صدرتْ قصة الأَفعى الحمراء سنة 2019 عن دار نون، مؤسسة ناهد الشوا الثقافيّة، للكاتبة الفلسطينيّة ميس داغر، ورسمَ رسوماتها عمر لافي، تدور أحداث القصة التي تقعُ في 107 صفحة من القطعِ الكبير حول آدم، طفل لاجئ، يعيش مع أسرته في خيمة داخل مُخيم اللاجئين، الّذي يقعُ بدورهِ جوار نهر عِملاق، يُسمى « النهر الأحمر» والّذي يسود اعتقاد حوله، بأنهُ يخطِف الناسَ والشجرَ والحجر وكذلك الأحلام، يَقضى آدم أوقات فَراغه في بناءِ مجسماتٍ من الطين وقطعِ الكرتون على هيئة بيت، ظلَّ الموضوع بمثابةِ مجال لتسلية آدم ، إلى أن أعلنت المدرسة التي يدرسُ فيها، عن مسابقةٍ فنيّة، يتشجعُ آدم للمشاركة، ويستعد لها، تتصاعدُ أحداث القصة، وتتأزم إلى أن تصل القصة إلى نهايتها بمشاركتهُ في المسابقة، حيثُ يشارك الحيُّ بأكمله في انجاز عملهُ الفني.
الحدث المركزي، الشخصية المركزية، الزمان والمكان في القصة
في النظرِ إلى البُنيّةِ الفنيّة للقصة، والتي هي بُنيّة قصصيّة كلاسيكيّة، حيثُ تبدأ القصة بمجموعةٍ من الأحداث التي تسيرُ وفقَ تراتبيّة منطقيّة تُفضِي إلى نتائج مُتوقعة، دونَ وجودِ قفزاتٍ غيرَ منطقيّة أو نقلاتٍ غيرَ مُتوقعة في تراتبيّة بناءِ الأحداث، نجدُ للوهلة الأولى أن الحدثَ المَركزي في القصة، هو حدث المسابقة الفنيّة، ومشاركة آدم فيها، بناءً على هذا الحدث تسوقُ الكاتبة الأحداث الفرعيّة أو الثانويّة وتبدأ عملية بناء القصة، من وجودِ الموهبة المُتمثلة في بناءِ مُجسماتِ البيوت من الطينِ وقطعِ الكرتون، وكوّن هذه الموهبة هي مركز الفعل الأساسي الّذي يقوم به آدم _الشخصية المركزية في النص_ ثم وجود فكرة المسابقة، والرغبة في المشاركة فيها وتتابع الأحداث التي تتأزمُ لخلقِ عراقيل تحولُ دونَ مشاركة آدم في المسابقة، ثم انفراج الأحداث وصولاً إلى حدث مشاركتَهُ ومساعدة أهالي المخيم له.
يبدو الحدثُ حدثاً مركزياً بالنظرِ إلى البناء التقليدي للقصة، لكن إذا أمعنّا النظر، نجدُّ حدث وجود النهر الأحمر، وحضوره في الفضاء الدلالي للنص، بالإضافةِ إلى الفضاء البصري أيضًا وارتباطه بعنوان القصة، « الأفعى الحمراء» يُشكِّلُ حجر الزاوية في بناءِ فكرةِ القصةِ نفسها، وجود النهر الأحمر والاعتقاد السائد حوله، مثل التخوفات من كونه مصدر خطف الناس وقتل أحلامهم، والشكوك لدى آدم حول حقيقة ذلك، ثم التحقق من هذا الاعتقاد، والارتباط بينَ اليقين حول حقيقية النهر وما يُشاع حوله من اعتقادات، وانفراج الأحداث وصولًا إلى نهاية القصة.
