يَستمدُّ مفهوم “الحرية” في واقع الإنسان الفلسطيني طاقته المُتجددة من علاقته بالمجتمع ونخبته الحاكمة من جهة، وبالقضيّة الوطنيّة والآخر النقيض من جهةٍ ثانية، حيث “إن الحرية كلٌّ لا يتجزّأ ولا ينقسم، فهي إمّا أن تكون أو لا تكون”[1]، وفق تعبير كمال أبو ديب، ليصبح السؤال: هل تستحق الحريّة كلَّ هذا الاشتباك بين الفرديّ والجَمْعيّ بيننا كجماعةٍ بشريّةٍ كوننا طرف معادلة ما؟ والآخر النقيض بوصفهِ الطرف المُقابل؟ لا بدّ من ذلك، وإلا كان لمعنى الحريّة دلالة أخرى غير تلك الدلالة التكوينيّة التي اكتسبها الإنسانُ مع فعل الخلقِ الأول بالولادة حرّاً، وعبّر عنها منذُ البدء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بمقولتِهِ العظيمة: “متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”؟
ولكنّ الأمرَ على أرض ِالواقع، مُعقدٌ إلى حدٍّ بعيد، فالحرية ليست تَرَفاً، وإنما هي ضرورة، وعنوان كرامة مَحكومٌ عليها بصراعٍ دائم ومستمر ومركَّب؛ لأنها مشكلة المشاكل البشريّة، وأحجية الصراع الإنسانيّ مع كل الموجودات من بشرٍ وطبيعة، وقد تكون الحريّة بمعنى من المعاني “تعبيراً عن نزوع الإنسان نحو الألوهية” وفق تصوُّر زكريا إبراهيم[2].
والحريّة بوصفها قيمة مطلقة غير مشروطة، لا يصح ولا يستقيم أن تكون مطلباً ظرفياً، ولكن الحالة العربيّة تدفعها لأن تكون خاضعة للشرطِ الظرفي، الّذي يؤكّد أنّ الحريّةَ غائبةٌ عن المُجتمع العربي بفعلِ فاعلٍ، مرّة من خلال تغذيّة العادات والتقاليد الاجتماعية البالية داخليًّا، فضلاً عن افتعال الجدل حول عديد القضايا ذات الصلة بمفهومِ الحريّة، ومرّة عبر إكراهات وتعسف الاستعمار الكولونيالي خارجياً، وسعيه الدؤوب؛ لتغييب الحرية مفهومًا وممارسة، وإن رَفَعَ عكس ذلك من شعاراتٍ زائفة على كلّ منبر وفي كلّ ساحة، والأدهى أن يتمظهر الظرفين في الوقتِ ذاته.
إلا أنّ “مسألة الحريّة ستبقى مطروحة باستمرار في جميعِ الأحوال والظروف، وطرحها المستمر هو أكبر ضامن لتحقيقها التدريجي” كما نظّر للأمر عبد الله العروي[3]، وهو ما يدفعنا في هذه الورقة لمعاينة مفهوم الحريّة في النص الأدبيّ الفلسطينيّ الحديث بشكلٍ عام، والشعريّ بصفةٍ خاصة، لدى عدد من الأصوات الشابة، لاستقصاء تجليات المفهوم في الواقع الفلسطينيّ الجديد؟ وكيفية معالجته أدبياً؟ فاختيار أخيل “بطل شخصية الإلياذة” للحياة المحدودة، المشعّة والمليئة بالمجد والانتصارات، على حساب الحياة الأبديّة، الخاملة والمسلوبة وفق خيارات أُمِّه، ليس ببعيد عن استجابةِ الفلسطيني للحريّة إدراكاً وممارسة، إنْ توافر له الاختيار أو انتزعه.
الحرية انفلات المعصم من القيد.
