مع بداية جائحة الكورونا، ومع إعلان الإغلاقات، فرغت المدينة لأول مرة. أغلقت المحلات والمقاهي، توقفت الأشغال، هجرت المدارس، واختفى الناس والسيارات. وبينما فرغت المدينة منا، نحن البشر، بدأت قوة أخرى تسري في المكان. كنا نشعر بها بالطريقة التي تتمدد فيها النباتات، وبالطريقة التي غمر فيها الضوء درجات الحديقة، بالعشب الذي نما على جانبي الطريق. كنت أخرج يومياً لأمشي، أقطع شارع الطيرة الرئيسي جيئة وذهاباً. أحياناً حين أصل كازية الهدى، حيث تطل من هناك على التلال من بعيد وتبدو السماء واسعة، كنت أقف في الشارع مأخوذة بالريح وهي تعبر الأشجار. كل مرة تحرك أوراق الأشجار، وفي كل مرة تتحرك الأوراق بطريقة مختلفة قليلاً.
في المنزل كنت أتابع برعب أخبار انتشار الفايروس. كنا نشتري الكمامات والمعقمات. نتفحص كل يوم موقع كورونا العالمي، بينما نتابع بجزع أعداد الوفيات وهي تزداد في الولايات المتحدة وفي إيطاليا. نقرأ المقالات التي تتحدث عن فشل الأنظمة التي سمحت لهذا الفايروس بالانتشار، وعن التأخر في الإعلان عن خطره. ثم نشعر بالغضب اتجاه الاحتلال الذي لم يتوقف لثانية عن عنفه في لحظة كهذه. كنا ننتظر الموجز المسائي من قبل لجنة الوباء بشكل يومي. ونستمع لها ونحن نعلم أن الجميع في فلسطين يستمع لها في الوقت نفسه. كانت الفترة بدايات الربيع، وكان العالم يتفجر أمامنا بالخضرة والألوان، وكنا للمرة الأولى نشعر بأننا على باب شيء لا نعرف ما هو.
لقد جاءت هذه اللحظة بآلام كثيرة، فهي كشفت بصورة لا يمكن إخفاؤها عن فشل الأنظمة السياسية والصحية التي وضعت الاقتصاد فوق البشر وحيواتهم. أظهرت قسوة هذا العالم وبطش هذا النظام الذي يضحي بالمهمشين والضعفاء والفقراء، ويستمر بحماية الأغنياء والأقوياء. كما فتح الوباء الباب لأسئلة كبيرة وصراعات سياسية ضخمة كانت تختمر على مدى عقود طويلة. من أين نبدأ؟ لطالما شكل هذا السؤال عقبة أمام الكتابة واعترافاً في الوقت نفسه بتعقيد القضايا، إضافة إلى استحالة الحديث عن قضية دون الحديث عن أخرى. فوق كل ذلك، لم يعد هناك طارئ واحد يلح علينا، كل القضايا طارئة ومستعجلة وتتوقف عليها حيوات الكثيرين. ولهذا، حين وجهت الدعوة لأصدقاء وكتاب للمشاركة في هذا العدد من مجلة 28، لم أكن متأكدة من طبيعة الدعوة. عاد سؤال «من أين نبدأ» مجدداً يشعرني باستحالة الكتابة عن قضية دون أن تغفل عن أخرى، ولهذا حين أرسلت الدعوة، كانت دعوة مبهمة، كما لو أنني أحاول أن أسألهم لا «من أين نبدأ؟» فحسب، بل «كيف نبدأ؟» أو هل من الضروري أن نبدأ؟ وهل يمكن للكتابة أن تحكي شيئاً؟
حين بدأت النصوص تصلني، شعرت بأنني أجد جواباً عن هذا السؤال. لم يكن جواباً دقيقاً وواضحاً، بل كان فقط تأكيداً على ضرورة الكتابة، وأنها بحد ذاتها، كفعل، هي طريقة لأن ننظر وأن نلح وأن نؤكد على أن الطارئ ليس بالضرورة ما نعتقد أنه هو.
هناك جمال وسحر معين لن ننتبه له في هذا العالم دون أن نقر بأنه مكان غامض وشاسع ومجهول. وأننا في الحقيقة، لا نزال لا نعرف عنه شيئاً. هذه حقيقة نتناساها في غمرة انشغالنا بمتطلبات الحياة البراغماتية: العمل، الأطفال، مسؤولياتنا اتجاه عائلاتنا وأصدقائنا، اتجاه مجتمعنا ومدننا. ولكن كما أننا موجودون لنبحث عن الطرق التي نعيش فيها على هذه الأرض، وكما أننا موجودون لنزرع ونخترع ونبني، فنحن، أيضاً، موجودون لنتساءل عن الطريقة التي نعيش بها؛ عن الحياة بمعناها الفلسفي والشعري: لماذا نحب؟ ولماذا نكره؟ لماذا تهزنا التلال؟ ولماذا تمتعنا الصداقات؟ لماذا نحارب؟ ولماذا نخسر؟ ما هو العالم الذي نحلم به؟
النصوص التي كتبت لهذا العدد من مجلة 28، تأتي من هناك. من عالم بدا -للحظات على ما هو عليه-أحجية. وهناك ضرورة شعرية وسياسية للنظر إلى العالم كأحجية. لا لنتذكر أننا جزء من هذا الكون، بل لأنه من الصعب أن تشعر بالممكن دون الانتباه للعالم كمكان قادر على أن يظل يفتننا. إن الممكن بمعناه السياسي والثوري، حي في عالم لا يزال قيد التشكل، أي في عالم يطمح لأن يكون صورة أفضل عن نفسه. العالم يحتاج إلى الخيال، ويحتاج إلى الحالمين الذين يؤمنون بأنه من الممكن أن نغير العالم. بدون الإيمان بالممكن، لا يمكن لأي شيء أن يحصل، لا يمكن أن نحب، وأن نصنع الفن، وأن نكتب الروايات، وأن نخترع. في النهاية، نحن لا نملك سوى هذا العالم، ولا نعرف شيئاً عن هذا الكون الواسع سوى هذا العالم، وكل ما نراه حولنا هو الشكل الوحيد الذي نعرفه من خلاله.