وبالنظرِ أيضًا إلى حضور النهر على شَكل أفعى في مجالِ الرؤية وكثافة استخدام الّلون الأحمر، حتي في المشاهد التي يغيبُ عنها وجودهُ بالصورة المباشرة، واستخدامه في كتابة عنوان القصة الأساسي وعناوين الفصولِ الفرعيّة، ثم المستوى الدلالي وما يمكن استبصاره من دلالة النهر، والّذي هو في القصة يسيرُ باتجاه الحرب، التي تُفضي إلى الشعور بانعدام ِالحرية، سواء على صعيد الحركة أو التنقل أو الممارسة، ما يَنتجُ عنها من معاناة، قتل، تشريد، لجوء ومخيم لاجئين، الّذي هو مسرح الأحداث كلّها في القصة، ثم الاسم «الأفعى الحمراء» الأفعى قاتلة وسامة، كما هي الحرب قاتلة، حمراء، لما يرتبط بصرياً بمشهد القتل من رؤية الدماء، كلّ هذه المؤشرات تشيرُ إلى أن حدثَ وجود النهر الأحمر في القصة يَنبغي أن يُشكِلَ حدثًا جوهريًا ومركزيًا، ولو أننا افترضنا عدم وجوده في القصة، لفقدت القصة جزءاً عظيمًا من حيويتها، ودلالاتها المعرفيّة، على الرغم من أنها ستبقى مُكتملة من حيث بنائها الفني، لكن هذا الاكتمال الفني لن يُعطي القصة، قيمة خاصة، وتفرّد، ما يُعزز ذلك أنه من الممكن أن نقوم باستبدال حدث المسابقة الفنيّة، بحدثٍ أخر، ليكن مثلاً لعبة كرة قدم بين آدم و أطفال المخيم أو المخيمات الأخرى، ووجود عراقيل تحول دون تنفيذها، وارتباط ذلك بالنهر الأحمر والاعتقاد السائد حوله.
أما فيما يتعلّق بالزمان والمكان، أجد أن هناك تشتتًا واخفاقًا في تقديم الزمان والمكان في القصة، بطريقةٍ تُمكننا من القول بدرجةٍ جيدةٍ من الارتياح أن مسرحَ الأحداث يدورُ في مخيمٍ للاجئين الفلسطينيين عقب حدث زمني معروف وهو نكبة العام 1948.
نجد الكاتبة تقدم مَلمَحًا تقليديًا لشكل المخيم، مجموعة من الخيم، وهذا يُشير ضمنيًا إلى الزمن، لكن أي زمن؟ هل هو مخيم من التي أُقيمت إيبان النكبة؟ أم أنه مخيم للاجئين السوريين المُهجرّين بفعلِ الحربِ الأهليّة السوريّة؟ ثم إذا كان مخيمًا للاجئين الفلسطينيين، لماذا تصف الكاتبة المخيمات بـ البلاستكيّة؟ على الرغم من أن خيامَ لجوءِ النكبة، كانت مصنوعةً من القماش؟ أم أنها تشيرُ إلى مخيماتِ اللجوء الجديدة؟ التي من الممكن أن تكونَ مصنوعة من البلاستك على غرارِ خيام تخيم الرحلات؟ ثم في مجال البحث عن سؤالِ الزمان في القصة، نطرح أيضًا سؤالًا فيما إذا كانت حركة التعليم في الفترة القليلة بعد حدوث النكبة، حركة التعليم التي بدأت فعليًا في العام 1950 أي بعد حدوث النكبة بعامين، كانت مهتمة بطرحِ مسابقاتٍ فنيّةٍ بهذا الشكل؟ أم أنها كانت تهتم بتقديم الحد الأدنى من المعارف الأساسيّة، مبادئ الحساب وأساسيات القراءة والكتابة، ثم أيضًا وجود النهر إلى جوارِ المخيم، هل كانت الكاتبة تشيرُ إلى مخيمٍ بعينهِ قريب من نهر؟ أو بحيرة، مثًلا مخيم نهر البارد؟ أم أنها مجرّد مصادفة فنية؟ وفي دائرة البحث عن المكان، وإذا استطعنا الجزم، نستطيع سريعاً أن نحدد بالتقريب الفترة الزمنيّة.
الزمانُ والمكانُ قرينان فيما يتعلّق بسيرةِ المخيمات؛ لأنهما ببساطةٍ نتاج لأحداث تاريخيّة مفصليّة، يصرخُ فيها الزمان بوضوح، ثم استخدام الكاتبة لكلمة وكالة غوث اللاجئين، يشيرُ أيضًا ضمنيًا أن مسرحَ الأحداث في القصة هو ساحة اللجوء الفلسطينيّة، إلا أنها تتعارضُ مع الاستنتاجات السابقة؛ لذلك أقول إن الإشارات فيما يخص الزمان والمكان في القصة ظلّتْ مشوشة ومرتبكة.