“من أجل ماذا يكون ُالعيش؟ وعن أية قيمة تدافع؟ ومن أجل أي مصير مُشترك تناضل؟ وأي مكان ترتقي؟ وعلى أية إمكانيات تنطوي؟ وأي طريق تسلك؟ العودة إلى الذات – كما العودة إلى الأنا – عودة إلى وحدة الذات والحرية. ومن أجل وحدة الذات والحرية، فإن مهمة الفلسفة أن تدمّر كلَّ ما شُيّد من قبل الفلاسفة وغيرهم من أبنية فوق الذات”[4]. بهذه الأسئلة المشتبكة والإشكالية ذهب الكاتب والمفكر الفلسطيني أحمد برقاوي يناقش في كتابه “انطولوجيا الذات” علاقة الأخيرة بالهوية عبر مسالك الحرية، على الرغم من وعورة طريقها، ذلك لأن الحرية والقيد نقيضان لا يلتقيان، وإنْ سَيطر القيدُ على الحرية لمساحةٍ زمنيّةٍ محددة، وهو ما يعبّر عنه عديد الأصوات الشابة في نصوصها المتأففة الرافضة لشكلِ الحياة المَسلوبة باستلاب الحرية، ببساطة ووضوح لأن “لا شرفات تطل على الأحلام/ والنوافذ لم تعد إلى أماكنها منذ آخر الحروب” كما تعبّر الشاعرة الشابة هند جودة في نصّها المُعنْون “لا سكر في المدينة”، ولكنّ السؤال هنا، سيدور حتماً حول ماهية هذه الأحلام، وهل كانت النوافذ بما تعنيه فلسفياً في مكانها قبل آخر هذه الحروب؟
الشاعرة جودة نفسها تحاولُ أن ترسمَ ملامح إجابة ما في نصٍّ آخر لها بعنوان “يختنقُ بالهواء”، فنجدها تقول:
“الحياة لا تشبهك
تسيل على مهلٍ جدولاً من حنين
وأنت لا تشبهها
تعدو حصاناً في ساحات عطشى”
الحلم إذن يتحققُ في إحدى تجلياته حينما يعدو المرء، أي ينطلق كالحصان، والساحات عطشى، والخيل في المخيلة العربية دلالة تشير إلى قوة كامنة، ومكانة اجتماعية تُعبر عن الفروسيّة، غير أنَّ الخيل في الوعي الديني والتاريخي لدى العربي، أيقونة نصر ما، أتى وسيأتي، فالنص الإلهي يقول: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ “، ولنلحظ أن الحياة في نص جودة، تسيل، والإنسان يعدو، واستخدام الأفعال المضارعة “تسيل وتعدو”, تحيل إلى استمرارية المحاولة والإصرار عليها بغية تحرير المعصم من القيد. والهدف هي الحرية كونها بوصلة الفرح الّذي انتظرناه طويلاً، ولم نزل ندور في فلكِ انتظاره، كما تعبّر الشاعرة في مقطع ثالث: “كُتِبَ على غيمكَ أنه اتجاه الفرح الوحيد لبوصلتي!”، فهل الأمر بهذه السهولة؟ هل نعي ما نريد كي نصل؟
في عدد من نصوص للشاعر محمد الزقزوق نراه حائراً بينَ معرفةٍ سابقة وفعلٍ راهن، فأما المعرفة يشير إليها في نص بعنوان “على أعتاب القيامة”: “كنتُ أعرف لونك أكثر من جهة الضوء، وأقرأ دخان أفرانك في الصباحات اليتيمة” واستخدامه لمفردة كنتُ ، تشير إلى فعلٍ ماضٍ، على الرغم من كون فكرةِ الضوء لا يُمكن إلا أن تكون حالةً مستمرةً، بصرفِ النظر متى بدأت، فضلاً عن وصفِهِ للصباحات باليتم، وهو وصفٌ يفيد إلى تسللِ حالة من حالاتِ اليأس، الّذي يحومُ في نصِهِ بأكثر من تعبير، كأن نجدهُ يقول في نصِّ “خريف”: “الريح وجهتك التائه/ والوجع يقظة الحياة في موتك/ يا نصفَ نورِ الملائكةِ تسبحُ في الوحلِ/ يا عجزَ اللغةِ في مقاماتِ الحنينِ (…) الزاوية الوحيدة المعتمة في هذا النهار، لم تصلْها الشمسُ لأن طفلاً في مكانٍ ما لم يفتحْ عينيه شباكين على النور”، لننتبه هنا إلى نصّه وهو يخاطب الريح في أكثر من مكان بالقول: “أيتها الريح التي تعوي… أيتها الريح التي تهمس”، وكأننا به يناقش دلالات الريح المتناقضة في مراتٍ عدة كونها تعبيرًا عن الحركة والتقلّب، فهي العذاب، والدمار، والخراب، والعقم، وأحياناً الرحمة والخير، ففي خطابه الأول: “أيتها الريح التي تعوي/ دحرجِ قُدُورَ قلبي التي تغلي من شدة البرد” خطاب عذاب وعقم، ولكن خطابه الثاني: “أيتها الريح التي تهمس/ كلّما طال الهمس، سألت حبيبتي أن تُعلي صوتها، وحين ينزل المطر، أبكي” والمطر بما يرمز إليه خطاب خير، والبكاء رحمة.
هذه الحيرة في نصوص الشاعر الزقزوق، يمكننا أن نحيلها لأحد تفسيرات البرقاوي صاحب كتاب “انطولوجيا الذات”، وهو يؤكد: “الذات المتأففة ليست بلا خزان وعي، لكنها وهي معتدة بذاتها تحدد بحظٍ من الحريّة نوع الرافد الّذي يصب فيها. واعية لما يُصب في خزانها، ولما يخرج منه ويصرف”[5]، الأمر الّذي يأخذنا مباشرةً لمقطعٍ آخرَ للشاعر الزقزوق في ذات النص الأخير “خريف”، وهو يقول: “هذا العالم أضيقُ من أن ألتوي في ركنِهِ كحيةٍ كفتْ عن السعي، أضيقُ من أن أختبئَ في جُحره كفأرٍ يزعجهُ ضجيجُ الشوارع، أضيق من انكماشي فيَّ كما يفعل عصفور في المطر”، فهو هنا يتمرّدُ على خوفه وحزنه ودماره رفضاً لأن يصبح عقيماً بلا فائدة، ولذا فهو بتفسير مقطع البرقاوي “ذات متأففة”، ولكنها ذات معتدة بنفسها تعي نوع الرافد فتصب، وتسمح بالصب فيها بالقدر الّذي تعيه وتريده، وهو بهذا المعنى ينتظر اللحظة الحاسمة، لحظة الوحي الهابط؛ ليؤكد فكرة وعيه بالأشياء فهو القائل: “حين يهبط ُالوحي، أُرتب المكانَ كي يتسع الغناء والعواء، أفرشُ أرض الغرفة بالأسئلة وأشعل البخورَ ككنيسة، أغتسلُ بماءٍ من بقايا دموعٍ سائلة وأتعرّى من هواجسي، ثم أُمَزِّقُ قصيدةً كانت على الطاولة”، وضمائر الأنا الفاعلة في هذا المقطع، “أرتب، أفرش، أشعل، أغتسل، أتعرى، أمزق” تشيرُ جميعها إلى حالِ الوعي المصحوب بالرفض لفكرة الاستسلام لما هو عليه، وفي الواقع الفلسطيني الراهن، لنا أن نتوقف طويلاً أمامَ انتزاعِ ستةٍ من الأسرى حريتهم من القيد، بغض النظر عن نجاح المحاولة من عدمها، لأنّ الفكرة كلّها تكمن في المحاولة لا في النتيجة.
فلسفة الموت بين وعي العبودية ووعي الحرية الأخيرة.
الموتُ في المُعتقدِ الدينيّ شكلٌ من أشكالِ الميلاد الثاني أو الجديد، وبداية حياة أبديّة، وكذا الأمر عند عديد الفلاسفة، الذي يطالبنا بعضُهم بالنظرِ إلى الموت على أنه الهدف الحقيقي للحياة، كما الفيلسوف الألماني شوبنهاور، ولذلك “ليس هناك خير في الحياة إلا الأمل في حياةٍ أخرى”، وفق تنظير الفرنسي بليز باسكال، والوعي بالعبودية، وفق أحمد البرقاوي، “نمط من وعي الحرية، فمن لا يتوفر لديه وعي ما بالحرية لا يعي عبوديته. والوعي بالعبودية هو الوعي بغياب الحرية”[6] بهذا المعنى تتجلى الحرية أحيانًا في الموت، حينما يصبح البحثُ بحثاً عن خلاصٍ لا قيد فيه، ولا يحدُّه أيّ فضاء مُغلق أو مزدحم، وهو ما يمكننا ملاحظته في عديد الأصوات الشابة، فهذا صوت محمود الشاعر في نصّ له بعنوان “كمن يستمر في خسارة روحه” يقول:
“إلى روحي لصباح قلبي أفتح نافذةً وأشعلُ حنيني في الهواء.
إلى جسدي، وأنت غارق في الركض نحو حفرتك، سأهربُ منك لأجلس في عينَيِّ طفلةٍ ترسم”.
وفي نصٍّ آخر بعنوان “ثقل الهواء في رئتي الوحيدة” يقول:
“أتنفس كعصفورٍ معلّقٍ على حوافِ النافذة.
وأنا المُلقى مثل ميت من أهلِ هذا التراب.
لا خيط يسحبني نحو مساحة بيضاء أشغل فيها نظري”
(…) وحيدٌ جسدي تأكله الشمس.
وأنا المصلوبُ كالطيورِ على حوافِ النافذة،
وحيداً أصرخ، ليس في وجهِ شيءِّ محدد.
لكني سئمتُ الرحيل والموت، والمواعظ الثقيلة في انتظار الخلاص”.
والشاعر هنا يخاطب الروح والجسد معًا في نصه الأول، لا ليقول أنا المنتهي، ولكن ليحاكي الحرية في رمزية مفرداته في نصه الثاني “النافذة، والهواء، وعين الطفولة التي تتسع لكل رسم يحيك من الأمل أفقاً يتسع لعصفور يريد أن يتنفسَ في فضائه المنتمي إليه، وهو من أهل هذا التراب، وينشد مساحته البيضاء؛ ليشغل فيها النظر ويحلّق.
والأمرُ بهذا الاتجاه يتكررُ في نصٍّ للشاعر غازي العالول المُعنون “ليس ميتاً”، والشاعر هنا لا يتحدث عن الإنسان وحسب، وإنما أيضًا عن الأشياء من حولنا، يقول:
” ليس ميتاً، أظنه يرسم صورةَ بيته الّذي هربَ من الحي” ولنا أن نلاحظ أن الفاعل هنا أي الهارب، هو البيت، وليس الميت الّذي يرفضُ الشاعر عدَّه ميتاً، بل مُتحرراً استطاع أن يكونَ فاعلاً حتى في شبهة الغياب فهو كما يظن الشاعر: ” ليس ميتاً.. ربما افترش الرمل؛ لتكونَ عظامه أسسَ وطنٍ جديد”، وربمّا التي تفيدُ الظنَ والاحتماليّة هنا، تشي بفعلِ حريةٍ أرادها الشاعر للميت حدَّ السمو به إلى درجةِ المشاركة في تأسيسِ الوطن، والوطن في الحالة الفلسطينية، كيان مُحتل ينشد حريتهُ. والموت لدى شاعر عربي كما البحريني قاسم حداد هو الحرية الأخيرة.
ولأنه “ما من وقت ينقضي بين لحظةِ وعيك الأخيرة، وأول شعاع لفجرِ حياتِكِ الجديدة”، كما يُنظّر فريدريش نيتشه للأبديّة، لم تتجلَّ الحرية في هذه الورقة، فقط حول فكرة الحريّة من الاستعمار وحسب، ولكنها أيضًا حرية على مستوى الروح والفكر، حريّة تفتحُ الأبوابَ مشرعةً أمامَ الأسئلة والمراجعات، بهذا المعنى، كان ولا يزال لمفهومِ الحرية في السياق الفلسطيني، خصوصية لا تبتعد كثيراً عن الخصوصيّة العربيّة بخاصة، والإنسانيّة بعامة، ولكنها خصوصيّة تتمايزُ عن غيرها بعديد الصيغ، وهو ما حاولت هذه الورقة أن تقف عليه في النص الأدبي لجيل “المفارقة المفجعة”، جيل ما بعد الانتفاضة الثانية، والانقسام، وتجليات معالجته لمفهوم الحرية، من حيث هو إنسان أولاً، وبوصفه فلسطينياً ثانياً. لأن الأمر بالفهم الفلسطيني يكمن في مفارقة الوعي ما بين العبودية والحرية، ونزعٍ للقيد.
[1] أبو ديب، كمال. “كتاب الحرية” دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة – عمان – الأردن- ط 1،2012 م، ص191.
[2] انظر: إبراهيم، زكريا. “مشكلة الحرية” مكتبة مصر- دار الطباعة الحديثة – القاهرة ط2، 1962م، ص 9.
[3] العروي، عبد الله. “مفهوم الحرية” المركز الثقافي العربي – المغرب – الدار البيضاء، ط5، 2012م، ص140.
[4] البرقاوي, أحمد. “انطولوجيا الذات”, المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – عام 2015. ص6.
[5] المصدر السابق ص25.
[6] المصدر السابق ص7.