عُدت هذا الأسبوع لزيارة الأهل. وأقول «عُدت» وليس «ذهبت»، مثلما أقول عادة «راجع ع البلد نهاية الأسبوع …»، أو في أن يسألونني «وينتا مروّح؟»، مع أنني لم أعد أسكن في بيتنا في قرية عيلبون، إذ سكنت آخر عشر سنوات وأكثر في مدينة حيفا وخارج البلاد أيضاً. إلّا أن المنزل الذي ولدنا وتربينا فيه يبقى المكان الذي نظلّ نعود إليه ونشعر تجاهه بالمنزل الأول والمنزلة الأولى. ومن مكوّنات ومكنونات هذه المنزلة الأولى إلى جانب العائلة والذكريات والطمأنينة، هناك الحاكورة.
أعتبر نفسي محظوظاً كوني من جيل عايش الحواكير ولعب فيها. لعل كلمة حاكورة سيتضاءل استعمالها بشكل أكبر في العقد القادم، وقد تنحسر تماماً. حاكورة؛ أرضٌ تُحبس لزرع الأشجار قرب المنازل. هي أكبر من حديقة وأصغر من بستان. ميزة شكّلت مفهوم ومعالم القرى في بلادنا والعالم. فلا قرية من دون حواكير. هي رئة المنزل والعائلة ومصدر زرعها البسيط متعاقب المواسم. هي ملعب الطفولة وساحة الخيال الأولى نحو العالم الكبير.
أولى ذكرياتي فيها، كانت سنة الثلجة في فلسطين العام 1992. أذكر منها ومضات مصوّرة سريعة لمنحدر صغير من التراب غطّته الثلوج «تسحسلنا» عليه مراراً ساعات طويلة ضاحكين أنا وأبناء العم وأولاد الحارة. كبرنا قليلاً بعد سنة الثلجة، وأصبحت الحاكورة وما حولها ملعبنا وعالمنا اليومي الذي يبدأ مع ساعات الصباح حتى مغيب الشمس، حيث نعود إلى المنزل متّسخي الثياب. فيها اكتشفنا لعبة كرة القدم، والغميضة، والزقيطة، ومفاقسة البيض وحِيَلهِ في عيد الفصح، وفيها حفرنا بألعابنا طرقات جديدة. هي الفضاء العام لأطفال الحارة. الخروج الأول عن سُلطة العائلة. مساحة جغرافيّة صغيرة لكنّها عالمٌ كبير. وقتٌ طويلٌ من اللهو يمرّ كأنه دقائق. هي المكان الذي لا وقت فيه للوقت. هي بحثنا الأول عن الحقيقة والسرديّات الكبرى. هي قصيدتنا الأولى وقصصنا التي لم تُكتب. هي تذوقنا لطعم الحريّة وشكل التمرّد.
تحدّ حاكورتنا سلسلة طويلة من شجيرات السّريس لتُشكّل عالماً داخلياً آخر في الحاكورة مغطّى وغير مكشوف. هذا كان الأندر جراوند الخاص بالحاكورة. هناك كانت تلد القطط أولادها، وهناك كنّا نتلقى تحذيرات من الدخول لأنه من المحتمل وجود ثعبان ما، الذي اعتقدنا بأنه الشيطان الذي يلحس طعامنا في حال وقع أرضاً فيُفسده. رغم ذلك، كنت خبيراً في دخول السّريس من أول السلسلة حتى آخرها. وبسبب هذه الخبرة والسرعة في الدخول والخروج حتى وإن كنت حافي القدمين، رُشّحتُ للشخص المسؤول عن جلب كرة القدم حينما تدخل السّريس بعد ضربة متهوّرة، وحصلت بسبب ذلك حينها على لقب «أبو السّريس» بكل فخر. كان دخول السّريس مغامرة تحاكي خيالي عن فتى الأدغال الذي يعيش في الطبيعة ويُصادق الحيوانات. كان يتجمّع هناك كل ما كان يُرمى لسببٍ أو دون سببٍ، فأصبح باطن السّريس معرضاً لنفاياتٍ وأغراضٍ منسية يُمكن استعمالها في ألعابنا المُبتكرة. هناك خبأت أسلحتي الخشبيّة في انتظار حرب قادمة.