ومن المهم القول: إن فتح دائرة الزمان والمكان في القصة، تساعدُ بصورةٍ أساسيّة في قراءةِ موضوعات القصة، وطرق المعالجة لهذه الموضوعات، فعلى الرغم من أن حالةَ اللجوء من حيثُ كونها حالة معاشة تبدو واحدة؛ إلا أن اللجوء الفلسطيني من حيث حكايته مختلف تمامًا عن حكاية اللجوء السوري، كيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وما ترتب عليه؟ وفي أي وقت حدث؟ كلُّ هذا مختلف، ومن المفترض أن تترك كل هذه الاختلافات انعكاساتها على طريقةِ معالجة الموضوعات في القصة، فطريقة تناول موضوع اللجوء السوري وسياق الحرية فيه، من المتوقع أن تكون مختلفةً عن طريقةِ تناول موضوع اللجوء الفلسطيني، لكن هل حدث ذلك؟
المعالجة الموضوعية لقضايا الحرية داخل القصة
بالنظرِ إلى الموضوع، أو موضوعات القصة، نجد أن النص الّذي بين أيدينا، يُقُدم موضوع الحرب، فالحرب هي قضية القصة الأساسيّة إن صحَ التعبير، الحرب هي المُحرك الجوهري والّذي منه تَولّدت موضوعات القصة الأخرى، من الحرب حضرَ موضوع المخيم، وموضوع اللجوء وفقدان المنزل، وخطف الأحلام كذلك، وكلّها قضايا تتعلّق بالحرية بصورةٍ جوهريّة، ووفقاً لتراتبيّة تعليليّة تؤشر دائماً إلى أن الحرب المُحرك الأساس لفقدان الحريات تباعاً، الحريات الجماعيّة والتي هي بطبيعةِ الحال مجموع لفقدانِ الحريّة الفرديّة، لكن كيف كانت معالجة قضية الحرب؟ أعتقد أنه من السهل على القارئ، أن يرى الحرب في الفضاء الدلالي لعنوان القصة، الأفعى الحمراء، وارتباطه بالموت القرين الأول للحرب، هذا النهر الخاطف للأحلام والأماكن والأشجار، الجاثم في القرية والمُحاط بالمخاوفِ والقلق، يحضرُ النهر الأحمر بوضوح في الدلالةِ الرمزيّة للحرب، لكن وعلى الرغم من مساحة يقين هذه الدلالة في مناطق مُختلفة من النص، نجد أن الكاتبة تجعل منه محل شك الشخصيّة المركزيّة في العمل، فالنهر الأحمر الّذي خطف والد آدم ، هو ذاته النهر الذي يُساور آدم الشك حولَ حقيقة كونه يخطف الأحلام والناس والشجر، بمعنى أخر تطرح الكاتبة في هذا السياق تساؤلاً حول حقيقة مصادرة الحرب للحرية بمفهومها الواسع، الحرية التي هي الحق في ممارسة الفعل وامتلاك القدرة على الاختيار والتي تَحولُ الحربُ بصورةٍ بشعة دون تحقيقها، وهنا يّحِقُ لنا أن نسأل: كيف قدمت الكاتبة الحقيقة متمثلةً في الوجود الطاغي للنهر الأحمر؟ الّذي هو الحرب في القصة، ثم جعلت من هذه الحرب محلَّ شك آدم؟ أم أنها كانت تريد أن تقول شيء آخر؟ كأن تقول: أن آدم يُشكِّلُ فعل المواجهة لهاجس الحرب، المُخيفة، القاتلة، أنه صوت الشك الّذي يَعنِي ضمنًا لهذا الفهم، صوت مقاومة فكرة الخوف من «بعبع» الحرب وهو بذلك تجسيد للحرية، وحين تكون الحرب هي الحاجب لكل الممارسات الطبيعيّة والمُقيّد لفعل الحركة الحرّة لسكانِ المُخيم الّذين يعتقدون أنه لا جدوى من ممارسة أي فعل؛ لأن النهر الأحمر/ الحرب، سوف يلّتهم كلَّ شيء وهو ذاته المُحرك وراء قولهم لآدم أثناء مشاهدتِهم له وهو يبني البيت أنه لا فائدة من ذلك، بمعنى أنه لا فائدة من النضال لأجل الحصول على الحرية؛ لأن النهر الأحمر سيلتهم كلَّ شيء، إلا أننا لا نستطيع أن نكونَ مُطمئنين لهذا الافتراض إذا نظرنا إلى كيفية تقديم النص لحدث المواجهة بينَ آدم والنهر الأحمر، بين الحقيقة والشك، بينَ المقاومة والحرب، حيث يَظهرُ آدم مُترددًا ومُتعثر الخطى ومُحاط بالمخاوف ويَود لو أن يرجع لولا تلك القوة الغامضة التي تدفعه تباعاً باتجاه أن يستمر في السير نحوَ النهر، أي بالسيِر نحوَ الحرب والنضال لأجل الحرية، ثم يبدأ يطرح سؤال «إلى متى يبتلع هذا العملاق كل الأحلام الجميلة؟» ثم تظهر الحمامة بصورة مُفاجئة؛ لتنهى كلَّ شيء دونَ حدث مواجهة حقيقي.
