مقدمة في فرادةِ الفن على الثقافة
إنها مقدمة في النظرِ إلى الفنِ بصلتِهِ بذاتِهِ وبالثقافة في السياقين التاريخي والمُعاش، أي بصلتِهِ بالفاعل _الإنسان_ والصيرورة معًا، وبكونه إطارًا مفصليًا، يصل ويفصل، يصل نفسَهُ بالعالم وبذاتِه وبالثقافة، يصل البشر المنقطعين بأنفسهم وبثقافتِهم التي تَدعي سرمديتها واستمرارها.
الفن يخترقُ الثقافة المنقطعة ويوصلها بالإنسان كفرد، بوصفِه كائنًا ثقافيًا وبوصفهِ فاعلاً للثقافة وليس نتيجةً لها، «الثّقافة هي ما فعله الآخرون بي، أمّا الفنّ فما أفعله أنا بالآخرين[1]»، فالفن طبقًا لهذه المقولة المقتبسة هو ما يَمنحُ للثقافة أبعادها، بعدها التاريخي الحي، والنقدي، والدينامي _التجددي الإبداعي_؛ لأن الفن يقابل الفردي في الاجتماعي، والتراجيدي في العادي، والخيالي في الواقعي، الفن هو الاختراق والعبور واكتشاف الجديد عبر تسريبه وتهريبه من الحلم والخيال إلى الواقع، الفن يخلقُ استمراريّة الثقافة التي يَخترقُها.
فالفن قاطعٌ للثقافة ومفككٌ لفكرة قابليتها للانتقال المستمر من مرحلةٍ تاريخيّةٍ إلى أخرى، وممن اكتشفوها إلى من عليهم تعلّمها وقبولها واحترامها أو الخضوع لها، من مُنطلق مطلقية الثقافة وصوابها وقابليتها للاستمرار والانتقال دونَ مراعاةِ لشروط تكوّنها وسياقات انتاجها الاجتماعيّة والتاريخيّة.
فالفنُ ضمن هذا الفهم يقطعُ الثقافة؛ ليوصلها، الثقافة تعجزُ عن تحقيقِ الاستمراريّة التي تدعيها، تلك الاستمراريّة المدعاة التي أظهرت الثقافة على شكل مقولة جاهزة بدل من حضورها كصيرورة متجاورة ومتشارطة مع حركة المجتمع ومساره كتجسيد للمحتوى التعددي للتجربة المُعاشة ولشكل التعبير عنها.
والفن يدخل الثقافة وينقلها من الصيغة الجاهزة، أو النموذج الضامن للمجتمع إلى الثقافة بوصفها سياقًا؛ لنقد الخبرة وتفكيك العلاقات وإعادة انتاجها، ويقلب الدور الاجتماعي للناس من ناقل للثقافة إلى مفكك لمقولاتها وبانٍ لسيرورتها، فقد تميز الفن بوصفه الكاسر لحلقة ثبات النموذج.
الفن حفّار الثقافة، المعنى الّذي تعبّر عنه الاستعارة التي تشبهه (بالخلد) يفتح ممرات في الثقافة والمجتمع، ممرات للتغيير والتجديد وتهريب الخاص والحميمي والعنيف والمدهش والمُحرّم. عبر خروج الفنان من غمدِ انعزاله وتحرره مما يحجبه عن إنسانيته، فالفن مُفعّل حرّ وتحرري مرهون بفنان يبني عبر فنه محتواه الإنساني ويعبرّ عنه، وهذا الشرط _شرط استعادة الفنان لمحتواه الإنساني_ هو شرط ضروري لاستعادة الفن موقِعَهُ ودورهُ كما يقترح جورج أغامبين، الفن يحققُ ذاتَهُ وامكانيته في استعادة محتواه التحرري والإنساني عبر قدرتَهُ على تحريرِ الفنان نفسه؛ لأن حضور الفنان كإنسان فاعل يتعالق مع استعادة الفن لمحتواه بالمعنى الانتاجي وليس بمعنى التلقي فقط، أي الفن بوصفِهِ لحظة خلق، وخبرة انتاج وصيغة ارتباط بين الإنسان والعالم[2].
تعمل هذه المقالة على الجمعِ بينَ التبصّر في الفن كمحتوى إنساني وبين التفكير في دورهِ ِكحافزٍ تَحرري موقفي وموقعي، استناداً لأطروحة تدعو لاستعادة الإنسان للفن كخبرة حياتيّة انتاجيّة؛ ليستعيد محتواه الإنساني، فالإنسانية في طورِ تحققها كمحتوى للكائن الّذي صار انسانًا اعتمدت على الفن كسياق وسيرورة، فالإنسان هو الكائن وفنه معًا.
وقد استندت المقالة في استكشاف مقولتها على النظر في قصص أدبية عالميّة تناولت الفن كإشكالية[3]، وتحليل لوحات وأعمال فنيّة محليةّ وعالميّة مثلّت أعمالاً مفصليّة في سياقها التاريخي[4]، تمت مقاربتها؛ لاستكشاف مفهوم الفن وإشكالياته وتحولاته الدلاليّة والتجسيديّة في ضوء مقولات وتوجهات الفلسفيّة الحديثة.
