أزحتُه بتذمُّرٍ عن كرسيّ مكتبي، انتزعتُه من خيوط ملابسي، سحقتُه مع السيجارة في المنفضة فجاء ساخراً بحروقه إلى أحلامي. أيها الحزن، لن تربي فيَّ روح الهزيمة، بل سأموت بشرفٍ على أطلالِك.
أعترف بأنني فتاةٌ لا تحبّ عيش الحياة من وراء الستائر، ولعلَّ رغبتي الدائمة في مشاكسة مشاعري والتمرّد عليها تسبَّبت لي بآلامٍ روحيّةٍ شديدة. ما تعلَّمته في الآونة الأخيرة هو إقصاء الجسد أو الآلة التي اعتدت عيش يومي من خلالها. الآلة التي تقود السيارة، تذهب إلى عملي، تنتقي لي قمصاني، تنظر في عيون الذين أحبّهم بدلاً مني، وتسخر من مشاعري اختزالاً للوقت وإنكاراً للضياع. صرت شديدة الحرص على روحي: ألا أنساها في مقابلة عمل، في غرفة انتظارٍ، أو ببساطةٍ أكثر، على سريري بينما تذهب الآلة المشؤومة لتُعدّ كوباً من القهوة.
إنّ لي روحاً صعبةً وانتقائيةً منذ استلامها مهمة استيطان هذا الجسد، فقد قرَّرت أن تحظى بتفكير سيّدةٍ عجوز لا تحفل إلّا بالصمت والإدمان على القهوة والتدخين والكتب والكتابة. أعرف أنَّ روحاً تقليديّةً مثل روحي ستكون نكتةَ الموسم لروّاد عصر الحداثة من أبناء جيلي. لهذا لم يكن سخطي على وباء كورونا عميقاً. فأنا لا أنتمي إلى أماكن أو أشخاص، لكنني اعتدتُ الجلوس تحت الشمس في أوقات فراغي، تُمنح الظلال قيمة تحت الشمس، تطول أو تقصر على نحوٍ مضحك، تُعيد هيكلة الأشياء والأشخاص. هذا يذكّرني بزميلةٍ ألفت التدرُّب على إلقاء النصوص الأدبية فوق مقعدٍ خشبيٍّ تظلِّله شجرةٌ تخترق وريقاتها الشمس. حين جلستُ بجانبها صرخت متذمِّرةٍ وهي تلوِّح بالورقة بين يديها: «في قلب المأساة ثمّة نور …» تعقد حاجبيها متوسِّلة: لا يمكنني اختراع نبرة صوتٍ حزينة. كانت ستُلقي رسالة فان غوخ لأخيه ثيو، لا أعرف إن كانت قد نجحت في ذلك أم لا.
خلال الجائحة روَّضتني الكتب، أنا على صلةٍ عاطفيةٍ بكتاب «اللاطمأنينة» لفرناندو بيسوا. تأسِرني الشخصيات التأمّلية وتجتذبني المعاناة. تعلَّمت من كتاب «موت الواقع – نقد الفكر الجذري» لجان بودريار، ألّا أخاف من النسيان؛ لأنّه نقيض الموت. موت الواقع يعني قتل التفاصيل بالدرجة الأولى، ولعلَّ موت كلّ شيءٍ آخر يندرج تحت هذا التعريف المبسَّط؛ فالإنسان حين يغيب يصير مجموعة من الذكريات الطويلة منتهية الصلاحية التي تختلط فيما بينها، فتفقد معناها. الاختزال هو الموت.
مريضة السرطان التي أعرفها لم تكن تخاف الموت. لا تربطنا صداقةٌ وثيقةٌ لكنَّها استعارت منّي كتباً حين كنا على اتصال، تحبّ القراءة وتقسم الإنسان إلى قسمين: العشوائيّ والمنظَّم. هي تميل إلى أن تكون بينهما. السرطان حوَّلها إلى فتاةٍ عشوائية؛ فالألم يحرمها من رفاهية كنس الغرفة أو نهر عنكبوتٍ عن بناء شبكته في زاوية السرير. حين زرتُها قالت: أنا اليوم فتاة صلعاء. لا حاجة لي إلى صبغ شعري، لا بأس، سأصبغ شعري المستعار بلون بندقيٍّ. ولكنّه مقيت، طويلٌ ومُضحك.
