القارئ الباحث في تاريخ فلسطين القديم والقروسطي والمعاصر، يرى فيه محطات كثيرة متشابهة، لذلك، ما فتئَ الشعبُ الفلسطيني بوعيهِ الفطري، يعتقدُ أنّ وراء هذا الضيق فرجٌ قريبٌ، وبالإضافة إلى تلك الفطرة البشرية الواثقة بالنصر على المُحتل، تمنحهُ النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية الرؤيوية، أملًا آخرًا مُدعّمًا بقوة الإله، ووعده بالخلاص.
كما تنحازُ العلوم الحديثة بتجاربها وتطبيقاتها، لتمنحَ الفلسطيني مزيدًا من الأمل المقارن، إذ مع تطوّر علم زراعة الأعضاء البشرية، تُشير الأبحاث والتطبيقات، أنّ الأجسام الأصيلة ترفضُ الأعضاء الغريبة الّتي تُزرعُ فيها، ما لم يتمُّ تدعيمه بعواملٍ خارجية، وهي هنا أدوية تمنعُ وسائط الدفاع في الجسم من القيام بعملها، لكن تلك التجارب -وعلى المدى الطويل- أثبتت أيضًا، أنّ الأجسام الأصيلة، تستطيعُ مع الوقتِ التّغلب على العضو الغريب، رغم المساعدة الخارجية. هذه المقارنة الطبّية، تؤكد أن الوقت يعملُ لصالح الجسم الأصيل، وهكذا هو حال الشعب الفلسطيني، شعب يعيشُ على أرضهِ تعرّضَ للغزوِ عشرات المرات، منذ أن وُجِدَ استعمارٌ في العالم القديم، وانتصر ورحل الغاصب، أو أصبح محضُ ذكرى.
جغرافيا فلسطين الفريدة جعلتها مطمعًا دائمًا للغزاة، كونها عقدة مواصلات عالمية، مصيرها أن تكون ممرًا للجيوش والتّجار الذاهبين تجاه بابل أو بلاد فارس، والقادمين من بابل تجاه مصر وشمال أفريقيا وشرقها. كانت الإمبراطوريات الكبرى في الماضي البعيد، تُمارس عمليات سبيٍ ونقلٍ، لسكان البلدان المستعمرة، خصوصًا تلك التي تُقاوم المُستعمِر، وترفضُ الخضوع والذل، وهكذا كانت فلسطين على مرِّ الزمانِ، تُكابدُ الهزيمة، لكنها فرسٌ جامحٌ لا تعرفُ إلا فارسها ابن بلدها، هكذا كانتا صور وصيدا الفلسطينيتان، قبل نشأة دولة لبنان عام 1946، وهكذا هي غزة وعكا ويافا ونابلس دومًا، مدن مقاومة عنيدة.
ورغم النكبات المتلاحقة، إلّا أنّ نسلَ الفلسطينيين الكنعانيين ظلّ نسلًا مقاومًا، والفلسطيني من الفلست، والفلسط/ الفلست كلمة كنعانية تعني محارب، كانت تُطلق على فئةٍ كنعانية مُقاتلة، ومن ثمّ أصبحت صفة لشعبٍ من ثلاثة عشر مليون، يرفض الاستسلام لجبروت العالم الظالم، من شرقه إلى غربه. تُخبرنا الألواح الأشورية والبابلية والمصرية بعضًا من ممارسات النقل والإحلال السكاني الّذي قامت به تلك الإمبراطوريات بحق شعوب المنطقة، لكننا نعلمُ أيضًا من خلال قراءتنا المُتمعنة للنصوص ما بين نقوش الألواح الفخارية، أنّ الأرض تعجنُ الغريبَ بتربتها وتُحوّله لساكنٍ محليٍ، يتقمصُ وينحلُّ في الإطار العام للمنطقة، وهكذا صار حال الغزاة والغرباء في فلسطين، صاروا مع مرور الزمنِ فلسطينيين.
