استعادة التوازن على الأرض، أو خمس دروس فلسطينية


الهبوط في فلسطين. هذا الشعور بعدم التوازن، وهذا الإحساس بالدوار الذي سيستمر طيلة الرحلة بغض النظر عما نفعل. نتحرك في المكان ونحاول التكيف، لكننا نفشل: لن نجد الاستقرار هنا، لم يكن هناك ثبات في هذا المكان أبداً. ولا حتى طوال تاريخه. بقدر ما يمكن لعائلتي أن تتذكر من الماضي، كان الفلسطينيون يعانون الاستعمار واضطهاداته: فبعد الإمبراطورية العثمانية جاء الاستعمار البريطاني الذي وعد بشيء، وفي السر راح يخطط لشيء آخر، وقام في النهاية بتمرير الأرض إلى الميليشيات الصهيونية التي واظبت، بعد تأسيس سلطة احتلال إسرائيلي، على ممارساتها الاستعمارية، بل وزادت من وتيرتها عبر استمرارها في الاستيلاء على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية بجشع وعداء.
درس 1: الهبوط وفقدان اتزاننا على الفور. سوف نحتاج إلى التكيف مع طريقة مختلفة تماماً في التعامل مع الوضع الراهن: أن نتعلم ألا نتكيف؛ أن نبقى على عدم توافق معه؛ أي أن نبقى نقديين بلا خوف.
سبعة أيام من التنقل لا هوادة فيها من مدينة، بلدة، طريق، مزرعة، نادٍ، كهف، إلى أخرى؛ من اجتماع مع أفراد مدفوعين برغبة العمل على الرغم من كل شيء إلى اجتماع يليه؛ أسبوعاً من الاستيقاظ في وقت مبكر وعدم الحصول على قسط كافٍ من الراحة، وشرب الكثير من القهوة والتدخين المستمر، للوقوف على جميع الأحداث التي يمر بها أهل فلسطين على اختلافهم في كل يوم من حياتهم.
بيننا مدير مؤسسة ثقافية في برلين دأب على الجلوس في أحد المقاعد الأمامية للحافلة، بمحاذاة بابها. عندما استوقفتنا ذات مرة دورية عسكرية وسأله الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح من أين هو، رد: من ألمانيا، ملوحاً بجواز سفره الألماني. عاد الجندي يسأل: «هل أنتم جميعا من ألمانيا؟»، فيما رفع عينيه وبندقيته، يفحص الحشد الجالس في الخلف. ونحن، الحشد، المجموعة القادمة من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك من فلسطين، صرخنا معاً: «نعم»، إننا جميعا ألمان. أن نقول من التشيلي أو من مصر أو من السنغال أو من الهند، لم تكن فكرة جيدة، فجميعها، هذه الدول، أعلنت أننا لسنا غربيين. حتى أن نقول «اليونان»، لن يكون بحجم ثِقل كلمة مثل كلمة «ألمانيا».
درس 2: سؤال علينا أن نأخذه بالاعتبار: هل كان الكذب حماقة تامة أم فعلاً استراتيجياً؟ هل كان بمثابة المشاركة في شكل من أشكال المقاومة المرتجلة؟ لقد كان الجندي مسلحاً بينما نحن لم نكن، وكما لن نكون أبداً. لم نخبر بعضنا البعض بأننا كنا خائفين. لم نتحدث عن إحساسنا بالفزع؛ لم يكن حاجة لذلك. كان الفزع مسموعاً في صرخاتنا الضاحكة، فقد تعالت أصوات ضحكاتنا دون توقف. كان الضحك شعار النبالة في مواجهة الخوف والإحساس بالعجز.