لا يستطيع أحد منا أن ينكر، أنه للحظات، وبخاصة مع بداية الجائحة، سرى في العالم أمل صغير. أمل بأننا قد نخرج من هذه الأزمة نحو عالم أفضل، يختلف بشكل راديكالي عن العالم الذي كان قبلاً. صحيح أن الأمل يتضاءل الآن، مع تيقننا بأن سطوة النظام الرأسمالي تزداد توحشاً. إلا أنه كان من الممتع أن نعيش تلك الحالة للحظات: لحظات الانتظار والتساؤل عن طبيعة القادم، وفوق ذلك، لحظات من إيمان حقيقي بأن ذلك ممكن. وظهر ذلك الأمل على شكل بعض الحركات الاجتماعية والسياسية في العالم مثل حركة «حياة السود مهمة» في الولايات المتحدة. إذا كان للأمل دائماً مكان في هذا العالم، فإن الكتابة هي فيزياء هذا الأمل، تظهره لنا على أشكال مختلفة، تارة يلمع، وتارة متبخراً، وتارة متمزقاً.
تخبرنا هذه النصوص أنه لا يمكن أن نعيد تصور العالم دون أن نعيد تصور الطريقة التي نتخيل ونعيش ونحب ونصادق. وأننا نملك الخيار لأن نعيش كآلات أو نعيش كبشر، أي كائنات تتنفس وتحب وتصادق وتتألم وتحن وتحلم بالهرب. إضافة إلى ذلك، تقول تلك النصوص حقيقة مهمة: إنه في هذا العالم الغريب، من أكثر الأشياء راديكالية هي فعلاً أن تحب. ليس بالمعنى العاطفي للكلمة، بس بالمعنى الكلي أو الفلسفي.
جميعنا نشعر بذلك العبء، عبء أن نكتب من أمكنة وعن أمكنة تتعرض للمحو بالمعنى الحرفي للكلمة، كيف نكتب في مواجهة القتل؟ كيف تكتب في مواجهة الإعدام والمحو والتشريد؟ كيف تكتب في مواجهة وباء عالمي؟ إن هذا موقع صعب ومؤلم للكتابة، نحن نعرف هذا ككتاب فلسطينيين، بأننا في مواجهة الطارئ الكبير نخجل من الحديث عن الطوارئ الصغيرة، وفي مواجهة الألم الكبير لا نعرف كيف نشير إلى الجروح الصغيرة، ولكن ربما الأدب هو المكان الذي يذكرنا بأن الحياة تحدث بكل تفاصيلها، من السياسي إلى الهامشي، من النجاة من القتل إلى التململ من غياب مصفّات السيارات، وأن الهدية الحقيقية التي يقدمها لنا الأدب: هو الدخول إلى عالم آخر. وما يجعله دوماً عالماً آخرَ، ليس أن الأحداث تقع في مدن أخرى مثل القدس أو كنشاسا أو بكين أو بغداد، بل لأن هذا العالم الآخر هو العالم الداخلي للشخصيات، والمنظور الذي ترى منه العالم الخارجي وتصفه.
تثير هذه النصوص فضولنا، وتجعلنا نتساءل عن الحيوات التي تتناولها النصوص. إن الأدب هو الخريطة التي تمنحنا فكرة عن معنى وطرق العيش في هذا العالم: العالم المليء بالتقييدات والأحكام والهويات المخترعة والقوانين والتشريعات، والعالم نفسه الذي يتدفق ويتحرك ويصر ويحدث غير مبالٍ بكل القوانين من حوله. وأحياناً ما نريد أن نقوله عن العالم يأتي من الذهاب في الطريق الأخرى، بعيداً عنه، نحو عالمنا الداخلي، ورؤيتنا المنفردة للعالم والأشياء والوصف المادي والميكانيكي للأحداث والأيام. أليس هذا هدية الأدب: التفاصيل.
يمنحنا الأدب الفرصة للدخول إلى عقل شخص آخر. هل هناك هدية أجمل من ذلك؟ وهذه النصوص هي دهاليز العوالم الداخلية وأدمغة أشخاص عايشوا لحظة استثنائية في هذا العالم، وصنعوا داخل العزلة التي فرضت علينا، عزلة أخرى: أكثر رحابة، عزلة تتطلع نحو العالم، عزلة مشرعة أمام الآخرين، تلوح لهم دائماً كأنها تقول: تعال تجول، تعال وجرب أن تكون شخصاً آخرَ.