في فترة الاحتلال الفارسي الأول (525 ق.م – 332 ق.م)، استطاع ملوك الفرس والماديين، إنشاء معسكرات وحاميات عسكرية، في عددٍ من مدن الشرق القديم ومنها فلسطين، وتُشير الحوليات أنّهم كلّفوا مجموعة، بينهم كهنة من طائفة المجوس وجنودًا (فرسانًا ومشاة)، من ذوي الأصل المادّي والفارسي، إنشاء معبد لإله السماء الفارسي الهندو-أري ميثرا في القدس الفلسطينية القديمة، أُطلِقَ على تلك المجموعة تسمية الصدقيون -وفق الترجمات العربية- بينما هي في الحقيقة الزندوقيون-الزنادقة، لكن تلك المحاولة وُجِهتْ برفض السكان من كافة المناطق، وشمل ذلك الرفض ملوك وسكان الساحل الفلسطيني، كان على رأسهم ملك أسدود (أشدود) وملك السامرة سنبلط الحوروني، وملك بني عمّون في شرق نهر الأردن طوبيا العبد العموني، وملك العرب الأيدوميين جنوب الضفة الغربية لنهر الأردن جشم العربي. هكذا رفضَ مجموع سكان فلسطين ذلك الزمان عربًا وسريانًا وكنعانيين، الثقافة والديانة الغريبة، وواجهوا إمبراطورية الفرس متمسكين بالحق، مما أدى إلى تراجع ملوك الفرس أمام إصرارهم، عن خطوتهم الّتي مسّتْ بمشاعر السكان الدينية بادئ الأمر، واستمرتْ هذه الحال مدة طويلة من الزمن، لكن ما لبثَ الأمرُ أن تعقّد، جاء من بعدهم ملوك آخرين، أكثر قوةً وإصرارًا، استطاعوا فرضَ ذلك بالقوة الباطشة، فرضخَ السكان حينًا وقاوموا حينًا، لكن ذلك الجسم الغريب، ظلَّ مكروهًا من الغالبية العظمى من السكان، وهذا ما يُخبرنا به سفري عزرا ونحميا في الكتاب المقدس.
تقولُ العبرة هنا: أنّ الزمنَ يعملُ لصالح أهل الأرض، طالما ظلّوا مقاومين، لذلك انتصر السكّان والزمان، وفازَ المكان بمعركته كما يفعل دائمًا، أسقطَ الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية، واندمجَ من بقيَ من الغرباء بالسكّان، وتحولوا إلى فلسطينيين. تمّ ذلك رغم محاولاتهم للتميّز بعاداتٍ وتقاليد مُخالفة لأهل البلاد، لكن كي يتعايشوا مع الواقع الجديد، ذابوا في الثقافة الكنعانية، واعتمدوا لغة كنعان.
وكرّت السنين، ليتكرر الأمرُ مع الصليبيين الفرنجة الأوروبيين. ففي القرن الثاني عشر للميلاد، حرّضَ البابا أوربان الثاني -بابا الفاتيكان وقتها- النُبلاء الأوروبيين تحت دوافع دينية واقتصادية استعمارية، أن يُحاربوا المسلمين ويستعيدوا منهم القبر المقدس (قبر المسيح المُخلِّص في فلسطين). فارتكب الصليبيون مجازرًا تشيبُ من هولِها الولدان، تروي بعض القصص أنهم أحرقوا الناس أحياءً، وفي أحيانٍ أخرى ذبحوا السكان وطبخوهم في القدور وأكلوهم، أما في بيت المقدس، فقد وصلتْ دماء الناس جرّاء المذابح أعلى من حوافر الخيل. استمر حكم الصليبيين الجائر مائة وخمسين عامًا، حكموا البلاد بالحديد والنار، لكنهم رحلوا، ومن بقي منهم أصبح فلسطينيًا من أهل البلاد، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
يُلخّص كتاب أمين معلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب» الحقبة الاستعمارية الصليبية في فلسطين وبلاد الشام عمومًا، والغريب أنّ هناك شبه تطابق، بين ما فعلهُ الصهاينة في القرن العشرين والواحد والعشرين، وما فعلهُ الصليبيون من مجازرٍ دموية، في الحملات الصليبية الّتي استمرتْ لأكثر من قرن (1096-1291م). كما أنّ هناك تطابق مدهش بين حال الأمّة العربية في ذلك الوقت، وتفككها وصراعاتها الداخلية على الحكم والعروش، وتحالفاتها السّرية والعلنية ضد بعضها البعض مع الصليبيين، وكذلك أزمة اللاجئين الفلسطينيين في البلاد الشامية، واستنجادهم بإخوتهم من عرب الشام والعراق؛ لمساعدتهم ضدّ المستعمر الغاصب، وحالها اليوم.