الفن في مواجهة سؤال العمق
من العلاقة التشابكية بين الأدب والفن، فكما يُقال الأدبَ عميقٌ؛ لأنه يعترف أن الفنَ أكثر منه عمقًا وتأثيرًا، فقد شكّلَ الأدبُ نَفسَهُ فرصةً وسياقًا لمناقشِةِ الفن وعرض اشكالياتِهِ في كلِّ عصر، في قصة هوس العمق للكاتب باتريك زوسكيند، حاولَ عرض مفهوم الفن واشكاليته المعاصرة عبرَ طرح قصة فنانة أبدعت مجموعة من الأعمال الفنية واللوحات؛ وصولًا لتنظيمها في معرض، معرض لاقى قبولًا منَ الجمهور، لكن ثمة ناقد فني كتبَ في صحيفةٍ مشهورة: إنها فنانة لديها موهبة ولكن ينقِصُها العمق، هنا بدأت أزمة الفنانة تتعمّقُ كلّما تردد على مسمعها «أن فنها يفتقر للعمق»[5]، ما دفعها للانعزال والبدء في عملية بحث حول معنى العمق، العمق الّذي تحتاجَهُ لفنها، وأخذت تبحث عنه في المتاحف، وفي إجابات المُحللين الفنيين والنُقّاد وقيمي المعارض، أو في الكتب التي يُقال عنها أنها الأكثر تعقيدًا وعمقًا، وعندما لم تجد أجوبةً أو حلولًا، توغلّتْ في عزلتِها وتوقفت عن مزاولة الخربشات واللوحات التي أصبحت تبدو لها فاقدة للعمق، ذلك الهوس الّذي أوصلها للحظة الانتحار، اللحظة التي رأى فيها الناقد صاحب مقترح العمق الفني المفقود، أنها أخيرًا حققت عمقها في التحامها مع موتها التراجيدي.
هنا ينفتح النقاش حول معنى العمق، العمق الّذي يتحققُ عبرَ البحثِ الفرديّ والولوجِ في المعاناة، أو العمق الّذي يعني التوغل في العالم والتموقع فيه، فهل جاءت نهاية الفنانة الباحثة عن العمق، كنتيجة حتمية «لشخصٍ موهوب لم يجد القوة؛ ليؤكد ذاته على مسرح الحياة» هذا الطرح الذي يولد أسئلة عن علاقة الفن بالحضور الوجودي للإنسان على مسرح الحياة… حيث يتابع الكاتب «فلا يكفي أن يكون لديك القبول العام أو المبادرة عندما يكون الشخص معنيًا بمصاهرة العالم الإنساني» فهل يعني ذلك أن قدر الفنان مصاهرة العالم أو الغياب فيه؟ حيث يتابع النص «يبدو أن بذرة النهاية كانت موجودة من زمن بعيد. في ذلك التنافر المُخيف في استخدامها لأساليب مختلفة، ذلك الاعتلال العقلي المُركِز على فكرةٍ واحدة والموجه نحو الذات، ذلك التمرّد الباطني المتأجج والّذي يحفر داخلها على نحو حلزوني _ تمرّد الإنسان على وجوده في أعمالها التي تبدو ساذجة؟ هوس العمق، تلك الرغبة الطائشة القاتلة؟[6]
وفي استكمال الأسئلة وتوالدها يندفع سؤال: هل يتحققُ عمقُ الفن بتمرّدِ الفنان على وجودِهِ لدرجة تدميره؟ وهل يتحققُ عمق الفن في المعاناة الفرديّة للفنان؟ أم يُمكن للفن أن يخلق معاناتِه عبر بحثه وسعيه لالتقاط المُمكن والمُطلق في الطارئ والعابر؟
أن النص يطرح الأسئلة أكثر مما يبحث عن الأجوبة؛ لأن الأسئلة نفسها ملّغمة بأسئلةٍ أخرى في داخلها، أسئلة لا تهدف للبحث عن أجوبة بقدر ما تفكك نفسها كأسئلة، حيث في سؤال ما عمق الفن؟ تتجلى أسئلة أخرى ما هو العمق؟ وهل للأشياء عمق أم أن سطحها هو عمقها؟ وما هو العمق الّذي على الفن أن يجده لكي يحقق غايته؟ أهو عمق التأثير والجذب الوجداني أم عمق المعنى والمفهوم؟ أم عمق الاشتباك مع قضايا الحياة ومع المحرّم والممنوع فيها؟
أن النص السابق يعرضُ جزءًا من معضلةِ الفن في العصرِ الحاضر، المعضلة الكامنة ليس فقط في سؤال ما هو الفن؟ وكيف يحقق عمقه أو معناه؟ بل أن المعضلة تتلّخصُ من الجهة الأخرى في التساؤل، عن الجهة التي تملك شرعيّة وقوة؛ كي تقرر أو تشرعن ما هو الفن؟ وما هي الأعمال الفنيّة من التي ليست أعمالًا فنيّة؟ وما هي الأسس والمعايير التي على أساسها يتميزُ الفن من غير الفن، أيّ من السِلع والأدوات والأعمال الحرفيّة؟
ثمة نظريات مُتعددة في الإجابة على سؤال ما هو الفن؟ يمكن إيجازها في ثلاثِ نظريات كُبرى: النظرية الجماليّة والنظريّة التأويليّة والنظرية المؤسَّسِية[7]، ولكن لنؤجل الخوض فيها للبقاء في القصة وما فيها من اسئلة، حيثُ ثمة سؤال كبير ينبثق من النص والتجربة الممثَّلة فيه، سؤال حول علاقة حياة الفن وحياة الفنان، وهل جاء موت الفنانة كنتيجةٍ تراجيديّة لهوسها بالعمق المفقود في فنها؟ وهل كان من الضروري أن تبحثَ في الموتِ كطريقٍة؛ لتحقيقِ العمق في الفن؟ أم أن موتَها كانَ نتيجةً لبحثِها عن عمق الفن خارج عملية انتاجه، وخارج حياتها بدلَ أن يكون الفن جزءًا من الحياة كعمليةٍ للكشف عن الخاص والعميق فيها، فحسب نيتشه «لنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة».