السفر في أنحاء غرب فلسطين المقسمة إلى قطع أراضٍ من قبل الطرق السريعة المخصصة للمستوطنين، حيث كانت الإشارات على الطريق توجهنا فقط إلى المستوطنات الإسرائيلية، وليس إلى البلدات الفلسطينية. إن لم يكن سائق الحافلة فلسطينياً، لم نكن لنتمكّن من أن نجد طريقنا بين المدن والقرى. ونحن «الألمان» سوف نقع في ورطة، أو، في أفضل الأحوال، سوف نعلق إلى الأبد في جهنم حواجز التفتيش إذا تم فحص جوازات سفرنا.
درس 3: لقد سمعنا العديد من الفلسطينيين أو شاهدناهم يُرغمون بشكل منظّم أو عشوائي على الانتظار عند نقاط التفتيش، ويُمنعون من استخدام طرق معينة، ويحرمون من حرية الحركة. علمنا أنهم حاولوا أيضاً إضاعة وقت الجنود: لقد وقفوا هناك، يحدقون بكسل في الفراغ. وقد انتقلوا بمنتهى البطء أكثر من أي وقت مضى عندما كان يُطلب منهم تنفيذ أمر ما، أو يفتعلون الغباء وعدم الفهم. إنهم يقاومون رأسمالية «الإسراع والاستعجال»، و«الانشغال»، لكي لا يتحول وقتهم الذي يضيعه الجيش الإسرائيلي بممارساته ضدهم، إلى خسارة كاملة بالنسبة إليهم – الوقت هو شيء (أيضاً) لا يمكن أخذه الآن منهم بسهولة. أدركنا نحن «الألمان» أننا قد أهدرنا وقتنا من خلال الاستسلام لتعويذة النجاعة والإفراط في الإنتاج، معتقدين أنه الشكل الوحيد للنجاح. وبلا شعور، وبمحض إرادتنا، كنا قد تخلينا عن أفضل أوقاتنا؛ الوقت الذي مضى ولن يعود مرة ثانية.
إذن، ها نحن هنا «الألمان» المصابون بالدوار، نتعلم (بينما نحتسي القهوة وندخن دون التفكير في المستقبل، فقد كان الحاضر كافياً ليستحوذ على تفكيرنا) ونتفكر بإعجاب كيف يتعامل الفلسطينيون مع كل أنواع الاعتداءات التي تعيق حياتهم باستمرار. وصف المشاكل وتخيل الحلول كان يلازمنا طيلة الوقت. ثم تظهر مشاكل جديدة، وتوضع حلول إضافية حيز التنفيذ.
حالة 1: نساء رغبن في الالتقاء، لكنهن لم يجدن المكان. كن بحاجة لمكان؛ مقر لهن. فباشرن التنقل من منزل إلى آخر عند ساعات المغرب، داعيات أهالي القرية إلى التبرع من أجل تشييد مثل هذا المقر. كان باستطاعة أهل القرية التبرع بعشرة شواكل أو خمسين. تمكنت النسوة من بناء طابقين، وقد أخذن قرضاً لبناء مطبخ، وقمن بسد القرض من عوائد إعداد الطعام الصحي لأطفال المدارس. «تبدأ كل ثورة عندما تبدأ النساء بالتجمع للحديث»، كان هذا تعليق استخدمته إحدى السيدات على سبيل الدعابة، وفي رفض للغة الحركة النسوية الغربية وطروحاتها حول مفهوم التحرر. حديث الختام أنها ثورة في الحياة اليومية.
حالة 2: امرأة وزوجها يربيان خلايا النحل على تلة بالقرب من الشارع، بين الأنقاض. هناك بعض الصناديق البيضاء المليئة بالنحل اللاسع الذي لم يلدغهما أبداً، حتى عندما فتحت السيدة الصندوق، وسحب زوجها اللوحة المغطاة بالنحل بأيديهما المكشوفة. لم تكن صور المشهد التي التقطها عالم البيئة ومؤرخ الفن الهندي الأصل لتنتهي. كان يتم استخدام أعشاب الميرمية والبابونج ضد الأمراض، لأن النحل، كما تقول السيدة، مثل البشر يمرض، وليس لديهم ما يكفي لشراء الدواء. هذا النحل ينتج العسل حلو المذاق، ويحافظ على الأسرة على قيد الحياة.
حالة 3: ترك الشاب دراسته لرعاية أرض والديه: فإذا تم إهمالها، ستتم مصادرتها على الفور من قبل الإسرائيليين. حتى الآن تقلصت مساحة أرض العائلة بنسبة ثلاثين بالمائة جراء بناء الجدار، وثلث آخر استولت عليه المصانع الكيماوية الإسرائيلية التي أنشئت على مقربة من المكان. وقد قاوم الرجل وزوجته كل ذلك؛ قانونياً، مطالبين باستعادة أراضيهم ونقل المصانع. واستراتيجياً، عبر وضع العقبات أمام أولئك الذين كانوا دائماً في المرصاد على أهبة سرقة أرضهم. وبذكاء، حين كانوا يهيمون في مزرعتهم كلما سُمح لهم بدخولها لفترة وجيزة فقط، مضيعين بذلك وقت الجنود الذين كانوا يضطرون للذهاب إلى البحث عنهم. ثم بطريقة خلاقة، حينما تمكنوا من تصميم طرق لتوفير الموارد: فقد أنتجوا الأسمدة الخاصة بهم من روث البقر؛ وإمدادات الطاقة الخاصة بهم من غاز روث البقر والألواح الشمسية الصغيرة، التي احتاجوها لتجفيف المحاصيل الزراعية الزائدة، وكانوا يمنعون النمل من الزحف لأخذ نصيبه من هذه الثمار المجففة عبر إغلاق الطريق أمامه بعلب مملوءة بالماء، وعندما يتعفن الخشب الموضوع داخلها، وعندما تنعدم المياه، وعندما تشح البذور… و«إلى ما لا نهاية» حيرتنا جميعا، وبخاصة اثنين من فناني الهيب-هوب من السنغال، اللذين وجدا أن هذه الأساليب المبتكرة يمكن أن تشكل حلولاً لمواجهة القصور في القطاع الزراعي في بلادهم.
حالة 4: مخرجو مسرح وممثلون. كان على النوادي الرياضية وفرق الرقص وجمعيات الشباب، إما أن تتعامل مع تخطي التمويل، وإما أن تخضع لأجندات المؤسسات الثقافية والدولية. أومأ مدير المؤسسة الثقافية البرلينية برأسه مشيراً إلى أن المؤسسات لا تتشابه بالضرورة؛ في أماكن أخرى لا يتم تقديم الدعم المادي مقابل تلقي الطاعة كشرط. ثم ناقش محررو مجلات وأمناء مكتبات ومربون تسلُّل لغة المنظمات غير الحكومية. ورفض شعراء ورؤساء تحرير طلب المساعدة إذا كان ذلك يعني قبول الهيمنة السياسية. طرحت الكاتبة من التشيلي الكثير من الأسئلة حول طبيعة الرقابة وقارنت وضعهم مع الحقبة المظلمة من الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وتحدث نشطاء في لقاءات حميمية حول التنكيل والمضايقات، فالحكومة الإسرائيلية تفرض قيوداً بالغة، لكنها ليست الجهة الوحيدة. هناك الكثير من العقبات الداخلية. بدوا منهكين من ممارسات القادة السياسيين المحليين، لكنهم تمكنوا من معرفة كيفية المضي قدماً رغم أنفهم.
حالة 5: والأقل توقعاً: نادي الاستغوار الفلسطيني الذي أسّسته شابة من الخليل. جعلتنا ننزل مشياً إلى أسفل تلة مساراتها شديدة الانزلاق، ونصعد منحدراً حاداً. عدنا إلى الترنح والدوار: فقدنا التوازن تماماً كما لو كان هذا المشي استعارة عن المصاعب التي يواجهها الفلسطينيون يومياً. لم يكن أحد منا يحمل المياه. ربما فكر المخرج المصري في ذلك، لكنه لم ينبس ببنت شفة. بينما ساعد المغنيان السنغاليان نفسيهما على التحمل عن طريق الغناء. لقد أثبت الهيب هوب أنه شكل ناجح من المقاومة في بلادهم، والآن هو يرافقنا، أيضاً، ونحن نصعد التلة. ثم عندما جلسنا لنتناول قسطاً من الراحة، اقتسمت معنا مضيفتنا من فلسطين برتقالة. لم تبدُ قيمة المعارض اليونانية سعيدة، فقد حاولت مقاومة الانضمام إلى المشي بسبب ارتدائها حذاء أحمرَ مخملياً ذا كعب عالٍ قليلاً وغير مناسب للمشي البتة. وكانت مؤرخة الفن الهندية قد أمسكت عصا لتسند نفسها. لم ندخل بعد الكهف الأسود المليء بأصوات الخفافيش. تحدثت قائدة المجموعة، الشابة من الخليل، ثم دعتنا إلى الدخول في الهوة السوداء. تمتمت قيمة المعارض اليونانية «هذه تجربة فلسطينية بكل معنى كلمة». وقد حاول مدير المؤسسة الثقافية البرلينية أن يعفي نفسه: إنه يعانى من رُهاب الأماكن المغلقة؛ من المؤكد أنه سيصاب بالشلل. كيف يمكننا عندها أن نخرجه من هناك؟ لكنه بعد أن رأى القيّمة اليونانية تدخل الكهف بحذائها الموحل، غيّر رأيه ودخل، في حين كانت الكاتبة التشيلية لا تزال قلقة بشأن الثعابين، فقد قرأت أن الثعبان يستطيع اللدغ حتى بعد ساعة واحدة من وفاته.
درس 4: الكثير من القيود المفروضة أشعلت الخيال الفلسطيني، فكرنا بين أنفسنا، أو ربما أنا فكرت مع نفسي. إنني ارتجل الأفكار من تلقاء نفسي. اعتقدت أنه كان هناك شيء آخر يجدر استيعابه: بدلاً من الأمل في مستقبل يحوي توقعات تم إحباطها مراراً وتكراراً، جهد الفلسطينيون الذين التقيناهم في جعل الحاضر يتحقق. أو كما عبرت القيّمة اليونانية بحزم: «يجب أن يكون العمل السياسي مؤطراً بِالـ هنا والآن». هذا الزمان وهذا المكان المضطربان. بدلاً من توقع نوع من الاستقرار، كان المسعى الفلسطيني، وما زال، هو مقاومة كل الصعاب، وفي الوقت نفسه، بالطبع، عدم تطبيع الاحتلال. إن اختيار الاستقرار -إذا كانت هناك فرصة لاختيار مثل هذا الشيء تحت احتلال شرس ما برح يزداد سوءا- يعني قبول التطبيع الذي ينادي به الاحتلال. هذا سيعني الاستسلام. وهو ما سيعني بالنسبة للفلسطينيين قبول القمع والخنوع. الاستقرار هو بمثابة حكم بالإعدام. إن تحريك الأمور هو المطلوب؛ ومواصلة مقاومة الراهن.
درس 5: انتهت رحلتنا، مع أنه يبدو أنها لن تنتهي أبداً. لأنه حتى لو كانت القضية الفلسطينية استثنائية -وبسبب استثنائيتها وتفردها قد نشعر في منأى عنها- هي أيضاً نموذجٌ مثاليٌ للحكم الاستعماري المعاصر الذي يبدو أنه يجري اعتماده في أماكن أخرى. إن أشكال المقاومة ضد هذا الاستعمار، وإعادة اختراعها باستمرار، هو ما يجب على الجميع تعلمه.

Share on facebook
Share on twitter
Share on pinterest
Share on whatsapp
Share on email
Share on linkedin

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الأخبارية؟

سجّل بريدك الإلكتروني

الرجاء تعبة النموذج لحجز مساحة في الجاليري

طلب حجز مساحة في جاليري 28

سيتم التواصل معكم لإتمام الحجز

الرجاء تعبة النموذج لطلب مشاركتك باضافة محتوى في الموقع، مع العلم انه سيتم التواصل معكم لاعلامكم بنتائج الطلب او مناقشة أي تفاصيل

طلب المشاركة بمحتوى

ملاحظة: امتدادات الملفات المقبول pdf, doc,docx