ويشاءُ هذا التطابق أن يستكمل أبعادهُ في عبرةٍ أخرى، يورِدها الكاتب الإنجليزي ستيفين رونسيمان (1903-2000)، في كتابه «تاريخ الحروب الصليبية»، وما يلفتُ الانتباه أنّه بعد الحرب الصليبية الأولى، بقيَ شريطًا حدوديًا على شاطئ البحر المتوسط مع المصريين، وهو قطاع غزّة بحدوده الحاليّة، ربما أكثر أو أقل مساحةً. وما يدفعُ لقراءة هذا الكتاب، إشارة الكاتب الصهيوني أوري أفنيري (1923-2018) له في إحدى مقالاته، حيث قام بمقاربةٍ مُروّعة للصهاينة، وهي أن التحصينات الّتي بناها الصهاينة، كانت مُتطابقة تمامًا مع التحصينات الّتي بناها الصليبيون في زمانهم، حيث بقيَ قطاع غزة أيام الصليبين مع المصريين، كما بقيَ مع المصريين في حربِ 1948!
فما كان من أفنيري كما يروي في مقالته، إلّا أن كتبَ رسالة إلى المؤلف الإنجليزي يسألهُ عن هذا التّصادف، وإن كان قد طرأ ببالهِ المقارنة بين الصليبيّن والصهاينة، فأجابه رونسيمان بأنه فكّر في ذلك فعلًا، واتفق أفنيري مع المؤلف باللقاء في بريطانيا. وعندما التقيا، قاما بمقارنة، وصلا فيها إلى أنّ ثيودور هيرتزل يُماثل دور البابا أروبان الثاني أيام الصليبيين، وأنّ غودفري الصليبي هو بن غوريون، وأنّ موشي ديان هو رينولد الصليبي، واعتبر المؤلف أنّ أفنيري بصفتهِ داعيًا للسلام، هو مثل ريموند حاكم طرابلس الصليبي. وكذلك جاءت الحركتان؛ الصليبية والصهيونية من الغرب، وكان خلفهما البحر وأوروبا، وأمامها العرب والمسلمين في الحالتين.
انطلقت فكرة الصهيونية العملية المعاصرة، من قلب الحركة البروتستانتية المسيحية، الّتي تزعّمها مارتن لوثر في القرن السابع عشر، والّتي دعتْ إلى تهجير اليهود إلى فلسطين؛ لأن المسيح لن يعود إلى الأرض -بحسب زعمه- حتى يعود اليهود إلى فلسطين، لأنه يخرج منهم، وهكذا التقتْ أهداف الحركة القومية العلمانية لليهود الخزر الأشكِناز المتهوِّدين في القرن الثامن الميلادي، والمتحدثين باليديشية مع الأفكار الصهيونية المسيحية، وتبنتها بعد ذلك الإمبراطورية البريطانية وعملتْ على تحقيقها، وسمحتْ للصهاينة اليهود المُستعمِرين، أن يفعلوا بالفلسطينيين ما حدث لأجدادهم الكنعانيين -بحسب مرويات التوراة- من قتلٍ وتشريدٍ. هُجِّر الفلسطينيين بفعل المجازر من مدنهم وقراهم، ومُحِيتْ أكثر من 500 قريةً من الوجود، وهامَ هؤلاء اللاجئون على وجوههم، بعد أن تآمر على وطنِهم العالم بقطبيهِ الاشتراكي والرأسمالي، لخدمة الفكرة الصهيونية. أصبح للصهاينة مستعمرة-دولة، سُميت باسم أحد أنبياء العرب الأقدمين؛ مسيحيين ومسلمين، وأصبح الفلسطيني صاحب الأرض سليل الأنبياء والرسل والحضارات القديمة، شريدًا في حدثٍ مُستمر منذ ثلاثة وسبعين عامًا.
ما زال الفلسطيني من الجيل الجديد، الذي ولد بعد النكبة والنكسة، يذكرُ حكايات الجدّات والأمّهات، عن سنوات الضياع وفقدان الأمل، لكنه يتذكر معها صورة جده ووالده، وهما يحملان بندقية، وفي عيونهم تصميمٌ على العودة، وفداء الروح للوطن. كانت كارثة فلسطين.. ما زالت كارثة فلسطين، لكن الفلسطيني لم يعد ذاك الذي يؤخذ على حينِ غفلةٍ من الزمن، أصبح أكثر وعيًا، رغم أنّ الصهيونية بشقّيها؛ المسيحية الإنجيلية واليهودية، تعيشُ عزّها الذهبي من العلو، إلا أنّ إرادة الشعوب هي التي تنتصر دائمًا، والشعبُ الفلسطيني ليس استثناءً رغم عِظم معسكر الأعداء. فرغم كل ما يحصلُ اليوم من تفككٍ وضياعٍ عربي، إلّا أنّ حتمية التاريخ تُخبرنا أنّ المستقبل على هذه الأرض، سيكون للشعب الفلسطيني، لا للصهاينة.