لوالدي قبران: قبر رمزي من تراب في مقبرة البلدة، والآخر فعلي من مياه هذا البحر مجهول الموقع تحت صفحته الممتدة المتموجة. لم نعثر على جثته بعد وفاته، كان جل وقته ومشروع حياته للبحر، وإليه عاد. كان البحر مبعث بهجة بالنسبة لي حين كنت أذهب لملاقاة والدي بعد عودته، خاصة وأنه، في الغالب، كان يسبق ملاقاتي له مصافحة ومزاح صيادين آخرين في الميناء، لكن، منذ ذاك اليوم وأنا أمقت حتى سلام زرقته.
أذكر أن أمي كانت مهووسة بتتبع النشرات الجوية المحلية والعالمية، كانت تحرص كل الحرص على استشعار الطمأنينية والأمان قبل خروج والدي في رحلة صيده قبيل الفجر، خاصة وأن البحر والريح كائنان مزاجيان لا يؤمن جانبهما، فكيف إذا التقيا معاً! خرج والدي من المنزل في ذاك اليوم بعد مباركة والدتي وأصوات توسل إخوتي الليلية تذكره بحاجيات رغبوا في الحصول عليها، منها، مثلاً، جاكيت صوفي لأختي تمارى، وجورب لأخي الصغير أيهم، لكن والدي في غمرة انشغاله ليلاً بمتابعة النشرة الجوية لم يتنبه لتفاصيل تلك المتطلبات، ونسي لون الجورب الذي طلبه أخي ذو الأربعة أعوام، فهمّ يسائل والدتي عن ذاك اللون لتجيبه وقد انشغلت عنه في إعداد الشاي الصباحي، فأخبرته أن يحضر أي لون يراه مناسباً وسيعجب أيهم، ثم استدركت قولها ذاك باقتراح اللون الأزرق لتنقذته من حيرة غرق بها وهو يحمل كوب شايه المحلى ليجلو بها جفاف حلقه من أثر التبغ. الغالبية كانوا يستغربون تعلق والدي بالشاي المحلى والمعد على مهل، خاصة وأن أغلب المدخنين مرتبطون ذهنياً باحتساء القهوة وليس الشاي، حتى أن غالبيتهم يعشقونها مرة دون ذرة سكر، لكن والدي كان استثناء عن غيره حتى في هذا الموضوع البسيط، كما كانت قصة استشهاده استثناء!
حمل عدته بعد أن فرغ من شرب كوبه الساخن، وودع أمي التي بدورها كانت قد سمعت عن رياح المتوسط في النشرة الجوية السابقة في تلك الليلة، لكنها انحسرت هذا الصباح، فكان وداعها المؤقت له بالقول: “الله معك، الله يهونها عليك ويحميك”. ابتسم للين صوتها ودفء كلماتها قبل أن يخرج إلى خشونة يوم ينتظره فيه ما ينتظره، تابعت خطواته سراً من نافذة غرفتنا كما تفعل أمي من نافذة غرفة الجلوس، سقطت من يده ورقة فعاد وحملها، وشد خطاه نحو الميناء حيث مركبه الذي استأجره مقابل مبلغ يعجز أحياناً عن سداده دفعة واحدة، فيلجأ إلى تقسيطه كما حاجاتنا، ولحسن الحظ أن مالك المركب لا يزال يحمل ذكرى طيبة عن المرحوم جدي، ويعامل والدي بذلك التساهل إكراما “لختياره” المرحوم!
هنا، في ميناء هذه البلدة الصغيرة، تعدنا شمس الصباح بالمستحيل عند شروقها، وتعتذر لما لم يتحقق من ذلك المستحيل عند مغيبها، لكن المستحيل ذلك اليوم كان يفوق قدرتي على التحمل. اعتلى والدي مركبه وأبحر برفقة صيادين آخرين نحو زرقة غامضة ضمن الحدود المسموح لهم للصيد ضمنها من قبل سلطات الاحتلال، لكن، ورغم التزامهم بحدود تلك المنطقة، فاجأهم في ذلك الفجر زورق حربي اخترق منطقة الصيد بسرعة واستهدف المراكب برشقات من الرصاص وانسحب بعدها، سقط والدي إثر ذلك الاعتداء شهيداً في لجة البحر، وتفرق جمع الصيادين!
باءت كل محاولات العثور على جثته بالفشل، ونفت سلطات الاحتلال علاقتها بما أطلقت عليه اسم “حادث”. أصيبت والدتي بصدمة جعلتها تفقد القدرة على الكلام أو حتى التحدث إلى أحد منا، ووجدت نفسي مضطراً لتصنع القوة أمام أخي الصغير الذي لم يدرك بعد مفهوم استشهاد والدي واختفاء جثته، هكذا فجأة دون وداع أو جنازة تليق به، تفاجأت به وقد جاء إلي يسألني:
– “وين راح أبوي؟ وليش إمي بتعيط؟ وليش كل هدول الناس عنا؟”
– دامعاً أجبته: “أبونا استشهد، الله يرحمه”.
– سألني مستغرباً وهو على شرفة من بكاء: “شو يعني استشهد؟”
– لست أدري لم خطر ببالي الجورب الأزرق الذي كان سيحضره والدي له لأصوغ منه إجابة لسؤاله الصعب ذاك: “لقد التهمه جورب أزرق كبير يدعى البحر، التهمه ولن يعيده”.
لم أشأ أن أفسد للود قضية بينه وبين البحر، ولأيام تلت غاص أخي الصغير في قعر من صمت يشبه اختفاء جثة والدي، ومنذ تلك الحادثة يرفض ارتداء الجوارب الزرقاء، ظناً منه أن جورباً أزرق كبيراً قد التهم والدي حقاً، واختفى أثره بعدها!.