ذلك الخاص الّذي في تحوّلَهُ فنًا يخلقُ عُمقَهُ أولًا، عبر التقاطَهُ للجمعي والكوني في شَكلهِ الفردي والتخيلي، ويخلق تأثيره ثانيًا، عبر تمرير الخاص والخيالي في جسدِ الثقافة وموادها الخام.
وللسؤال نفسه وجهُ ثانٍ، ألا وهو سؤال الفن أو سؤال العلاقة بينَ انتاج الفن وبين المعاناة، وهل الفن هو نتاج للمعاناة؟، وهل هي معاناة شخصيّة ذاتيّة؟، معاناة الفنان الّذي يبحثُ عن عمق فنه في معاناتِه، ويجد هذا العمق في تصعيد المعاناة؛ لتصبح معاناة تراجيديّة، أم أن المعاناة هي معاناة انتاج الفن نفسه بوصفِهِ طريقة في مواجهة العالم؟، ما يجعل الفن ليس موت الفنان، بل هو بحث الفنان في ذاتِه وفي العالم وفي العلاقة بينهما، فالفن إذن ليس شيئًا خارج علاقة الإنسان والعالم، بل هو العلاقة نفسها وشكل تحققها كعمليةٍ انتاجيّة، علاقة/عملية تتشكّلَ ويُعاد تَشكّيلها في مواجهة الموت؛ للكشف عن الخالد فيه.
الفن بين سؤال التلقي ومسألة الخلق
منذُ بدءِ الحياة، كان الإنسان فنانًا، فنانٌ يرى العالم وظلاله في كهفِ أفلاطون، ويسعى ليس لفهمِهِ فقط، بل لإعادةِ تشكيله للعالم؛ ليكون بيتًا/مسكنًا، وهذا ما ينعكِسُ في أولِ النصوص التي ابدعها البشرُ؛ للتفكّر في الفن وفي ماهيته وهويته، عبر تَخيّلِ دور الفن وصلته بالإنسان الفنان، فقد قُدِمَ الفنانُ في أسطورة بجماليون، بصورةٍ مُتكاملة وهوية تكامليّة: كفنان، وانسان، عاشق، عاصٍ ومتمرّد، يختارُ أن يخلق بدل أن يَقبلَ بما خُلِقَ له، فهو يبحثُ عن المرأةِ التي تُجَسِّدُ الجمال، ليس كما هي في الطبيعة، بل الجمال القائم ليسَ على الشيء فقط، وإنما على الخيال أيضًا، ليس الجمالُ الّذي يعني التلقي، بل الجمال المرتبط بعملية الخلق والعشق.
فبجماليون، لم يجد المرأة التي يعشقها، لم يقدر على عشقِ الجمال القائم، فقرر أن يَصنعه، العشق ليس مرتبط بتلقي الجمال، بل هو قرين صنعه، وهذا ينقلنا إلى فهم الإنسان في ذاك العصر «الإنسان المنبثق من فطرته الإبداعيّة» الفترة التي سبقت الفلسفة والفن المؤسسين أيديولوجيًا، في تلك الفترة، فترة ابتداع المُخيلة لأسطورة بجماليون، فكر الإنسانُ في الفن وفي الجمال والعشق بدون مرجعيات مُمَأسسة في علمِ الجماليات أو النصوص الفلسفيّة المُتحكمة في الفكرِ والخيال.
جاءت أُطروحات الجمال والفن في أسطورة بجماليون تعبيرًا ليس عن التَفكّرِ بالفن عبر وسائط ايديولوجيّة، بل عبر المُعايشة المباشرة للفن ليس كاستقبال وتلقٍ؛ بل الفن كممارسةٍ للخيال تَدخلُ الإنسان فيعيدُ تشكيل العالم ضمن معايير الجمال والعشق والحاجة، إعادة تشكيل العالم حسب قانون الفنانين والأطفال، قانون أسبقية المعنى على المبنى، والخيال على الواقع، والحلم على الحقيقة.
وهذا ما هو واضح في اسطورة بجماليون، ف «بجماليون» خلق/ شكّل المرأة التمثال وقد وضعَ فيها كلَّ ما في داخله من رغبةٍ وتوَّقٍ وشوقٍ وخيال، رغبةٌ وتوق لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا حين يدخلُ للعالم ويتداخل فيه بنظرة إله، نظرة المُتدخل الخالق، ليس لغايةِ تغيير العالم فقط بل لغايةِ انتاج العالم الّذي يتمّكنُ فيه من انتاجِ نفسه أيضًا، عبر انتاج معنى عشقه ورغبته وحلمه وتجسيده على شكلِ خلق، فلا يُمكِنُ للإنسان أن يسكنَ إلا عالمًا من صنعه، فصناعة المعنى هي شرط إنسانيّة الفنان ومشروطية تحوّلِ العالم إلى بيت.
الفنُ في «قصة بجماليون» تَجَسَدَ على شكلِ تمثال، ليس خيالاً فقط، ولا هو المرأة، بل هما معًا، تمثال يُقدِمُ الفن عبر الخيال، وخيالُ يتجسّدُ عبرَ الفن كمنافسٍ للطبيعة وجمالِها من خلال قدرةِ الفن على خلق الحياة وإخفائها معًا، الفن يختفي بقوة الفن، الفن الّذي هو قوة تأمليّة كبرى في الطبيعة والعالم والإنسان نفسه.
فالفن جسَّدَ جسدَ الإنسان نفسه، حلمه، رغبته، توقه على شكلِ عملياتِ خلقٍ تتجسّدُ في العالم بأشكالٍ مرئيّة وملموسة، تعيدُ انتاج الطبيعة على شكلِ أعمالٍ فنيّةٍ تعكسُ ليس الطبيعة فقط، ولا إحساس الإنسان بها، بل تعكسهما معًا ليس كعلاقة خارجيّة، بل كعمليّةٍ ترى سحرية التواصليّة العميقة بين الإنسان والعالم تلك التواصليّة القائمة على تجاذب الاختلاف بينهما: الإنسان والعالم وطاقته الهائلة، ذلك الاختلاف الّذي لا يُمكن أن يعكسه إلا الفن، الفن الّذي يجمع المُجَسد والمُجرَّد في شكلهما المُطلق كاملًا، الفن الّذي يمكنه أن يُجَسّدَ على شكلِ جسدٍ كاملٍ وحيّ، أو على شكل إيقاعاتٍ صوتيّةٍ أو تدرجاتٍ لونيّةٍ أو حتى عبرَ الصمت أو العدم الكامل.
إذا نظرنا في قصة بجماليون كوثيقةٍ من الوثائق البشريّة الأولى؛ لتبصرِّ الإنسان بمعنى الفن ودوره، يتبدى لنا الفن ليس بوصفه انعكاسًا للعالم، بل تعبيرًا عن الرغبةِ في خلقِهِ وإعادة تشكيله والإضافِةِ له، بالتنافس مع الطبيعة في مجالي الخلق والجمال، الفنان في النص خلق» ببراعته المرأة / الجمال الّذي لم تقدر الطبيعة على خلقها» إذن اخترع البشر الفن؛ لتحقيق غايتي التنافس مع الطبيعة في مجال الخلق، والتنافس مع الذات في مجال التجاوز أي تحقيق التفوق على الطبيعة والذات معًا.
وكيف يكون الفن خالقًا ويتفوّق على الطبيعة في الخلق، الطبيعة خلقتْ المرأة الحيّة، في حين أن الفن خلقَ يخلقُ الحياة في امرأة (تمثال) ليست حيّة، وهنا سرّ الفن وقوته، فالمرأة التمثال « عذراء ولولا الخفر الّذي يمنعها لتحركت. فهي تملك الرغبة في الحركة أو التهيؤ للحركة ولكنها لا تتحرك، ما يجعلها تَعرض ليس الحركة في شكلِها الطبيعي، بل معنى الحركة[8] أو الاحساس بها، والتهيؤ لها.. وهذا ما أوحى له النص باختفاء الفن بقوةِ الفن نفسه، الفن خلق الحركة وخلق منعها معًا، فهي تملك القدرة على الحركة ولا تتحرك، تُظهِرُ الحركة ولا تفعلها، في الفن تجاورت الحركة والتوّقف، الرغبة والمنع، التبرّعم والثبات، ما جعلها ليست الحركة المألوفة وإنما الحركة كرغبة، كبزوغ، كتبرّعم، أي ما يمثله التمثال ليس حركة وإنما معنى الحركة والرغبة فيها، فهو ليس الجمال أو الحياة، بل معنى الحياة والرغبة في عيشها على شكلِ خلق.
ورغم أن الفنان عشِقَ التمثال وغُرِمَ به لدرجة أنه كانَ يتحدثُ معه، إلا أنه لم يجرؤ على الطلب من الآلهة أن تبثَ الحياةُ فيه، وإنما طلب أن تمنحه امرأة تشبهه، ما يعني أن البشر اخترعوا الفن ليس ليصبح الحياة بالمعنى الاستعمالي، بل ليشحنَها بفكرةِ الجمال والمعنى.
ليس على الفن أن يصيرَ واقعًا أو أن يصيرَ منفعة بالمعنى المُعاش، ليس على الفن أن يخلق ما هو حيًّا، بل أن يمزج خياله في مادة الحياة؛ ليُخَصِّبُها، أي أن يخلق ما يمكنه أن يُلّهمَ البشرُ بأشكالٍ تخيلية؛ لمقاربة واقعِهم والتدخل فيه، ويشحن حياتهم برغباتٍ وأحلامٍ تمَكِّنًهم من إعادة اشتراع العالم والقوانين فيه.
الفن ودوائر التجسيد والتأويل
هذا الفن تَمكّنَ من سَبرِ علاقة النسان والطبيعة، ليسَ كعلاقةٍ بين طرفين مُنفصلين، بل كصيغة تداخل وتفاعل تقومُ ليس على التلقي السلبي، بل على علاقةِ خلقٍ وانتاجٍ متبادل، الفن يعكس العلاقة بينهما كعملية خلق، عملية يقومُ الفنان خلالها باستقبال العالم بوصفِهِ ليس شيئًا بل بوصفِهِ علاقة أولًا، وبوصفِهِ سياق فعل؛ ليجعل من نفسِهِ فاعلًا وخالقًا، خالقٌ للمعنى الّذي يتأثرُ به، وخالقٌ للفن الّذي يُجسّدُ المعنى الّذي لم يتلقاه، بل يسعى لِخلقِهِ وفهمِهِ معًا، فالبشرُ لا تنتجُ المعنى أولًا ثم تفهمه ثانيًا، وليس العكس أيضًا، فهي لا يمكنها أن تفهمَ إلا ما تصنع، ما يعني أن الفن هو عملية فهم وهو عملية صنع؛ لأنه عملية خلق، عملية تجتمعُ فيها طاقةُ الخيال ونزوع الذهن ومهارة اليد وذكائها.