ما يميّز حاكورتنا أنها كبيرة نسبياً، فهي أرض مشتركة تعود لوالدي وأعمامي الاثنين. تعيش معنا كل أيّام السنة، وفيها من كل موسم ثمر. لا أعرف إن كنت سأحيط بذكر كل ثمارها، لكن كان هناك وما زال التين، والتفاح، والتوت، والليمون، والخوخ، والعنب وورق الدوالي، والبوملي، والإيكيدنيا، والبسفلورا، والجرنك، والمنادلينا، والبرتقال، والبروميا، واللوز، والخروب، والزعتر، والخضروات والبقوليات كالحمص والبازيلاء، وأشتال الزيتون، وغيرها. وفيها كنّا نصنع الخبز والمناقيش لكل الأسبوع كل صباح يوم الأحد في فرنٍ على حطب، قبل أن تغزو أفران الغاز قرانا وتقضي على الخبز البيتي. لكن ما زال في الحاكورة قن دجاج بلدي صامد حتى اليوم في وجه البيض المُصَنّع في الكيبوتسات الإسرائيليّة.
حين أعود في زيارتي للعائلة، دائماً ما أجلس على كرسي في الخارج، وأنظر من أعلى إلى الحاكورة. فأنا وإن كنت تركت ملعب الطفولة هذا، لكنّي ما زلت أتنفس من عالمه الخاص، وبخاصة أننا نعيش في زمن آخر أيّام الحواكير. وما يُشعرني بسعادة أكثر هو في أن أرى أبناء أخوتي -جيل الهواتف الذكية- يعيشون الحاكورة كما عشناها قبل أكثر من عشرين سنة. أشعر بسعادة لأنهم يحظون بهذه التجربة الآن وقبل وفاة الحاكورة المرتقب.
لا أعرف أي مصطلح يُمكن لنا أن نُطلق على حاكورتنا وعدد آخر قليل من الحواكير المتبقية في قريتنا وقرى أخرى في الجليل؛ فهل نقول مثلاً «حاكورة ناجية من التّمدن» أم نقول «حاكورة ناجية من الباطون»؟ أو «حاكورة ناجية من الحداثة» أم «حاكورة ما بعد الحداثة»؟ لا أعلم. يُعيدني التأمل في الحاكورة، وبخاصة في أيّام الحجر المنزلي خلال جائحة كورونا إلى التفكير فيها ليس فقط كذكريات، بل كحيّزٍ ناجٍ (حتى الآن) من الهيمنة للنظام الرأسمالي والاستعماري ظلّ يُنتج هامشاً يصنع حياة متدفّقة خارج محاولات السحق التي يحملها الواقع السياسي والاقتصادي.
تأملّي هذا يقودني إلى حقيقة تراجيديّة محتومة مفادها أنه لم يعد هناك إمكانية لاستمرار الحواكير. فحاكورتنا وإن صمدت فترة أطول أمام التحولات البنيويّة في القرية العربيّة الفلسطينيّة في الداخل بعد العام 1948، من تهجيرٍ ومصادرة أراضٍ ومحاصرة البلدات العربيّة بأخرى يهوديّة وعدم توسيع مسطحات البناء، وتحويل عملية تطوير البلدات العربيّة إلى هوامش للمدن الإسرائيليّة، سيصيبها هي الأخرى ما أصاب أخواتها الحواكير التي صارت أسمنتاً وشققاً سكنيّة فوق بعضها بعض وحواصل للإيجار.
مع بدء الحديث عن تقسيمها وتخطيط مستقبل آخر لها وما يرافقه من خلافات على أمتارها، سيبدو الحديث النوستالجي واستذكار الحاكورة غير واقعي بالمرة. وعندما تُصبُّ صبّة الباطون الأولى فيها خلال العامين القادمين، سَيُشيّع جُثمانها رسمياً في طقسٍ من طقوس جنازات الحواكير، حيث تُشوى فيه اللحوم، ويأتي الناس والأقارب لتقديم المباركة، وتُوزّع الحلوى على الجيران، ولن يبقى لي في الحاكورة حينها إلّا ما علق منها في الذاكرة.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx