتُ فعليًا أحمل اثنتين. أما عن الأولى فهي التي يحملُها أي شخصٍ مسافر، أما الثانية فهي ملكٌ للفلسطيني فقط. كنتُ في خِضم أفكاري، إلا أن قطعنِي صوتُ سائق الباص: فتح الحاجز. وسار الباص متجهًا إلى مطار القاهرة، وكنتُ كلّما رأيتُ شخصًا أو لمحتُ بنايةً، قلتُ هذه هي الحرية، أن أرى أشياءً جديدة، أن أشمُ هواءً آخرَ، وأن أمتلكَ الحقّ في الطيران.
مرّ الشهرُ الأول في السفر، وكنتُ قادرًا تمامًا على التجلي في فعلِ ما أريد. ولم أكن أتلقى أي تعليقاتٍ تَخصُ شكلي أو ملابسي، وكانت الأماكن ليست عصية كما في السابق. وكان –ربمّا- عليّ أن أشعر تمامًا بالحريةِ الكاملة التي فكرتُ بها يومًا بكافةِ أقسامها. ففي الخارج كان يمكنني أن أبوحَ بكافةِ الأفكارِ التي أحملها، وأن أتنقل وأرى كما أريد. ولكنني كنتُ دومًا أتوق إلى كأس قهوة على بحرِ غزة، وإلى حديثٍ تافهٍ في لقاءٍ مع صديق مقرّب، وهذا كان يُشعرني بالخجل، ويمنع حريتي من الاكتمال.
جعلني هذا الشعور أعود إلى ما قاله غسان كنفاني: « أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل». حيثُ كانت حريتي –المفترضة- بمقابل، إذن إنني دفعتُ مقابلَ هذه الحرية ما حملته معي من ذكريات لم تفارقني على الإطلاق. وربمّا في لحظةٍ ما، أخذني الحنين إلى غزّة، فصرتُ واحدًا من أبنائها الّذين لا يبحثون عن الحرية خارجها، ولكنه في داخلها تمامًا. لهذا كنتُ كلّما همّت يدي على مساعدتي؛ لتطبيق شيءٍ ما يبلّورُ حريتي، أشعر بثقلها. وكلّما مشيتُ في شارعٍ، لا أشعر بقدميّ، إذ إنها كانت تمشي هناكَ، في شارع جلال.
بوابةُ الخروجِ هي ذاتها بوابةُ الدخول
كانَ على الفلسطيني –الغزّي تحديدًا- أن يعيشَ على الثنائيات باستمرار. ثنائيةِ السِلمِ والحرب، ثنائيةِ الفقرِ والغنى، ثنائيةِ القلق والخوف، ثنائيةِ الغربة والحنين، وثنائيةِ الحرية والسجن. جعله هذا لا ينعمُ بشيءٍ إلا بفقدانِ شيءٍ آخر، وقد تجلى لي هذا تمامًا عندما كانت «الحرية» واقعًا بالنسبة لي خارج غزة، بينما كنتُ غارقًا –في خيالي- بالقيد داخلها، حينها شعرتُ أنني أعيش واقعًا مضطربًا، لم يمكنني من الوصول إلى مُبتغاي أبدًا، وصرتُ أفكرُ في الكتابةِ على أنها بحرُ نجاةٍ وحيد.
عدتُ إلى غزة بعدَ شهورٍ من الغربة، استقبلتني المدينة بهدوء ووِد، ربما تعاطفت معي قليلًا بعد فشلي في الاستمرار خارجها. حينها فقط، عرفت أنّ بوابة الخروج هي ذاتها بوابة الدخول، وأن «الحرية» ليست مرتبطة فقط بمكانٍ، أو تذكرة سفر. ولكنها مرتبطة بأشكالٍ مختلفة من الحياة، أشكال لم أعرفها بَعد.