في لوحة «الصرخة» لـ مونش، لوحة تُجسِدُ حالةً مزدوجةً من ظاهرة طقسيّة طبيعيّة، وشعور بشري جوهري، إلا وهو الشعورُ بالوحدة والقزامة أمام عالمٍ مُوحشٍ وعملاق، فالفنان مونش عندما عايشَ لحظة الظاهرة الكونيّة الهائلة، وعاش الشعور بالوحدة، وَظّفَ الفنَ ليس ليعكسَ شعورهِ بالوحدة والفزع والتلاشي أمام مجهوليّة المصير ورعب الطبيعة، لقد وَظَّفَ الفن في اظهار هذا المحتوى، المحتوى الذي وصفه الفنان نفسه قائلا: «وحيدًا وقفتُ، وارتعدت، يهزّني صراخ الطبيعة الرهيب»[9] ولكنه في الوقتِ نفسه أظهَر عظمة الإنسان وقدرته ليس على عكسِ شعور الإنسان العادي، بل ليعكسَ موقع الانسان عندما يتموّضع في العالم كفنان، فنان لا يرى العالم ويعكسه فقط، بل فنان يتفاعل مع العالم ويُعيدُ تشكيله من منظورِ الخالق الفاعل لا المَخلوق المُنفعل، وهذا ما قام به، فقد حوّلَ حالتي الوحدة والرعب إلى حالةِ إبداع، حالة التقاط اللحظة، ودمج فعل الطبيعة واحساس الإنسان لإنتاج شيء جديد، ليس هو العالم وليس هو الإنسان. بل هو المعنى الناتج عن وجودهما معًا في صيغةٍ ما، الإنسان والعالم معًا. على شكل شيء جديد مُشَكَّلٌ من عناصرِ الصوت والّلون والشكل، يُقدم الحظة كلحظةِ هجنة كبرى، لحظة ليست ترجمة أو تمثيل نسخي، بل هي لحظة خلق، انبثاق، تدفق لتيارٍ هائلٍ من المعنى نتاج تلاقي سيل كوني طبيعي بسيل شعوري إنساني يتم تشكيله بخيال الخالق وميراث الخامة وذكائها.
وهذا ما أكّدَ عليه هشام روحنا في تحليله للوحة» نحن إذن أمام نقلة أو حركة دائريّة؛ ظاهرة ضوئيّة خارقة ترسم الطبيعة فيها ذاتها بالألوان، لتتمثلَها الذات المصدومة كظاهرةٍ صوتيّة، صرخة تخترقها، تشطرها وتُشظيها ومن ثم تأتي النقلة الثالثة، يجيءُ التعبير عن هذه الظاهرة الصوتيّة للمشاهد في لوحةٍ من لّونٍ وظل، يشاهدُ المشاهد فيها الصوت. نحن أمام صرخة الطبيعة أو صرخة ابنها وقد انفصل عنها نهائيًا، أو صرختهما المشتركة، وقد تحوّلت إلى ألوان وظلال.»[10]
الفن في لوحةِ الصرخة خلقَ حركة دائريّة يدورُ فيها الانسان والطبيعة والّلون والصوت والحدث والشعور والسياق والمعنى، فقد حوّلَ الفنان حالة المعايشة، تداخلَ فيها هو والطبيعة والمعاناة الذاتيّة مع الغرائبية الطبيعية، إلى تجربة فنية يتعايش فيها اللون والصوت والحركة والشكل لإعادة انتاج الشعور من شعور بالرعب أمام ظاهرة كونية إلى الشعور بالعبقربة والأبداع أمام ظاهرة فنية. فأعادَ اخراجها ليقلبَ المعاناة إلى تجربة خلق، فلا شيء يتجاوزُ المعاناة ويُفكِكُها إلا الخلق والإبداع، فقد أوجّدَ الانسان الإبداع؛ ليتجاوزَ شروط اغترابه ومعاناته من خلالِ خلقِ عالمٍ من صنعه.
وهذا ما يُمكِنُنّا أن نراه في لوحةِ «العطش» لـ إسماعيل شموط، اللوحة التي شَكَلّتْ تَجسيدًا لمسيرةِ العطشِ والموت التي دُفِعَ إليها سكان مدينة الّلد في عالم 1948، اللوحة التي جَسّدتْ العطش على شكلِ حالةٍ عميقةٍ من الارتواء، الارتواء الّذي يُمثِّلُ فيض المعنى المرافق لعمقِ العطش، العطشُ الّذي تَحوّلَ إلى موتٍ مَحمول، أفراد عَطشى يحملونَ عَطَشهم مُضاعفًا، عطشُ الجسد والعطشُ الكامن في الأجسام المَحمولة بسببِ موتها عطشًا، أن اللوحة تُظهِرُ حالة مكثفة من العطش، عطش الراحلين، الهاربين من الغيتو الاحتلالي الّذي زجتهم العصابات الصهيونية فيه للموت عطشّا، الّذين كلّما هربوا من عطشهم ازدادوا عطشًا للبيت والوطن والمعنى الحقيقي للسكن والوجود، لكن الفنان في تحويله للرحلة من رحلةِ هربٍ من الموت، إلى فن، لم يكن يُلّونُ العطشَ فقط، ولم يكن يُؤرخ للنهاية، بل كان يُلّونُ طريق العودة وطريق الارتواء، عبر تَحويل اللحظة من لحظةٍ مشحونةٍ بثقلِ النهايات، العطش، التعب، الانهاك، الإحباط، الموت، إلى لحظةٍ مشحونةٍ بمُمكِنات البدايات، الجسد والحركة والّلون والتدفق والفن نفسه كشكلٍ لكتابة الحكاية وإعادة التدخل في شكلِ نهايتِها.
ما يحدث في اللوحة هو الفن في جوهرِهِ كحالةٍ حواريّةٍ من جهة، وحالة تجسيدٍ ومحو، حالةٌ لا تقوم على تفسير العالم، بل تحملُ الهاجس التحويلي «الممارسة التحويلية للعالم»، فاللوحة شَكَلّتْ وتُشَكِلُّ حالةَ حوارٍ بين لحظة تُوثِقُ عطشَ الانسان وضعفه وبينَ الفن كخيارِ الإنسان في ممارسةِ قدرته كخالقٍ يُعلِن تمرّده وعصيانه.