بالعودة إلى بدايات القصة وتتابع الأحداث، كانَ من المُتوقع أن نكون أمامَ مشهدًا حقيقيًا لمواجهةٍ أكثر قوة ووضوح مع النهر، لعراك بالأيدي والأسنان _إن صحَّ التعبير_؛ لأننا من المفترض أن نكون أمام لحظة الحقيقة، التي لا مُتسع فيها للمراوغة وأنصاف الحلول والالتفاتات، إلا أن الكاتبة لم تفعل ذلك وتركت الحدث الّذي من المُتوقع أن يكون عقدة القصة الحقيقيّة، فارغاً من الحقيقة.
يقول آدم في التعليق على ما حدث في مواجهة النهر الأحمر:» حدث الأمر كأنه معجزة» واستخدام مفردة معجزة في هذا السياق، يُقدم حلاً سحريًا، في واقع لا يوجد فيه حلول سحريّة، أو مُخلصين خارقين يُمكنهم تجاوز كل هذه المحددات، هذه المعالجة لموضوع الحرب، شكلّت بالنسبة لي وبناءً على ما تقدم اخفاقاً حقيقيًا في جوهر العمل، وترك بطبيعة الحال ظلالًا على الموضوعات الأخرى في القصة، لننظر كيف صارَ تتابع الأحداث بعد ذلك، تركت الكاتبة حدث المواجهة فارغًا، ثم وبصورةٍ مفاجئة ينتقل آدم إلى المخيم؛ ليرى أهالي المخيم يقومون بالمساعدة والتشارك في بناءِ مُجسمات البيوت، ويستمر سير الأحداث إلى أن تنتهي القصة.
تُقدم مجموعة الأحداث المُتعلّقة ببناء البيوت بصورةٍ تشاركيّة بينَ الجيران معالجةً لموضوع فقدان البيت، من خلال استدعاء الذاكرة، ذاكرة الناس وحنينهم إلى بيوتِهم التي هدمتها الحرب، ليس فقط إلى البيوت بل إلى الحيّ بأكمله. حديثٌ مشترك وذكريات مشتركة يحضر فيها موضوع الهجرة، فقدان المنزل، الّذي يعني ضمن ما يعني فقدان ذاكرة المنزل أيضاً، التي هي ذاكرة الحيّ والتي هي بطبيعة الحال الذاكرة الجمعيّة، لكن هذه المعالجة قفزتْ عن فعل الحرب (النهر الأحمر) والفراغ الموجود في المواجهة، معالجة تركت الحدث الأبرز والمُسبب الأساسي لكل ما حدث جانباً، وبدأت في استدعاء الذاكرة؛ للهروب من سطوةِ الواقع وجبروته متمثلاً في النهر الأحمر، الأفعى التي تلّتهم في جوفها كل شيء.
إذن تم استدعاء الذاكرة، في هذا السياق؛ لتحاوز الواقع، للهروب _إن صح التعبير_ وليس لتدعيم فكرة المواجهة التي تُركت فارغة إلا من الحل السحري والمفاجئ، لكن هل كانت هذه المعالجة موفقة أم لا؟ هل آثرت الكاتبة الانحياز للأمل، الأمل الّذي يمكن لنا خلّقه، تقويتَهُ والركض خلفَهُ؟ وهل نحن نحتاج إلى مثل هذا النوع من الأمل؟ الحقيقة أننا نحتاج إلى الأمل، نحن «محكومون بالأمل» كما يقول سعد الله ونوس، وسط كل هذه الخيارات السيئة، كل هذا الظلام المخيم والمنتشر، الانحياز إلى الأمل أهم شكل من أشكال المقاومة، لكن الأمل الّذي من المفترض أن يفضي إلى المواجهة، إلى مناطق العراك، ليس فقط الأمل الّذي يفضي إلى المساحات الرحبة والآمنة.