ما لا أنساه في فترة الحجر الصحيّ؟ الموظَّفة التي اعترفت لي في مقابلةٍ لكتابة قصّة صحافية عن أزمة المقاصة: «قبل أن تذهب ابنتي إلى الجامعة أعطيتها كل ما لديّ من مال، عانقتها وقلت: سامحيني …» لا أنسى الطريقة التي لفظت بها كلمة سامحيني تلك. لا أنسى كيف بكت ودثَّرت وجهها بدخان سيجارتها التي سبقتها إلى الانطفاء.
أميل إلى سماع الناس أكثر من التحدث إليهم، أنا وإن كنتُ قادرةً على رصف الكلمات، إلا أنني نادراً ما أعثر على جملةٍ مرتَّبةٍ تصلح كإجابةٍ أو سؤال. لماذا؟ دون أسبابٍ وجيهة، ثمّة شخصياتٌ تنمو بطريقةٍ مغايرةٍ عمّن سواها، لعلّه الاختلاف في مستويات الوعي والتجارب والصفعات.
الوعي الذي يستشعره المرء مع بداية سنوات عمره الأولى لا يزول. ملمسُ وجه أمي، المعنى الأوّل الذي احتلَّته كلمة «قمر» في ذاكرتي، اسمي، الخذلان الأوّل والجرح الذي بَنيتُ عليه بعد نضجي؛ لعجزي عن فهم مغزاه في طفولتي. أخشى ما لا يمكنني دفنه معي. وكثيرةٌ هي الأشياء التي ستعيش بعدي، قد تكون عالماً بأكمله. عالمي مأهولٌ بإفراط، بأشياء وأشخاص وكتب.
يحزّ في نفسي أن تكون بيت لحم بعيدةً عن عالمي الضيِّق الملموس، رغم احتلالها مساحةً محترمةً من الذاكرة، ورغم نبشي المستمرّ في جيوب الأصحاب والمعارف بحثاً عن أخبارها. فمسقط الرأس يظلّ مكاناً عزيزاً يجتذبك إليه بخيوط الشوق والهوية. هل جرَّبت يوماً أن تُمنح الأمان؟ بيت لحم تشكِّل هالةَ أماني، وحين سرت في طرقاتها قبل زمنٍ تماهيتُ مع حجارتها، وجدرانها، وصور الحزن والمقاومة التي رُسمت عليها. لو تُركت لمدّة ساعةٍ واحدةٍ في بيت لحم، كنتُ سأقضيها داخل مكتبة تنوين، المكان الذي فاتني ترك بصمتي فيه وسرقة بصمات كتّابٍ أحبّهم منه.
ما يستوقفني أنّه ثمّة أشياءٌ في هذه الحياة ستظلّ خارج نطاق إرادتنا، وإن زال الوباء لن تزول. المشاعر. مسحة اللامبالاة التي ستؤطِّر على الدوام صورة فتاةٍ لا تضحك، تنظر بعينين حادَّتين إلى نقطةٍ ثابتة، وأقصى ما يمكنها منحه لروحٍ تحبّها هو ابتسامة وداعٍ قصيرة ومتحفِّظة.
لا يمكن للمرء أن يعرف نفسه، ولا أقول إنني أعرف نفسي، ما أنا واثقةٌ منه هو أنَّ هويتي ستظلّ تجدَّد باستمرار؛ فوحدها الهوية الثابتة هوية ميّتة. وهذه الفتاة المُختنقة بشرودها على الحائط، لن تكون يوماً أكثر من التفاتةٍ طفوليةٍ إلى شجرة ساق بامبو وضعتها أمي على الطاولة المقابلة؛ كنوعٍ من الزّينة.