وهذا ما جعل اللوحة لوحة في العطش وفي فن العصيان عليه، فاللوحة في توثيقها للعطش جَسَدتْ العطشى وهم يواجهون عطشهم ومصيرهم بالحركة والإرادة، حركة تمثلّتْ في حالةٍ من العصيان والتَمرّد، تمرّدُ الانسان على قدره، فالمرأة الجالسة على الأرض والمُستندة إليها بِجِسمها وأطرافها الأربعة، الأرجل الممتدة على الأرض واليدين المستندتين على الأرض بواسطة الكفين على شكلِ قدمين إضافيين؛ لتمتد يدٌ أخرى؛ تمتد لترفعها وتخلق إيحاء بجسدٍ يتحركُ حقيقةً في اتجاهِ نظرته، النظرةُ التي تلتقي مع هناك، هناك الّذي هو السماء، والّذي هو الأفق حيثُ يد ممدودة في الهواء على اتساعها، ممدودة على شكلِ جسر، فيها نوعٌ من رمزيّة ذراع المَسيح الممتدة على طرفِ الصليب، تشيرُ للألم ولكنه الألم المُنقذ، الألم الّذي يَكّمُنُ فيه ليس الموت فقط، بل الموت الّذي يحمل قيامته.
ما يجعل اللوحة ليست تخليدً لعطشٍ خالد، بل هي تدشين لفكرةِ خلود الإنسان في مواجهِة معاناته، الإنسان الّذي يحمل الألم كدرب ولكنه الدرب الّذي يتضمنُ ليسَ موته بل خلوده، وهذا ما ينعكس في حركةِ الأجساد ووضعية الأيدي، اليد الممتدة في الأفق، والأيدي التي تحتضن الأطفال المصلوبين على صليب العطش، وترى فيهم ليس موتى اليوم، بل صُنّاع الغد، فما يحملونه ويؤشرون عليه، ليس العطش بل نقيضه… الفن والمستقبل الّذي سيقلب التاريخ ضد عاداته؛ كي يكفَّ عن كونِهِ تاريخ المنتصرين.
فالإصرار الكامن في الوجوه، الوجوه المرسومة بخطوطٍ دقيقة رفيعة كحدِ الشفرة، والتي تلتقي في زوايا حادة، تحيل ليس على وجوهٍ نَحتها العطشُ على شكلِ وجوهٍ حادة، بل أيضًا وجوه نحتت حُلمها على شكلِ إرادةٍ صلبة، فالخطوط وحدتها والزوايا ومضاء حرفها لا توحي بقوةِ العطش فقط، بل تُوحي بقوةِ وصلابةِ الوجوه وقوةِ التصميم فيها، التصميمُ على رفضِ العطش وتحويله إلى ضده، إلى دربٍ من البحث عن الارتواء عبر إرواء القصة والوجود والحُلم والّلون، بالحركة المُلّونة بالدم وبالمعنى المُجسّد بالّلون.
وهذا ما يُوحي به تماوج الّلونين الأصفر والأزرق المُخضر في اللوحة، فقد عَمِدَ الفنانُ على إرواء اللوحة بفيضٍ من الّلون الأصفر، لّون العطش، والّذي يُجسّدُ العطشَ مكثفًا بدلالاتِ حرارةِ الصيف وأشعة الشّمس ولّون الرمل والسنابل الجافة والغروب؛ لإبراز دلالة العطش وعنفه الكامن في حقيقته كعطشٍ للبيت والوجود والحياة التي حُرِمَ منها من يَحملون اللوحة التي تحملُ معاناتهم، لكن اللوحة في اقتحام الّلون الأزق المُوشح بالأخضر لّلون الأصفر إنما تقدم الفن وفاعله أي الإنسان على شكلِ طاقة نافذة تنفذُ في عمقِ المعاناة؛ لتَجِدَ بدياتٍ أُخرى للأمل والفعل، بدايات مؤشر عليها بلّونِ الربيع والفجر والأفق.
محو الفن من التجسيد إلى المفهوم
أن الفَن الّذي حمل جسدَ نفسه عبر تَجَسُّده في أعمالٍ فنيّة، من تمثال بجماليون حتى الموناليزا وتَجَسّدَ في آلاف اللوحات المنتشرة في العالم على شكلِ معارض، متاحف وورشات، الفن الّذي دَشَنَّ مساره التَجَسُدي وحفرَ لنفسهِ معنٍ انشغلّتْ فيه الفلسفات وعلوم النقد والجماليات وعلوم الإعلام والترويج والاستثمار، ومع ذلك لم لم ينءَ بنفسِهِ عن معركة تعريف ذاته، حيث انشغل في بناءِ مراحل تاريخه التي مَثَلّتْ وجَسَّدتْ في الوقتِ ذاته مراحل في بناء المعنى أو التعريف وفي هدمِه وإعادة انتاجه، ما يعني أننا يُمكننا النظرَ التي تاريخ الفن ليس بوصفِهِ سلسلة من البناء التراكمي للوحات والأعمال الفنيّة فقط، بل هو سلسلة من بناء التعريفات _تعريفات الفن_ ومعانيه وإعادة هدمها، فتاريخ الفن هو تاريخ تعريف الفن لذاته وتاريخ هدم التعريف وإعادة بنائه.
ويُمكِنُ أن نرى هذا في الحركات الفنيّة التي عملت على هدمِ الفن السائدة وبعثرة دلالته المُراكمة؛ لإعادة النظر فيه من خلال تفجير السائد لميلاد الكامن، فكانت حركة الداد، والحركة السُرياليّة والمستقلبيّة والموقفيّة والأناركيّة، والفن ما بعد الحداثي والنَسوي كلُّها أمثلة على حركاتٍ هائلةٍ في التحولات والثورات التي عملت على النظر في الفنِ كممارسة ومعنٍ.
ما أفضى لسلسةٍ من التحولات، سلسلةٌ لا تعكس انعزال الفن عن واقعه، بل هي السلسلة التي يتشابكُ فيها الفن في تفاعله مع الأحداث السياسيّة، من كومونة باريس حتى أزمة كورونا مرورًا بثوراتِ التحرر الوطني والاجتماعي وصولًا إلى انتفاضة الطلاب في عام 1968 وما تلاها من هباتٍ وحركاتٍ أخذت أشكالًا جديدة نسويّة وبيئيّة وفنيّة أدبيّة، وقد مَثّلَ الفنُ حاضنًا لهذه الحركات ومُوّلدًا لها أيضًا، حيثُ ثمة حركات أثرت في السياسة والأدب وكانت في جوهرها حركات فنيّة، فقد كان الفنُ ساحةً لبناء المنظور وكانَ الساحةً لهدمه.
يُمكن التأريخ لأهم هذه التحولات من مبولة «نافورة دو شامب» إلى أعمال أندي وارهول صناديق بريلو[11] (1964)، التي تُعتَبر انقلابًا واضحًا على التعبيريّة التجريديّة والتي دفعت بالسؤال: ما الّذي يَجعلُ من الصناديق المعروضة فنًا؟ في حين أن الصناديق المُصّنعة من قبل الشركة هي مُجرّد سلعة؟ السؤال الّذي شغل أرتور دانتو فكتب مقالته الشهيرة الموسومة: «أي شيء يمكن أن يكون فنًا ولكن ليس كل شيء فنا»، تساءل فيها عن الكيفيةِ التي يُمكن من خلالها تمييز عمل أندي وارهول عن صناديق Brillo الموجودة بالأسواق التجاريّة. مؤكدًا «أن آندي وارهول لم يغير طريقة النظر إلى الأشياء فحسب، بل أكثر من ذلك، غير طريقة التفكير فيها. فلم تقتصر النتيجة فقط على ابتكارٍ نوعٍ جديد من الخبرة الجماليّة، بل أرست قواعد فلسفةٍ جديدةٍ للفن، اعتبرت العمل الفني موضوعا للتأويل، بدلاً من كونه قطعة أثريّة[12]». وفي هذا السياق وُلِدت مدرسة الفن كمفهوم أو فكرة وليس تُحفة.
وكذلك الحال مع عمله «لوح/ لوحة[13] مارلين مونرو» المبني على شكل لوح مُزدوج تتكررُ فيه صورة المُمثلة نفسها 25 مرّة، ذلك التكرار المعروض أو العرض المُكرر الّذي يُمثل صورة مكثفة لمجتمع الاستعراض وثقافة الاستهلاك « فتكرار الصورة 25 مرّة على كلِّ لوح والمُرتبة بالتسلسل كأنها على رفوف العرض في السوبرماركت، ما هو إلا استعادة لأعمالٍ فنيّة للفنان يَعرضُ فيها بضائع كزجاجات الكوكاكولا أو علّبِ المُعلبات الغذائيّة معروضة بنفس الشكل، ما جعل صورة الفنانة/ المرأة المعروضة بهذا الشكل “تمثيلًا استعراضيًّا للإنسان الحيّ» ونقيضا للذات الفردية، أنها «موضوع التماهي مع الحياة الظاهريّة الضحلة»[14]
أن هذه الحالة من محو الفن لشكله السابق كخلقٍ للجمال إلى نوعٍ من الفن الّذي يُفكك الواقع ويُظهر خفته الاستعراضيّة التي لم تعدْ تُحتَمل، ويكشف عن الحقيقة البشعة للصور الاستعراضيّة للحياة الرأسمالية الاستهلاكيّة ولسطحيّة أيديولوجيتها، جاء تعبيرًا حقيقيًا عن الحدس الّذي طرحه بلزاك في قصة التُحفة المخفية، حيث عمل الفنان «فرينهوفر» عشر سنوات متتالية لخلق امرأة أخرى (بعد تمثال بجماليون)، لكنها امرأة من نورٍ ومن احساس، حيث كانَ يؤمن أن الفن هو إعادة تَشكيل الشكل، بشكلٍ مراوغ، فقد رأى أن عمل الفنان يشبهُ عمل الإله الإغريقي «بروتيسوس» الإله الّذي اعتمد في هربِهِ على التشكيل الدائم لِشكلِه، ما عني أن الفن هو التَشكل الدائم للشكلِ المراوغ دومًا للتَشكل، وهكذا أراد للمرأة التي رسمها … امرأة حيّة، امرأة ليست لوحة وليست امرأة وإنما حالة شغف كما وصفها لزائريه، ولكن ما تبدى للزائري مجرّد طرف قدم عارية في خضم حالة صخبة فوضى الألوان والأشكال والظلال الغامضة: نوع من الغمام غير المُترابط .. قدمًا جميلة قدمًا حيّة فوقف الزائرتن مبهوران من الأعجاب أمام هذه الشظية التي هربت من الدمار[15].
لكن إذا ما نظرنا للوحة فرينهوفر بمنظور جورجيو أغامبين، فأننا نَرى على القماش « كتلة مختلطة مشوشة من الألوان داخل كومة من الخطوط غير المفهومة، انحلال لكل معنى، اختفاء لكل محتوى، عدا طرف قدم تَبرز من بقيةِ اللوحة، مثل جذع فينوس المَنحوتة في رخامِ باروس مُنصبًا بينَ أنقاض مدينة دمرتها النار»[16].
ويضيف أن سَعي الفن خلف المعنى، المعنى المُطلق استنفذ كلَّ معنى، وسمح فقط لعلامات وأشكال لا معنى لها أن تبقى، فهل أن المعنى قد محا العلامة، أو أن العلامة ألغت المعنى؛ لتؤسس لوضعية معاصرة للفن وضعية أن يُطارد المعنى والعلامة بعضها البعض في حلقةٍ مفرغةٍ دائمة.
في هذا السياق، سياق اكتمال دورة من دورات الفن، بحيث لم يعدْ الفن يَنشغل ولا يشتغل على تجسيد الأشياء ولا البحث عن السّر فيها، وإنما أضحى يعملُ على التقاط الشظية التي هربت من الدمار، دمار العالم ودمار المعنى فيه.
[1] مقولة منسوبة للفنان كارل أندري Carl André وهو فنّان أميركي تشكيليّ مأخوذة من د. العادل خضر، الموت هو الحاكم بأمره في شؤون الفن والحضارة.. سياسة الخلود،2017 من موقع https://thaqafat.com/2017/05/79743
[2] يمكن النظر في : جورجيو أغامبين، الإنسان بلا محتوى، ترجمة أماني ابو رحمة، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، 2019.
[3] هوس العمق، للكاتب باتريك زوسكيند، وقصة التحفة الخفية للكاتب أونريه دي بلزاك.
[4]لوحة الصرخة للفنان النرويجي ادفارد مونك، ولوحة العطش على الطريق للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط. عملان للفنان الأمريكي أندي وارهول صناديق بريلو ولوح مارلين مونرو.
[5] باتريك زوسكيند، هوس العمق، ترجمة طلعت الشايب، دال للنشر والتوزيع، دمشق، 2015، ص18.
[6] باتريك زوسكيند، هوس العمق، ص18.
[7] ثمة مدراس وتوجهات فلسفية متعددة ولكن يمكن في ضوء التعميم هناك ثلاث توجهات مدرسية الأولى: (استطيقية) جمالية تربط الفن بتوفر معايير جمالية مرتبطة بالسمات الخارجية الجاذبة بصريا، الثانية التأويلية (فن المفهوم) حيث ترى أن الفن لا يرتبط بالجاذبية البصرية للعمل الفني وإنما بقدرته على انتاج المعاني، وأما الثالثة المؤسَّسِية والتي ترى أن العمل يصبح عملا فنيا إذا اعترف به من قبل جماعة الفن. …للمزيد يمكن النظر في مقالة شبكة فوغل: الشراك بوصفها أعمال فنية والأعمال الفنية بوصفها شراكاً، من كتاب الفن والقطع الفنية: خمس مقالات عن الفن المعاصر من اختيار جوناثان واتكنز،ترجمة إيهاب عبد الحميد ورنا الحايك. منشورات رؤيا 2017.
[8] يمكن التأكيد على هذا المعنى في لوحتي، الموناليزا ولوحة «هذا ليس غليونا»، ففي لوحة هذا ليس غليونا تمثل العبارة على شكل نص مباشر تحت الشكل البصري لغليون لتقول «هذا ليس غليونا» ما يوضح أن الفن ليس الشيء وأنما معناه، تلك الفكرة نفسها ألتي جسدتها الموناليزا في (عبقريتها كلوحة خالدة) من خلال رسم الابتسامة وعدم رسمها لكي تظهر ليس لوحة عن الابتسامة بل عن معنى الابتسامة أوعن الاحساس بها أو الرغبة فيها.
[9] هشام روحانا الصرخة للفنان النرويجي ادفارد مونك (Edvard Munch)| 03/09/2021 من موقع https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=730400
[10] هشام روحانا الصرخة للفنان النرويجي ادفارد مونك ،المصدر السابق.
[11] يعرض أندي وارهول فنان البوب نسخا طبق الأصل ) لصناديق Brillo ، مكدسة فوق بعضها البعض، في أكوام أنيقة، كما هو الحال في مستودع سوبر ماركت. الصناديق مصنوعة من الخشب، ومصبوغة وكأنها من الكرتون، ولماذا لا؟ […] في الواقع، يمكن لأصحاب شركة Brillo أن يصنعوا صندوقهم من الخشب المعاكس دون أن تتحول الصناديق آثارا فنية. ويمكن لوارهول صنعها من الورق المقوى دون أن تتوقف عن كونها فنًا. حتى لا ننسى الأسئلة ذات القيمة الجوهرية، نتساءل لماذا لا يستطيع أصحاب شركة Brillo صنع الفن، ولماذا وارهول لا يصنع سوى أعمالا فنية فقط. […] ما الذي يجعل صناديقه آثارا فنية؟ […] لا يهم إذا كان صندوق Brillo ليس فنًا جيدًا، ناهيك عن أن يكون فنا عظيما، لكن من العجب اعتبارُه من الفن! إذن، إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا تعد صناديق برييو المعتادة، هي الأخرى فنا؟
[12] محمد خصيف: تجلي المبتذل ـ فلسفة الفن لأرثور دانتو، من موقع: http://elsada.net/121327/
[13] لوح مارلين المزدوج عام 1962 هو لوحة طبعت على شاشة حريرية أعدها الفنان بعد بضعة أشهر على موت الفنانة المأساوي، ويتشكل من لوحين متقابلين الواحد بالأسود ومقابله بالألوان. يضم كل لوح 25 صورة مكررة للفنانة. تعود هذه الصورة المستخدمة هنا الى بورتريه نشرته احدى الصحف، قصها واحتفظ الفنان بها عشر سنوات في معمله قبل ان يستخدمها.
[14]هشام روحانا، لوح مارلين المزدوج – البضاعة وثنا
[15] أونريه دي بلزاك، التحفة الخفية (1832)، ترجمة ماهر البطوطى.
[16] جورجيو أغامبين(2019)، الإنسان بلا محتوى،ص 30.